قضايا

المواطنة طريق بناء الدولة المدنية

محمد محفوظفي معنى الوحدة والاختلاف

لعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن مساحة الاختلاف بين البشر، هي جزء من الناموس وقانون الوجود الإنساني. إذ يقول تبارك وتعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (سورة هود، الآية 118 – 119).

فالناموس الرباني اقتضى الاختلاف والتنوع بين البشر في مستوى التفكير وطريقته، وتنوع في التجربة وطبيعة الملاحظة، مما يفرض الاختلاف في النظر إلى الأشياء وفي النتائج التي ينتهي إليها الاختلاف.

من هنا فإن مفهوم الوحدة، لا يمكن اكتشافه إلا من خلال منظور الاختلاف. وذلك لأن الاختلاف جزء أصيل من منظومة الوعي الذاتي، كما انه (الاختلاف) هو الذي يثري مضمون الوحدة ويمده بأسباب الحيوية والفعالية.

فالاختلاف وفق هذا المنظور ضرورة لما له من وظيفة في بلورة معنى الوحدة وهويته الحضارية والإنسانية.

ويقول الشاعر:

إن القداح إذا اجتمعن فرامها

بالكسر ذو جفن وبطش أيد

عزت فلم تكسر وإن هي بددت

فالكسر والتوهين للمتبدد

فبين الاختلاف والوحدة مسافات، لا يمكن اجتيازها إلا بالتسامح والحرية والاعتراف بقانون التعدد ومبدأ التنوع.

لذلك فإن الاختلاف المفضي إلى الوحدة الصلبة، هو ذلك الاختلاف الذي تسنده قيم التعدد والحرية والتسامح وحقوق الإنسان. أما الاختلاف الذي يجافي هذه القيم، فإنه يفضي إلى المزيد من التشرذم والتشتت والتجزئة.

ولعل من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها العرب في العصر الحديث، رؤيتهم المنمطة لمفهوم الوحدة. فالرؤية السائدة عن هذا المفهوم، أنه يعني إلغاء حالات الاختلاف والتعدد الطبيعية والتاريخية والثقافية.

وبفعل هذا المنظور النمطي لمفهوم الوحدة، مارست السلطات التي رفعت شعار الوحدة كل ألوان القمع والإرهاب والتنكيل بحق كل التعبيرات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تختلف رؤيتها عن هذه الرؤية أو تتباين في أصولها العرقية أو الإثنية. ولقد دفع العرب من جراء ذلك الكثير من التضحيات والخسائر والجهود أدناها، إن مفهوم الوحدة لم يعد يشكل في هذه الحقبة من الزمن البريق أو الشعار الذي يستقطب جميع الفئات والشرائح.

فالاختلافات الفكرية والثقافية والسياسية، لا تدار بعقلية الإقصاء والنفي، لأنها لا تنهي الاختلافات، وإنما تشحنها بدلالات ورموز خطيرة على مستوى العلاقات والوجود الاجتماعي. وحالات الإجماع والوحدة في المجتمعات الإنسانية، لا تنجز إلا على قاعدة تنمية قيم التسامح والتعاون والتعدد والإدارة الواعية والحضارية للاختلافات العقدية الفكرية على مستوى الواقع والتاريخ، وليس فقط على مستوى النظر والنص.

وإن أخطر الهويات على حد تعبير (دار يوش شيغان) على الإطلاق هي تلك التي لا تحقق إلا على أنقاض هويات الآخرين. ينبغي أن تكون هويتي متصالحة، متفقة أو متوافقة مع الآخرين، لا أن ترفضها وتهددها بالإلغاء. فالممارسات العدوانية والانفعالية، لا تلغي الاختلافات والتمايزات، وإنما تدخلها في علاقة صراعية، عنيفة، بدل أن تكون العلاقة تواصلية وتفاعلية. ولا يمكن فهم الآخر، إلا بتقدير وتحديد مساحة الاختلاف معه، وكيف ستتم إدارة هذا الاختلاف.

فالاختلاف في حدوده الطبيعية والإنسانية، ليس أمراً سيئاً. الأمر السيئ والخطير في هذه المسألة هو عدم الاعتراف بشرعية الاختلاف وحق صاحبه في أن يكون مختلفاً.

فالتوحيد القسري للناس، يزيدهم اختلافاً وتشتتاً وضياعاً. وذلك لأن محاولة إنهاء الاختلاف بالقمع والقهر يزيدها اشتعالاً. كما أن هذا المنطق والخيار، يخالف مخالفة صريحة ناموس الوجود الإنساني، القائم على التنوع والاختلاف والتعدد.

فالتنوع مكوِّن للوحدة، ولا وحدة صلبة في أي مستوى من المستويات، من دون إفساح المجال لكل التعبيرات للمشاركة في إثراء هذا المفهوم ومده بمضامين أكثر فعالية وقدرة على هضم كل الأطياف والقوى.

وإن أي تغييب للاختلافات الطبيعية في المجتمع، فإنه يفضي إلى غياب الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي. وذلك لأن مفاعيل الوحدة الحقيقية متوفرة وموجودة في فضاء الاختلاف الثقافي والسياسي المنضبط بضوابط الأخلاق وتطلعات الإجماع والوحدة.

لذلك كله تلح الحاجة اليوم، إلى إحياء وتأسيس المؤسسات المجتمعية المتحررة من هيمنة المفهوم القسري للوحدة، والانطلاق في بناء فعل مؤسساتي، يستند في كل أموره على رعاية الاختلاف ومحاربة كل نزعات الاستفراد والتغول التي لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور والتشرذم. وفي نطاق هذه المؤسسات يتم إطلاق حوار وطني واجتماعي يستوعب كل القوى والتعبيرات والوجودات، قوامه حرية الرأي والتعبير واحترام الآخر وجوداً ورأياً، وتفعيل مستويات المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية.

وهذا الحوار الوطني الشامل بدوره، ينتج حقائق مجتمعية تكرس مفهوم الوحدة الحقيقية، وتبلور منظور الاختلاف والحوار المفضيين إلى الاستقرار السياسي والمجتمعي. فالوحدة لا تساوي التطابق التام، كما أن الاختلاف لا يعني التشرذم والتشتت والتجزئة، فنزعات الوحدة القسرية والقهرية، لم تنتج إلا المزيد من التشرذم والضياع، كما أن نزعة ترذيل الاختلاف بالمطلق، لم تؤد إلا إلى المزيد من التوترات والنزعات والصراعات.

فالاختلاف ليس انقطاعاً عن الوحدة، كما أن الوحدة ليست توقفاً عن الاختلاف والتمايز والتنوع.

من هنا ندرك أهمية حضور قيمة العدل في الاختلافات الإنسانية. حيث إن مجرد الاختلاف، ينبغي أن لا يفضي إلى الظلم والخروج عن مبادئ وقواعد العدالة. يقول تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (سورة المائدة، الآية 8).

فالاختلافات الفكرية والاجتماعية والسياسية، ينبغي ألا تكون سبباً للقطيعة مع قيم العدالة والوحدة، بل وسيلة من وسائل الالتزام بهذه القيم، وذلك من أجل تحديد مجالات الاختلاف وتنمية الجوامع المشتركة، لأنها جزء من عملية العدالة المطلوبة على كل حال..

