قضايا

الإنسانية والإنسانونية عند المؤرخ الجزائري أحميدة عميراوي

علجية عيشقبل رحيله ترك الدكتور أحميدة عميراوي تراثا فكريا لغويا وتاريخيا  يكون مرجعا للباحثين وهو الذي أرخ للشخصية  العربية عامة والشخصية الجزائريىة خاصة، فقد عرف عميراوي برجل التاريخ، عندما درّس بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية وكانت له مواقف جريئة في كل القضايا العربية والإسلامية، وكل من عايشه عرفه بالرجل الهادئ  المتزن  الحامل رسالة المثقف الملتزم  فكان محبوبا لدى الجميع وفي كل الأوساط التي كانت تتوق لحضور  محاضراته أو مداخلاته في الملتقيات، من قال أن أسمر البشرة يرحل وهو الذي أعطى لأعداء هذه الأمة درسا في الاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية، فمهما قيل في هذا الرجل فلا أحد يمكنه أن يوفيه حقه في التواضع وحسن التواصل مع الآخر، هذا هو الرجل الذي أصبح نسيا منسيا عند النخبة الجزائرية

 لم يترك الدكتور أحميدة عميراوي كبيرة أو صغيرة إلا وأحصاها وناقشها من مختلف الزوايا الفكرية، الإنسانية والإجتماعية والفلسفية وحتى الدينية، وأبدى موقفه منها، وكان الفقيد يركز في بحوثه ودراساته على الظاهرة استعمارية في العالم العربي المعاصر وقضايا أخرى ذات صلة، وكان يقول أن الإستعمار هو حروب صليبية مسيحية ضد الإسلام والمسلمين،  وهو يعني  من الناحية التاريخية الطرف الذي لا يعترف بالدولة القائمة قبل احتلالها، بل يعتبر نفسه  قوة ظاهرة حلت محل قوّة ضعيفة، وقد كشف حقيقة  الإستعمار عندما قال أن هذا الإستعمار لا يعترف بالقوانين الدولية ولا يعترف بالمنطق وبالحقوق الإنسانية، والإستعمار من وجهة نظره كان فكرة إيديولوجية قبل أن يكون حدثا سياسيا، لقد كان الدكتور أحميدة عميراوي إنسانا وهو يتحاور مع غير المسلم  والمختلف في مذهبه، ولذا نجد في معظم الدراسات التي أجراها يتحدث فيها عن الإنسانية، موليا اهتماما كبيرا للمفاهيم والمصطلحات سواء الأصلية منها والدخيلة على اللغة العربية، لاسيما وهو الذي له إرث كبيرة في معاني اللغة العربية ومفرداتها، وهذا  لتحديد الفكرة وغرسها في ذهن القارئ.

فقد وقفنا على إحدى دراساته التي اجراها حول العالم العربي الإسلامي  حيث قال أنه يتميز بمستويين، الأول: إنساني  humanitaire  والثاني:  إنسانوي   humanisme، أي النزعة الإنسانية وقال أن المفهوم الأول كون حول الطبيعة الإنسانية البشرية القائمة على التعامل الخير بين كل النّاس وهناك مفاهيم أخرى تحدث عنها الفلاسفة المحدثون وتتعلق بخصائص الجنس البشري وآخرون ربطوها بالإنسان الكامل وهي صفة يختص بها الأنبياء والرسل، أما المفهوم الثاني فهو يعني الحركة الفكرية التي ظهرت في أوروبا منذ القرن السادس عشر، فقد وضعت هذه الحركة الفكرية قيمة الإنسان فوق كل القيم، مشيرا أن هذه الحركة تزامنت مع عصر النهضة  عندما جاء نيتشه وأعلن مقاطعته الفكر الإنساني اليهودي المسيحي حين أعلن عن موت "الله" فيكون قد فتح بابا جديدا لنزعة إنسانوية إلحادية داعية إلى تطبيق مبدأ أنسنة الإنسانية humaniser l’humanite وقد تزعمت تيارات فكرية  سان سيمونية، ماسونية وكاثوليكية هذا الخطاب الإنساني الذي توافق مع إنسانية الأمير عبد القادر الجزائرية، لأن السانسيمونية (نسبة إلى سان سيمون المولود بباريس والمعتنق مبادئ الثورة الفرنسية) مثلا آمنت بوحدة المعرفة الإنسانية و بمستقبل العلم كوحدة قياس في هذا العالم ودعت إلى حرية المعتقد من دون إكراه بهدف إحداث تقارب وتوحيد بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، وكذلك الماسونية التي كان هدفها الظاهري عالمية المعتقد لخدمة الإنسان بالخلق والإبداع وبالإخاء والمساواة، ولعل هذا ما تقوم به الآن الأنظمة العربية بتشجيع المواهب الإبداعية وفتح لها الباب الواسع نحو التعبير عن أفكارها بحرية، يشير أحميدة عميراوي إلأى الأرقام التي سجلتها فل الماسونية، حيث بلغت في فترة من الفترات (ربما إلى عهد الأمير عبد القادر)  412 محفلا loges  ضمت ما بين 32 إلى 24 ألف منخرط بما فيها الجزائر، وقال ان عبارة  الأمير عبد القادر " الحقوق الإنسانية" استعملت لأول مرة في التراث الإنساني قبل مطالب الوثيقة المتعلقة باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.

 فقد عرف الأمير عبد القادر باتصاله برجال الدين المسيحيين وكان بينه وبين القس سيشي suchet على تبادل إطلاق سراح مائة (100) أسيرا يوم 18 ماي 1841 ولقاء آخر مع القس  ديبش dupuch في الجزائر وفي فرنسا، كان هذا الأسقف يكاتب الأمير عبد القادر ويتودد إليه،÷ لأن الأمير ناصر المسيحيين في دمشق وحماهم عام 1860 وهناك محطات أخرى ذكرها الدكتور أحميد عميراوي في كتابه أوراق تاريخية، ليؤكد أن للأمير عبد القادر تراثا هاما يشرف الجزائريين وغير الجزائريين استقاه من مصادر الشريعة الإسلامية والثقافة العربية  والبعد الروحي الصوفي ومن واقعه الجزائري ومن محيطه الدولي وهو في هذا الباب يعدُّ صاحب خطاب تراثي إسلامي سلفي وصاحب خطاب نهضوي ساهم بشكل كبير في إثراء التراث العربي الإسلامي والتراث الإنساني العالمي، ولا شك أن الدكتور أحميدة عميراوي أراد ومن باب التلميح أن يرفع التهمة الباطلة التي ألصقت بالأمير عبد القادر الجزائري بأنه ماسوني.

***

علجية عيش

في المثقف اليوم