لذلك نجد أن الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب حينما سمع بعض أهل العراق في معركة صفين يسب أهل الشام قد قال لهم: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به..

ومن الضروري أن ندرك، أن فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، بل علينا أن نجرب الواحدة بعد الألف، وأعتقد أن التجربة يمكن أن تطل بنا على نتائج جديدة وآفاق جديدة.

وإن واقعنا الإسلامي المعاصر، قد ورث خلال الحقب التاريخية المديدة، العديد من المشاكل والعقد والرواسب التمزيقية، وإن الإنصات إلى هذه الرواسب يكلفنا الكثير على مستوى حاضرنا ومستقبلنا.

لذلك فإن المطلوب هو: إطلاق عملية حوارية مستديمة، لا تقف حائرة أمام عناوين التمزق، وإنما تسعى بعقل منفتح وحكمة ونفس طويل إلى تفكيك هذه العناوين، ومنع تأثيرها السلبي على راهننا.

وإن العمل على منح تسرب عقدنا وأزماتنا التاريخية إلى واقعنا المعاصر، بحاجة منا جميعاً إلى الوعي العميق بمبدأ الوحدة والتعاون على البر والتقوى وتجاوز كل الإحن النفسية التي تحول دون تنمية المشتركات والاستجابة الفعّالة إلى التحديات، {ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون} (سورة البقرة، الآية 134).

فالوحدة لا تعني بأي شكل من الأشكال، مصادرة الاختلافات وحالات التنوع والتعدد الموجودة في المحيط الاجتماعي والسياسي للعرب والمسلمين. وإنما تعني تنمية المشتركات والالتزام السياسي والعملي بالقضايا المصيرية للأمة.

وتفعيل اللقاء حول القضايا المشتركة، هو الكفيل بتطوير مستوى الوحدة في العالمين العربي والإسلامي. فالوحدة الحقيقية والصلبة، لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الاختلاف المشروع، لأنه يغني مفهوم الوحدة ويمده بأسباب الحيوية والفعالية، ويؤسس لوقائع وحقائق جديدة تحول دون تقهقر المفهوم الوحدوي على مستوى الواقع.

فالاختلافات المعرفية والفقهية والاجتماعية والسياسية، ينبغي ألا تدفعنا إلى القطيعة واصطناع الحواجز التي تحول دون التواصل والتعاون والحوار.

وإن الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين، بحاجة دائماً إلى منهجية حضارية في التعامل مع الاختلافات والتنوعات، حتى يؤتي هذا التنوع ثماره على مستوى التعاون والتعاضد والوحدة.. والمنهجية الأخلاقية والحضارية الناظمة والضابطة للاختلافات الداخلية، قوامها الحوار والتسامح وتنمية المشتركات وحسن الظن والاحترام المتبادل ومساواة الآخر بالذات.

هذه المنهجية هي التي تطور مساحات التعاون وحقائق الوحدة في الواقع الخارجي..

وخلاصة القول: إن الوحدة لا تفرض فرضاً، ولا تنجز بقرار أو رغبة، وإنما باكتشاف مساحات التلاقي والعمل على تطويرها، ودمج توحيد أنظمة المصالح الاقتصادية والسياسية.

الإبداع في المختلف

 من الطبيعي القول : أن السؤال والنقد يؤسسان لعملية انفتاح وتواصل على المستويين الثقافي والإنساني، وأي تجاوز لهذه الحقيقة فإنه يفضي إلى العديد من المآزق وعلى المستويات كافة.

وبفعل هذا السلوك المنغلق والانعزالي والبعيد عـــن الــحس الحضاري والديني السليم، يحدث الانفصال الشعوري والنفسي، وتتشكل كيانات اجتماعية مغلقة، وممانعة لأي صيغة للوحدة والاندماج.

وقد لا نبالغ إذا قلنا أن العديد من الحروب الداخلية والأهلية التي شهدتها بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وبصرف النظر عن مبرراتها التاريخية والسياسية، هي من جراء تراكم العقلية المتعصبة، التي لا ترى إلا لونا واحدا وفكرا واحدا وحقيقة واحدة.

إن هذه العقلية بمتوالياتها النفسية والاجتماعية والسياسية، هي جذر  العديد من الحروب الداخلية، إذ أنها بمثابة الحاضن لكل الأسباب والعوامل، التي تعمق الإحن والأحقاد، وتشعل الفتن والنزاعات، وتغلّب جوانب العنف والتصعيد، على جوانب التهدئة والحلول السلمية.

فالعقلية الدوغمائية، تسعى إلى تأكيد خصوصياتها، حتى لو كان هذا التأكيد على حساب مصالح الأمة والوطن.

وبدل أن تمارس الأفكار والقناعات الثقافية وظيفة تربوية وروحية ومهذبة للأخلاق العامة، ومحفزة على الالتزام بالقيم العامة التي تقوي أواصر الوحدة الاجتماعية.

تتحول هذه الأفكار إلى مادة  للتأطير الضيق والتنميط والانغلاق، وتبرز الموروثات الاجتماعية والتاريخية في صورها السلبية والمتخلفة، و تبرز عوامل  الانعزال واستخدام العنف (عنف القول والفعل) ضد الآخرين.

بينما من يتأمل جوهر الأفكار الإنسانية، يجدها تتجه إلى تربية الإنسان على الالتزام بالقيم الإنسانية العامة التي لا تشكل عامل نفرة بين الاتجاهات المختلفة، بل عامل وحدة وائتلاف، وتقوي هذه الأفكار آفاق السلم المجتمعي، وتعزيز  الضمير الإنساني والرقابة الذاتية والاندفاع الطوعي نحو ممارسة الصلاح والخير على مختلف المستويات.

وفي هذا الإطار، لا بد من القول أن العقلية الدوغمائية هي التي تفرغ الدين والقيم العليا من استهدافاتها النبيلة تحت دواع وحجج عصبوية مقيتة.

والمشكلة الحقيقية التي تواجه العالمين العربي والإسلامي اليوم، ليست في تربص أعداء الأمة بنا وسعيهم الحثيث لنهب ثرواتنا والقضاء على مقومات وجودنا الذاتي المستقل. بل في تلك العقلية التي لا ترى إلا قناعاتها،  وتمارس في سبيل ذلك عمليات الإقصاء والنفي والقتل إلى كل الثقافات والقناعات الأخرى.

إن هذه العقلية تلتقي موضوعياً مع أعداء الأمة التاريخيين، لأنها هي التي تهيئ الظروف في المحصلة النهائية لنجاح مشروعات ومخططات الأعداء، وذلك لأنها تغذي الأحقاد الداخلية، وتمنع الائتلاف وأشكال الوحدة المختلفة، وتحــارب بلا هوادة الآخرين الذين لا يتفقون أو يشتركون معها في القناعات والأفكار، فتعم الفتن وتزداد العصبيات، وتتراجع قيم العقل والحضارة.

وهذه هي الأرض الخصبة لنجاح أي عدو خارجي في نهب ثروات الأمة والانتقاص من استقلالها وحيويتها الحضارية.

من هنا نرى من الأهمية بمكان، أن يعتني الفكر العربي والإسلامي، بمسائل التنوع والتعدد وقيم التسامح والعدل وآليات تحقيقهما، ويخوض بشكل جاد في أسئلة العصر وتحديات المعاصرة.

فلا يكفي الرجوع إلى فكر المقارنات والمقاربات الذي صاغه مفكــرو القرن الماضي، إذ أن هذه الصياغات كانت محكومة بعقلية التمامية والدفاع عن الذات، وإن حقائق الاجتماع البشري قد وجدت من عهود تاريخية قديمة، وإن البشر لا يصنعون الحقيقة، وأن دورهم ووظيفتهم هي فقط في أن يعثروا عليها.

لا شك أن مواجهة أسئلة العصر وفق هذا المـــنظور وهذه العقليـــة، يـــزيدنا اغترابا، ويعمق في نفوسنا عقداً ومركبات نقص عديدة،  بعضها صريح والبعض الآخر يختفي تحت (يافطات) وعناوين أخرى.

ومن المؤكد أن حقل الاجتهاد الفقهي والمعرفي، هو الذي يفتح إلينا العديد من الأبواب والآفاق، حتى يتجه فكرنا المعاصر إلى تأصيل أسئلة العصر في واقعنا الاجتماعي والحضاري.

ولا مجال في هذا الإطار لإنكار واقع التنوع الفكري والثقافي والمعرفي، فهذا التنوع هو من الحقائق البديهية في الاجتماع الإنساني.

ولعل من الخطأ الجسيم النظر إلى هذا التنوع وحق الاختلاف باعتباره عقبة تحول دون إنجاز الغايات النبيلة، ولا ريب أن العمل على ترذيل الاختلاف ونبذه المطلق، لا ينهي الأسباب الطبيعية للاختلاف، وإنما يغيّر مسارها ويجعلها سببا من أسباب النزاع والصراع، بدل أن يكون وسيلة من وسائل الإثراء الفكري والمعرفي.

فلا يمكن لقوة الغلبة والقسر والقهر من نفي الحـــقوق الـــطبيعية في حيــاة الإنسان، ويأتي في مقدمتها حق الاختلاف.

ومن الطبيعي القول، أن القهر والقسر والإلغاء أشد خطراً وضررا على الأمم والأوطان من ممارسة حق الاختلاف والاعتراف بالتنوع المعرفي والثقافي، واعتباره الوليد الطبيعي لقيمة الاجتهاد وسبيل تعدد الخيارات الفكرية والإستراتيجية في مسيرة الأمة.

لهذا نجد أن القرآن الحكيم يرصد حقائق الاختلاف في الكون والحياة والإنسان ويقول تعالى [ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم] (سورة هود، الآية 118 – 119).  والمذموم قرآنيا هو الاقتتال والتنابذ والنفي المتبادل والبغي، لأنها جميعا خروج من طبيعة العلاقات الإنسانية المنشودة.

وثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق، وهي أن الاختلاف في حدوده الطبيعية، يثري علاقة التواصل والتفاعل الإنساني، كما أن الاقتتال والتنابذ قطيعة مع الإنسان الآخر.

فالاختلاف حوار وتواصل وتفاعل، والقطيعة والنفي طغيان واستئثار ونفي لقيم التواصل الإنساني.

وفي الإطار التــاريخي للفضاء العربي والإسلامي، تشكلت استجابات عربية امتثالية، واندرجت  في سياق علاقات ولاء وتبعية فكرية ومعرفية لغيرها،  بحيث أضحت هذه الاستجابة، وكأنها صدى متواصل للصوت الغربي.

ولاشك أنه حينما تذعن ثقافة لأخرى، فإن آفاق الحرية والإبداع والراهنية تتقلص وتصل إلى حدودها الدنيا، لأنها ثــقافة تتجه صوب المطابقة المميتة، دون أن تتحرر من أسر وهيمنة الثقافة الغالبة.

وكما يبدو أن الثقافة المبدعة هي التي تتمكن من بلورة أفق الاختلاف الثقافي والمعرفي، دون أن تقطع أواصر التواصل والتفاعل الخلاق مع الثقافات الأخرى، وليس المقصود من الاختلاف والمغايرة الثقافية هنا هو اعتبار الثقافات الأخرى ذات مكونات هامشية، أو لا ترقى إلى مستوى التوجيه الإنساني، وإنما المقصود هو أن الاختلاف في هذه الدائرة هـو شرط التفاعل الخلاق والاستيعاب الواعي لمنجزات الفكر الإنساني المعاصر.  كما أن تنمية عوامل المغايرة والاختلاف الثقافي، هو الذي يؤسس لواقع أو ظروف تغذي الذات الثقافية وتثريها بأبعاد إنسانية وموضوعية عديدة.

وبداية النهاية لأية ثقافة، هي حينما تتجه إلى اختزال وقائعها ومفاهيمها في البحث عن الأشكال المتوافقة أو المنطبقة مع مفاهيم وأشكال الثقافات الأخرى دون الالتفات إلى الشروط التاريخية والاجتماعية لكلتا الثقافتين.

أفق المغايرة والاختلاف من الآفاق المهمة لأي ثقافة، لأنه يوجهها إلى أسئلتها الخاصة، وتحدياتها الملحة ويدفع باتجاه الحوارات النقدية الواعية مع الثقافات والمكونات المعرفية الأخرى.. (وإن اختلافاً مشروطا بالوعي، يمكن أن يسهم بتغذية الثقافة العربية الحديثة بوجهة نظر جدية، وبمنظور يقوم على التواصل مع الثقافات الأخرى، من خلال إيجاد نسق يعين الثقافة العربية على فهم ذاتها وغيرها، بما يدفعها من واقع المطابقة إلى أفق الاختلاف، وإذا كان واقع المطابقة يفضح تبعية الثقافة العربية وولائيتها لثقافة الآخر، أكثر من انصرافها إلى واقعها التاريخي فإن أرضية الاختلاف غير ممهدة وبحاجة إلى توافر أسباب كثيرة ليصبح الاختلاف أمرا مشروعاً وقائما بالفعل، ومن ذلك نقد أنظمة التمركز الداخلية في الثقافة نفسها، بما فيها المفاهيم الخاصة بالمجتمع والسلطة والمعرفة والدين والفكر والاقتصاد وغيرها، وبما أن الاختلاف ضرورة تتصل بدائرة التكون الثقافي العربي الحديث فهو مشروط بمحددات تنظم أهدافه وغاياته وفي مقدمة ذلك إعادة نظر نقدية للعلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة الغربية من جهة ثانية، وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع فيها تلك المؤثرات ولا تتعارض ولا تذوب مكوناتها مع مكونات غيرها، ولا تتداخل رؤى هذه برؤى تلك والأهم من ذلك أن تعلن عن أسئلتها الخاصة التي تترتب مقدماتها وبراهينها في ضوء حاجات الإنسان والواقع التاريخي وليس استجابة لمقترحات خاصة بسياقات وأنساق ثقافية آتية من الماضي أو من الثقافات الأخرى) (راجع الدكتور عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، إشكالية التكون والتمركز حول الذات، ص 6).

فوهم المطابقة مميت للثقافة،  فلا حياة ثقافية إلا بأفق المغايرة والاختلاف، وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتداعياته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولا تستطيع أن تبلور أو تنشأ ثقافة ذاتية أصيلة.

فتنمية أفق الاختلاف الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معا. فلا أصالة إلا بجوهر الاختلاف الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي، إلا بالتحرر من وهم المطابقة والتماهي بالآخر فكراً وسلوكاً.

فالتعصب والانغلاق، لا يصنع أصالة، بل يصنع واقعا ثقافياً تمور فيه التناقضات بكل أشكالها وأطيافها، وتقوّض النسق أو الأنساق الثقافية المحملة بالمضامين الحضارية الأصيلة، كما أن الحيرة والضياع والغبش في الرؤية، لا يصنعان معاصرة بل يفضيان إلى المزيد من العزلة عن الآخر أو الذوبان فيه.

ويبقى أفق الاختلاف الثقافي هو الذي يعمق الرؤى الحضارية الذاتية، ويؤسس لقيم الحوار مع الآخر والتفاعل معه، وبهذا على حد تعبير الدكتور عبد الله إبراهيم يتم تجاوز السجال إلى الحوار ونقد الذات الامتثالية، والدعوة إلى ذات هي مجموع ذوات كفؤوة وقادرة على إنتاج الفعل، والتفاعل مع الآخر على نفس المستوى مع المقدرة والإمكانية، لهذا كله ينبغي التأكيد على ضرورة النقاط التالية :

1) ضرورة تدشين الأرضية الصالحة لبلورة أفق المغايرة الثقافية والاختلاف المعرفي، لأنه  أحد العوامـل الضرورية لتطوير واقع الثقافة العربية والإسلامية، واستجابتها الفعلية لتحديات الراهن الحضاري والثقافي.

2) تطوير المنظور النقدي والحواري في فضاء الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، لأن الاختلافات الثقافية لا تتحول إلى مصدر ثروة حقيقية للإنسان والثقافة إلا بوعي نقدي يشتت التافه من الأمور، ويثري المضامين الإنسانية والحضارية في الثقافات.  وهذا بطبيعة الحال،لا يتأتى إلا بعقلية حوارية تبحث عن المشترك فتثريه وتنضجه، دون أن تتغافل عن نقاط الافتراق والاختلاف لمناقشتها ومساءلتها، لا لإنهائها من الوجود والحياة الثقافية والمعرفية، وإنما للوصول إلى صيغة عملية لإدارة نقاط الاختلاف والمغايرة. 

فالحوار ليس هدفه النهائي القضاء على نقاط الاختلاف، بل هو وسيلة حضارية لإدارته بعقلية متقدمة.

فالنقد هو الممارسة الضرورية في الاختلافات الثقافية والمعرفية،كما أن الحوار هو الوسيلة الفعالة الذي يمنع إصدار أحكام قيمة على الظواهر الثقافية ذات الشروط العامة والتاريخية.

وبهذا تكون العلاقات الداخلية بين مدارس الثقافة العربية والإسلامية، ذات أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، فتطرد عوامل الحقد والضغينة، وأسباب الاحتراب الداخلي.

قيم في المواطنة

لعلنا لا نأتي بجديد، حين القول أن الدين الإسلامي هو دين الحرية واحترام العقل ومنجزاته. ووجود وقائع وحقائق في تجربة وحياة المسلمين مضادة أو مناقضة لهذه البديهية، لا يعني خلو الإسلام من تلك القيم والمبادئ التي تعلي من شأن الحوار والحرية والتسامح ونبذ التقليد الأعمى بكل صنوفه وأشكاله.

ووجود مسافة بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي، على هذا الصعيد، يحملنا جميعاً مسؤولية العمل على توحيد الواقع مع المثال، وتجاوز كل ما يشين إلى قيم الحرية والعدالة..

فآيات الذكر الحكيم تصدح بضرورة قول الحق والحقيقة وعدم كتمانهما، والعمل على تنمية المشتركات بين مختلف التعبيرات والأطياف الدينية والإنسانية.

إذ يقول تبارك وتعالى {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة 15 – 16).

فالدعوة إلى التبيين وقول الحقيقة، هي التي تؤسس لفضاء اجتماعي حر يتعاطى مع كل الأفكار ولا يتوجس خيفة من الآراء بل يرحب بها ويدافع عن شروطها الاجتماعية والثقافية والسياسية..

ولكي لا تكون الآراء والأفكار بلا أفق، نجد أن القرآن الكريم، يؤكد على ضرورة بناء (كلمة سواء) وتوافقات عميقة بين مختلف الأطراف على قاعدة القيم المشتركة والمصالح المتبادلة. إذ يقول عز من قائل {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.. (آل عمران 64).

فالمطلوب دائماً هو حضور مفردات اللقاء والتوافق، حتى تتعمق أسسهما في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتزول عناصر السلب أو تضبط من خلال الحوار الدائم والمفتوح، والمستند على عناصر اللقاء والتوافق.

فالإسلام ومن خلال هذه الآية القرآنية الشريفة، لا يدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية مع المختلف أو المغاير، وإنما إلى الحوار الذي يعلي من شأن المشتركات والجوامع، ويتطلع إلى صياغة مشروع عمل بين المختلفين في النقاط والمفردات التي تشكل محل إجماع وتوافق بين الجميع..

«وهكذا يعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين، بل كل ما هناك أنه يحاول أن يؤكد لهم بأن إعراضهم لا يغير من الموقف شيئاً لأنه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية، مما يجعل من استمراره نقطة تحد حاسمة.

وفي ضوء ما قلناه آنفاً، فليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقاً من خصوصية أهل الكتاب بل هو مستمد من المنهج العام للأسلوب الإسلامي، الذي يؤكد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة، ولا يؤكد على نقاط الخلاف إلا في نهاية المطاف.

وعلى هذا الأساس فلابد للدعاة إلى الله في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربطك بالآخرين وتربطهم بك، لتقربهم إليك، ولتوحي لهم بأن هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية، فإن ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات وتجميد الكثير من الحساسيات، وتقريب كثير من الأفكار، حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق كانت الطريق ممهدة أمام الطرفين للوصول إليهما كمقدمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة» (السيد محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، المجلد الثاني ص26).

فالحوار والتواصل بين المختلفين ليس حالة طارئة، أو تكتيكاً سياسياً، وإنما هو من القواعد الثابتة التي يرسي دعائمها الدين الإسلامي للتعامل بين المختلفين والمغايرين.. فالمسلم لا يتحرك في دعوته في أجواء الإرهاب والقتل والتدمير، بل في أجواء الحوار والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن.

وإن الذي يتطلع إلى إنجاز مشروعه الفكري والدعوي بالقتل والتفجيرات والاغتيالات. فإنه يناقض بذلك نصوص الشريعة الإسلامية، ويحارب قيمها ومبادئها، ويدفع الناس بوعي أو بدون وعي للانفضاض من حوله..

فالإسلام لا يدعو إلى ممارسة القسر والكراهية في الدعوة إليه، بل على العكس من ذلك تماماً.. إذ يحدد مهمة وظيفة الرسل الأساسية في التذكير والموعظة إذ يقول تبارك وتعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.. (النحل الآية 125).

ويقول تعالى {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 21 - 22) ويقول عز من قائل {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.. (التوبة 128) ف «القوة - مهما كانت درجتها - لن تنسجم مع طبيعة الرسالة الإسلامية، ما دامت القوة تعني محاصرة العقل وفرض الفكرة عليه تحت تأثير الألم أو الخوف، وحتى عندما يحني رأسه أمامها فإنه يتظاهر بالقبول ليخرج من الكابوس، ويبقى بينه وبين الاعتقاد مرتع غزال» (محسن عطوي، زاد المبلغين).

فالعنف ليس وسيلة من وسائل الدعوة، بل هو من وسائل التنفير والتدمير، وأي طرف يتوسل بهذه الوسيلة، فإنه يهدد الاستقرار السياسي والسلم الأهلي.. ولو تأملنا في سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، سنجد أن الدعوة النبوية قامت على المحبة والأخلاق الفاضلة والتحلي بأجمل الصفات نفساً وسلوكاً.. فقد جاء في الحديث الشريف » سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكر الله تعالى في كل حال».

وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم.. قلنا يا رسول الله ومن هم؟ قال: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، ويبذلونه إذا سألوه، ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم هم السابقون إلى ظل العرش.. وقال (صلى الله عليه وسلم) : الرفق رأس الحكمة، اللهم من ولي شيئاً من أمور أمتي فرفق بهم فأرفق به، ومن شق عليهم فأشقق عليه».

فقتل الأبرياء ليس طريقاً إلى سيادة الشريعة، وممارسة الإرهاب بكل صوره ليس سبيلا لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، لذلك فإن الكثير من الأعمال الإجرامية التي تحدث اليوم باسم الإسلام والجهاد، هي في ذاتها وتأثيراتها لا تخدم الإسلام والمسلمين، بل تدخلهم في الكثير من التحديات، وتهدد الكثير من المكاسب على المستويات كافة.

فالعنف الديني والإرهاب الذي شاع في العديد من الدول والبلدان، بحاجة إلى مواجهة شاملة، حتى يتم إنهاء الجذور الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تقف خلف هذه الظاهرة الخطيرة وتغذيها باستمرار..

وفي إطار مواجهة آفة العنف والإرهاب، نحن بحاجة إلى التأكيد على النقاط التالية:

1- ضرورة الوقوف بحزم ضد كل أنواع التحريض التي تمارس ضد المختلف والمغاير، لأن استمرار حالات التحريض، هي التي تخلق البيئة الاجتماعية الحاضنة لممارسات العنف وأعمال الإرهاب، ولا يمكننا أن نواجه هذه الجرثومة، إلا بتجريم كل الممارسات والأقوال التحريضية، والتي تدق إسفينا بين مكونات المجتمع والوطن الواحد.. ولعلنا لا نجانب الصواب، حين القول: إن الكثير من الأعمال والتصرفات والتي يمكن وصفها بأنها من ممارسات وأشكال العنف الديني، هي بشكل أو بآخر من جراء ثقافة التحريض ومقولات التسفيه والتحقير التي تتوجه إلى فئة أو شريحة من المجتمع.. إن تجريم كل الممارسات الشائنة، والتي تستهدف تحقير بعض الناس سواء لقوميتهم أو مذهبهم أو دينهم، هو الخطوة الأولى في مشروع وأد وإنهاء الجذور الثقافية والاجتماعية لظاهرة العنف والإرهاب وبث الكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.

فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها، هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق، وصيانة المكاسب، وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة، ومبدأ الولاء والبراء، لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين، وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر (المحارب والمعتدي) على أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي..

2- إن الاعتراف بالآخر في الدائرة الوطنية أو الإسلامية، لا يؤسس إلى التحاجز وخلق الكانتونات والجزر الاجتماعية المنفصلة عن بعضها. وإنما من أجل دمج كل هذه التعبيرات والأطياف في بوتقة واحدة وهي بوتقة الوطن والمواطنة..فنحن مع الاعتراف بكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل شريحة أو فئة، ولكن هذا الاعتراف لا يعني الانكفاء والانعزال أو القبول بحالة التشظي الاجتماعي. إنما الاعتراف الواعي والحضاري، الذي يقودنا إلى بناء مواطنة متساوية بين جميع الأطراف والتعبيرات. فالاعتراف بالخصوصيات، لا يلغي مفهوم المواطنة، بل يبنيها على أسس ومنظومة الحقوق والواجبات المتكافئة والمتساوية. فالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ومن خلال صحيفة المدينة، أسس إلى هوية جامعة قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية.

حيث تضمنت هذه الوثيقة تنسيق العلاقة بين المسلمين واليهود، وبعض من المشركين العرب. فقد كان الانتماء إلى دولة المدينة هو مقياس المواطنة، فالكل (بصرف النظر عن أديانهم) آمنون فيها، والكل مسئولون عن حمايتها. وبهذا خلق الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة تجربة قامت على مواطنة، متساوية، بين مجموعات بشرية متغايرة في أديانها ومعتقداتها.

من هنا نصل إلى حقيقة أساسية في مشروع مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب. وهي إننا كلما تقدمنا خطوات نوعية في مشروع إنجاز المواطنة المتساوية، اقتربنا أكثر في إنهاء الجذور السياسية والفكرية لهذه الظاهرة الخطيرة. لذلك نجد أن المجتمعات التي تعيش وضعا مستقرا على هذا الصعيد، هي الأقدر على مقاومة هذه الظاهرة وضبطها.

فالمواطنون سواء بصرف النظر عن أيدلوجياتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية.. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال ممارسة التميز ضد بعض المواطنين لاعتبارات لا تنسجم وحقائق ومتطلبات المواطنة..وينقل لنا التاريخ الإسلامي، الكثير من القصص، التي توضح أهمية المساواة وتكافؤ الفرص. ومن شواهد ذلك : «حدثني هشام بن عمار، أنه سمع مشايخ يذكرون الخليفة عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق، مر بقوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت»..(فتوح البلدان.ص 131).    فالاختلاف العقدي لا يعني الحرب الاجتماعية، والتباين في القناعات والمواقف لا يعني ممارسة التهميش والإقصاء.. تبقى قاعدة (البر) هي الحاضنة لكل التنوعات والتعدديات..

إذ يقول تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(الممتحنة، 8)..«إن النص ليس ظاهرا وحسب، بل هو بحر من الدلالات، وهو سيل من الأفكار والتصورات التي تكمن في باطنه، وتتوارى في أخاديد كلماته وحروفه والعلاقة بينهما. ونحن نعلم أن الكتاب الكريم حرم السب تحريما مطلقا، وحرم التجديف بحقوق وشرف الناس وسمعتهم، مهما كان دينهم، ومهما كانت لغتهم، والسب ظاهرة بارزة في حواء المتخلفين والطغاة والأميين، وهذا يضيف جمالاً آخر إلى جمال الإسلام في معالجة قضايا الخلاف»..(غالب الشابندر، الآخر في القران، ص 115).

فالمواطنة بمؤسساتها وقيمها وروحها، هي القادرة على دمج مختلف التنوعات في بوتقة واحدة بحيث تتحول التنوعات من مصدر قلق، إلى رافد من روافد الإثراء والتمكين.

فالتطرف وتبني خيار العنف، لا يخلق مواطنة متساوية، بل يفضي إلى تفكيك أسس الوحدة، ويدخل المجتمع في أتون الصراعات والنزاعات الحادة والدموية..وإننا أحوج ما نكون اليوم، ومن أجل مواجهة خطر الإرهاب والتطرف والعنف، إلى تلك الثقافة التي تولي للمواطنة حقوقا وواجبات أهمية خاصة، وتتعامل مع مختلف التعدديات بوصفها حقائق قائمة ينبغي احترامها، وتوفير كل مستلزمات مشاركتها في البناء الاجتماعي والوطني.

3- يسعى البعض وعبر وسائل مختلفة إلى التفتيش على عقائد وأفكار الآخرين. ويجعل من نفسه (فردا أو جماعة) المحاسب على الصحة والفساد. فهو الذي يوزع صكوك الغفران والمقبولية، وهو الذي يطلق أحكام الضلال والبعد عن الجادة والطريق المستقيم، أو أحكام الهدى والسير على الجادة. ولا يكتفي بذلك بل يعمل على محاسبة الناس على أفكارهم وانتماءاتهم العقدية والفكرية.

ولاشك أن هذه الممارسات، تعطي للبعض سلطة ليست له، وتجعله يمارس واجبا ليس مكلفا به. وذلك لأن الباري عز وجل هو المعني وحده جل جلاله بمحاسبة الناس على عقائدهم وأفكارهم. إذ يقول تعالى (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون). (الحج، الآية 69-68)..  ووجود فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تخول للإنسان مهما علا شأنه أن يتدخل في خصوصيات الناس، ويفتش عن عقائدهم وأفكارهم. فإن للإنسان حرمة وقدسية، لا يجوز التعدي عليها بأي شكل من الأشكال.

ولعل من أهم جوانب هذه الحرمة، رفض محاولات التفتيش على العقائد والأفكار، والتدخل (إذا جاز التعبير) في مختصات الباري عز وجل.

فالعدل هو المطلوب في العلاقة الاجتماعية والإنسانية، أما مسائل الضمائر والقلوب والعقائد، فالباري عز وجل هو الذي يحكم فيها..ولا يجوز لأي إنسان أن يفتش على عقائد الناس..

يقول تبارك وتعالى(وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، وإليه المصير) (الشورى، 15).

فالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لم يجبر أحدا على تغيير عقيدته، وعمل على صيانة حقوق الجميع.

وإذا كان هناك اختلاف وتباين بين المواطنين في عقائدهم وأفكارهم، فالمطلوب أن يحترم كل طرف عقائد وأفكار الطرف الآخر. ولا يجوز بأي شكل من الأشكال الإساءة لعقيدة أو أفكار أي مواطن.

وعلى ضوء هذا الاحترام المتبادل، يتم حوار بين مختلفين، وليس حوارا بين صاحب الحق والهدى، وبين آخرين يعيشون في ضلالهم وزيغهم. لذلك يقول تبارك وتعالى (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).(سبأ، الآية 24) فالمساواة في الاختلاف من الضرورات العميقة التي تساهم في نجاح أي مشروع حواري وفي أي دائرة من الدوائر.

فالمطلوب هو أن نتحاور مع بعضنا البعض، على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا توجد سلطة لأحد في تفتيش عقائد البشر واتخاذ الإجراءات اللازمة على ضوء عملية التفتيش. كل المواطنين سواء، في ضرورة صيانة حرمتهم، واحترام عقائدهم وأفكارهم، والسماح لهم للتعبير عنها في ظل قانون يحمي الجميع ويصون خصوصياتهم.

فالغيرية في العقائد والأفكار، لا تنفي حقوق المواطنة، بل تؤكدها. وليس من شروط المواطنة المطابقة في الأفكار والقناعات.

ومن يبحث عن المطابقة، فإنه لن يجدها. فالمواطنة بقيمها وهياكلها ومؤسساتها، هي الإبداع الإنساني لحفظ الحقوق، وصيانة المكاسب، وإدارة التنوع بعقلية حضارية وإدارة حكيمة، ومبدأ الولاء والبراء، لا يعني ممارسة العدوان والحرب على الآخرين، وإنما وجود موقف نفسي يحول دون تأثير الآخر (المحارب والمعتدي) على أخلاقنا ونسيجنا الاجتماعي..

ف «الأصل في العلاقات مع الآخر في القرآن هي التواصل الفكري، والاجتماعي، والعائلي، والأخلاقي بدليل جواز مؤاكلتهم، ومخالطتهم، ومشاربتهم، ومصاهرتهم، والتعامل معهم في كل مجالات النشاط الاجتماعي. وهذه المقتربات لا تنسجم مع (التولي والتبري) كما يعرضها البعض في قالب عدواني ابتدائي مسبق. فإن الموالاة المنهي عنها تأتي في نطاق إعلان الكره والحرب من قبل الطرف الآخر، إنها تبدأ من الطرف الآخر، هي جواب على موقف سلبي من الآخر يبدر منه أولا، وليس مع كل (مخالف)، كما هو مقرر في الفقه الإسلامي، وإن المودة المنهي عنها في الكتاب الكريم هي مودة الذين ينصبون العداء السافر، ويعملون على التعريض بالمؤمنين، ومن ثم هي حالة قلبية أكثر مما تكون حالة عملية، بل هي موقف قلبي صرف عند كثير من الفقهاء». (غالب الشابندر. الآخر في القران. ص 119).

وعليه فإننا نعترف بالاختلافات بكل مستوياتها، وندعو إلى احترام الخصوصيات، ولكننا نعتقد أن تحويل الاختلافات من مصدر قلق وحذر إلى مصدر للإثراء الثقافي والاجتماعي، بحاجة إلى تكريس قيم المواطنة في الفضاء الاجتماعي..وذلك لأن المواطنة هي الوعاء القانوني والسياسي والدستوري الذي يستوعب كل المبادرات والخطوات، ويعمل على إدماج كل التنوعات في منظومة الحقوق والواجبات المتساوية. فالمواطنة هي الحد الفاصل بين كل الاختلافات والتباينات في الدائرة الاجتماعية والوطنية.

فالاختلاف مهما علا حجمه، لا يبرر الانتقاص من مواطنة الإنسان. والتعدد مهما اتسعت دوائره ومستوياته، يضبط بالمواطنة بواجب الوحدة والانسجام وبحق التعبير وتحمل المسؤولية والمشاركة في صناعة الحاضر وصياغة المستقبل. وهكذا يكون الآخر، مشروعا للتعارف والحوار والتواصل والتعاون والتنمية وتطوير الجوامع المشتركة.

المجتمع الأهلي والدولة المدنية

ثمة علاقة عميقة وجوهرية، بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. وذلك لأن الكثير من مضامين المواطنة على الصعيدين الذاتي والموضوعي، هي بحاجة إلى فضاء سياسي جديد، يأخذ على عاتقة تحريك الساحة بقواها ومكوناتها المتعددة باتجاه القبض على المفردات والعناصر الضرورية لهذا المفهوم.

 فالمواطنة كمبدأ ومرجعية دستورية وسياسية، لا تلغي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي،   تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه، والساعية بوسائل قانونية وسلمية للإفادة من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية. بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفيا لخصوصياتهم، وإنما مجالا للتعبير عنها بوسائل منسجمة وناموس الاختلاف وآفاق العصر ومكتسبات الحضارة. ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بنشوء دولة الإنسان.. تلك الدولة المدنية التي تمارس الحياد الايجابي تجاه قنا عات ومعتقدات وأيدلوجيات مواطنيها. بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. كما أنها لا تمنح الحظوة لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثل في المحصلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين.

 لذلك فإن مفهوم المواطنة لا ينجز في ظل أنظمة شمولية- استبدادية، لأن هذه الأنظمة ببنيتها الضيقة والخاصة، تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة خاصة، تمارس الإقصاء والتهميش، كما تمنح الامتيازات بمبررات دون مفهوم الوطن والمواطنية.

فالدولة المدنية التي تحترم الإنسان وتصون كرامته، وتمنحه حرياته الأساسية، هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة، التي تبلور مفهوم المواطنة، وتخرجه من إطاره النظري المجرد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة. فدولة الإكراه والاستبداد وممارسة القمع والتعسف، تجهض مفهوم المواطنة وتخرجه من مضامينه السياسية المتجهة صوب الموازنة الفذة بين ضرورات النظام والسلطة ومتطلبات الكرامة والديمقراطية. وكل الشعارات والمشروعات ذات الطابع التقدمي التي تحملها بعض السلط والدول، تبقي مجردة وفي دائرة الاستهلاك الإعلامي والسياسي بدون المواطنة التي تمارس حقوقها غير منقوصة وتلتزم بواجباتها دون مواربة. وعليه فإن مراعاة مصالح المواطنين والعمل على ضمان حقوقهم واحترام حرياتهم وصيانة كراماتهم، هو الذي يضمن الاستقرار السياسي، ويطور مستوى التفاهم والانسجام بين السلطة والمجتمع وتتبلور الإرادة الوطنية صوب القضايا الكبرى للوطن و الأمة.

لذلك فإن المواطنة وفق هذا المنظور، هي قوام الحياة السياسية الفاعلة والسليمة.. وحينما تجرد الحياة السياسية من مقتضيات ومتطلبات المواطنة، تتحول إلى حياة مليئة بالنزاعات والانقسامات وتكريس مضامين التخلف والانحطاط المجتمعي.

وذلك لأن المنابر الإعلامية ووسائط الثقافة في المجتمع، تشترك في عملية تفتيت مضمون المواطنة، عن طريق نشر ثقافة الكراهية والدعوة إلى المفاصلة والقطيعة مع بعض شرائح المجتمع. فينتشر التمزيق، وتتعاظم مظاهر التهميش وأشكال التمييز، وتهدد الوحدة الوطنية في أهم مقوماتها ومرتكزاتها ألا وهي المواطن. حيث أن تسميم المناخ الوطني العام، بثقافة التمييز والكراهية، ودعوات المفاصلة والتحريض الطائفي والقومي، تقلص إمكانية الاستقرار، وتحول دون توفر متطلبات الوحدة الوطنية. فالدولة التسلطية بصرف النظر عن أيدلوجيتها والشعارات التي ترفعها، هي التي تجوّف مفهوم المواطنة وتفرغه من مضامينه السياسية والمجتمعية. 

 لذلك هناك علاقة وطيدة بين مفهومي الدولة المدنية والمواطنة. إذ لا دولة مدنية بدون مواطنة كاملة تمارس كل حقوقها وتقدم بكل واجباتها الوطنية. كما أنه لا مواطنة مستديمة بدون دولة مدنية تسن القوانين التي تحمي قانون المواطنة ومتطلباته، وترفده بالمزيد من الآفاق وأدوات الفعالية المجتمعية. فلا يمكن أن تتحقق مواطنة في ظل دولة تسلطية - استبدادية، لأن هذه الدولة ببنيتها القمعية، تلغي دور المواطن في عملية البناء وتسيير أمور الوطن. كما أنه لا يمكن أن ينجز مفهوم الدولة المدنية في مجالنا الإسلامي، بدون احترام مفهوم المواطنة  وتوفير كل مستلزماته الذاتية والموضوعية.

فالعلاقة جد وطيدة بين مفهومي المواطنة والدولة المدنية، إذ كل مفهوم يستند على الآخر لاستمراره وتحذره في المحيط الاجتماعي. وهذا بطبيعة الحال يتطلب " تسريع الاتجاه نحو الديمقراطية الحقيقية والتعددية الفعلية والتنمية الشاملة في الدولة وبالدولة إن أمكن، جنبا إلى جنب، محو الأميات المتكثرة، وتحرير الأبنية الثقافية السائدة من عقد الأتباع والتقليد، وتنوير الوعي الاجتماعي. بما يؤكد معاني الحراك والمغايرة وحق الاختلاف، وتدعيم أسس المجتمع المدني بما يؤكد مفهوم المواطنة بكل لوازمه الحديثة وشروطه الإنسانية التي لا تفـــارق حـــرية الـــرأي والاجتهاد وحــق الخطأ في الوقت نفسه" (راجع الدكتور جابر عصفور، ضد التعصب، ص 242، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، بيروت 2001م).

وبالتالي هناك منظومة متكاملة من القيم والمبادئ، التي تكرس مفهوم المواطنة في الواقع الاجتماعي. ومن هذه المنظومة الديمقراطية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان وحرية التعبير والانتماء. فكلها قيم ضرورية لإرساء مضامين المواطنة.. أي أن توفر هذه القيم، هو الذي يؤدي إلى إنجاز مفهوم المواطنة. وبمقدار غياب هــذه القيم أو بعضها، بذات المقدار يتم انتهاك مفهوم المواطنة.

وهذا يدفعنا إلى القول: أن المواطنة لا تنجز إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي- تعددي، يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفر ضرورات العيش الكريم.

وعليه فإن الاستقرار السياسي والمجتمعي في المجالين العربي والإسلامي بحاجة إلى توفر العناصر التالية:

- المواطنة التي تمارس دورها في الشأن العام بدون خوف أو تردد.

- مؤسسات المجتمع المدني، التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وتبلور كفاءاته وقدراته، وتساهم في معالجة المشكلات التي يمر بها المجتمع.

- الدولة المدنية التي تجسد إرادة المواطنين جميعا، ولا تميز بين المواطنين لدواعي ومبررات ليست قانونية وإنسانية. فهي دولة جامعة وحاضنة لكل المواطنين وتدافع عنهم، وتعمل على توفير ضرورات معيشتهم وحياتهم.

فالأوضاع العربية والإسلامية، بدون هذه العناصر، تعيش القهقرى والمزيد من التراجع والانهيار على الصعد كافة.

لذلك فإن الجهود العربية والإسلامية اليوم، ينبغي أن تتجه إلى توفير كل مستلزمات تجسيد هذه القيم والوقائع في المجالين العربي والإسلامي.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن غياب مبدأ المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية عن واقعنا العربي والإسلامي، ينذر بتطورات كارثية على المستويات كافة. ولا خيار أمام النخب السياسية السائدة، إذا أرادت الاستقرار لأوطانها، إلا الانخراط في مشروع الإصلاحات السياسية والوطنية، المتجهة صوب إرساء دعائم المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية الملتحمة في خياراتها الاستراتيجية مع خيارات مجتمعها، والساعية نحو إزالة كل رواسب الدولة التسلطية من واقعها ومؤسساتها وهياكلها المختلفة. وحده الإصلاح السياسي الحقيقي، هو الذي يوقف الكوارث القادمة وعلى الصعد كافة.

ولاشك أن انعدام الحياة السياسية الوطنية السليمة، وغياب أطر ومؤسسات المشاركة الشعبية في الشأن العام، ولد مناخا اجتماعيا و ثقافيا و سياسيا، يزيد من فرص الانفجار الاجتماعي، ويساهم في إقناع العديد من أفراد القطاعات الاجتماعية المختلفة بخيار العنف.

وهذا يقود إلى حقيقة أساسية من المهم التنبية لها دائما وهي: أن العنف أداة يستعين بها القاهرون و المقهورون، و إن بمقادير مختلفة ولغايات متباينة.

ولا ريب أن وجود توترات ظاهرة أو كامنة بين الدولة والمجتمع في الفضاء العربي، يساهم عبر تأثيراته و مولداته في بروز ظاهرة العنف. وتجارب الحروب الأهلية المؤلمة التي جرت في بعض البلدان العربية، تؤكد بشكل لا لبس فيه أن تناقض الخيارات الكبرى بين السلطة والمجتمع يقود في المحصلة النهائية لنشوء و بروز ظاهرة العنف.

وقد عبر هذا التناقض و التدهور عن أعلى تجلياته المادية، في انفلات غرائز العدوان المتبادل بين مكونات الحقل السياسي في مشاهد متلاحقة من العنف والإقصاء المتبادل، إلى درجة باتت فيها العملية السياسية عاجزة ـ أو تكاد ـ عن أن تعبر عن نفسها في صورة طبيعية، أي كفعالية تنافسية سلمية، وإلى الحد الذي كاد فيه العنف ـ المادي والرمزي ـ أن يتحول إلى اللغة الوحيدة التي يترجم بها الجميع مطالبة ضد الجميع. "وعلم الاجتماع السياسي المعاصر، يفرق اليوم بين الدولة القوية والدولة القمعية، ويرى أن الدولة التي تلتحم في خياراتها و مشروعاتها مع مجتمعها وشعبها هي الدولة القوية،حتى لو لم تمتلك موارد طبيعية هائلة.. فالدولة القوية حقا، هي التي تكون مؤسسة للاجماع الوطني و أداة تنفيذه.

وتنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا. ولا ريب أن الدولة القمعية بتداعياتها ومتوالياتها النفسية والسياسية والاجتماعية، هي من الأسباب الرئيسية في إخفاق المجتمعات العربية والإسلامية في مشروعات نهضتها وتقدمها. لأنها تحولت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدرات الأمة وإمكاناتها في قضايا غير مهمة، ومارست العسف و القهر لمنع بناء ذاتية وطنية مستقلة"

فالإخفاق السياسي سواء على صعيد مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع، دفع باتجاه النزوع إلى التعبير عن الأهداف والغايات و المصالح بالعنف المادي والرمزي. بحيث إن غياب العلاقة السوية والعميقة بين السلطة والمجتمع، دفع الأولى في المجال العربي، إلى تبني خيارات ومشروعات فوقية ـ قسرية، وبفعل ذلك لجأت السلطة في العديد من مناطق العالم العربي إلى أدوات العنف لتسيير مشروعاتها وإنجاح خططها الاجتماعية والاقتصادية. وفي المقابل فإن المجتمع في ظل هذه الظروف، يعبر عن نفسه وخياراته بامتلاك واستخدام أدوات العنف.

فيتحول الفضاء السياسي و الاجتماعي العربي، من جراء هذا التوتر والتباين، إلى وعاء للعديد من النزاعات المجردة من القيم الإنسانية والأخلاقية اللاهثة صوب مصالح آنية وضيقة.

وفي أحشاء هذا التوتر، تترعرع مشاريع العنف والاقصاء، وتتسع دائرة التناقض والتصادم، وتزيد فرص الانتقام وممارسة العسف بحق الآخر.

وهكذا نصل إلى مسألة أساسية وهي:أن أحد الأسباب الرئيسية لبروز ظاهرة العنف، هو غياب حياة سياسية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.

لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثار والتوحش في السياسة مهما كانت الأيدلوجية التي تسوغ ذلك. ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه.

وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على ضبط نزاعات العنف، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. 

   ولابد أن نأخذ  الدروس والعبر، من مناطقنا التي حدثت فيها حروب أهلية وداخلية، حيث أن هذه الحروب، دمرت الاقتصاد والتجارة، وهجرت الكثير من شعوبها وجعلتها في قافلة اللاجئين في العالم، وأفنت كل البنية التحتية للبلد، وقتلت خيرة شبابها ورجالها في معارك عبثية.

إن هذه الحروب تعلمنا درسا بليغا: أن العنف حينما يستشري، والتعصب حينما يسود، فإن الدولة والمجتمع والمكاسب الخاصة والعامة، كلها مهددة بالاندثار والضياع. وذلك لأن العنف كالغول، حينما يخرج من قمقمه فإنه يدمر كل شيء يمر عليه في طريقه. لذلك لا بد أن تتوجه كل جهودنا وطاقتنا، نحو تذويب موجبات النزعات العنفية والتعصبية في مجتمعنا وأمتنا، ونعمل من مواقعنا المختلفة والمتعددة لإرساء دعائم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في واقعنا العام.

فالإنسان(الفرد والجماعة) المعبأ بقيم العنف والحقد والتعصب، لا ينتج عنه إلا الحروب والدمار، وذلك لأن العناصر المعبأ بها الفرد أو المجتمع، هي العناصر المشعلة للحروب والصراعات المفتوحة.

من هنا لا يمكن إبعاد خطر الحروب والصراعات المسلحة عن واقعنا ومحيطنا إلا بتأكيد وتعميق مبادىء الديمقراطية والكرامة الإنسانية والمساواة واحترام الآخرين بكل ما تحمل كلمة الاحترام من معنى ودلالة.. ولقد أدركت منظمة {اليونسكو}  أهمية التحولات الفكرية والثقافية باتجاه الديمقراطية والسلام، لإنهاء أخطار الحروب من المجتمع الإنساني. حينما لخصت الأسباب الفكرية لظهور النازية في أوربا في المقولة التالية : إن الحرب تبدأ في عقول البشر، فلماذا لا يبنى السلام في عقولهم. ولكي يبنى السلام في العقول، فهو بحاجة إلى تطهير الواقع من العوامل وموجبات العنف والتعصب، حتى تتكون الظروف الموضوعية المفضية إلى السلام والتعاون والتضامن.

***

 محمد محفوظ       

في المثقف اليوم