قضايا

خطيئة حواء مجددًا!

منى زيتونمن الملحوظ لذوي البصيرة أن آثار التدليل المفسد قد زادت واتسعت في عصرنا بسبب نمط الحياة المترف الذي لا يكتفي بأن يحقق للفرد كل ما يريد، بل يحققه له في التو واللحظة. وعلى سبيل المثال فإن التدليل بالمداومة على شراء الأطعمة بواسطة خدمة الديلفري وشراء الملابس جاهزة والشراء عبر الانترنت، يختلف عن درجة التدليل التي كانت متاحة في زمن آبائنا، فلم يعد للمدللين صبر على الانتظار للغد حتى تعد لهم أمهم ما يشتهون من طعام، ولا ينتظرون عودة أحد من السفر وقد اشترى لهم ما يرغبون من ملابس، ولا ينتظرون خياطًا لينتهي من تفصيل أقمشة اشتروها، فكل ما يرغبون يحصلون عليه بأسرع ما يكون.

ويعتقد أغلب الناس أن التدليل الزائد الذي يوصل النشء إلى درجة الفساد والإفساد يقتصر على الأغنياء، لكن الحقيقة المرة أن للفقراء منه نصيب، وكل يدلل ويفسد على قدره!

أذكر أنني رأيت بعيني امرأة بسيطة تشتري باذنجانًا للحشو وقد قارب أن يحين وقت العصر، وتخبر البائع أن أبناءها بعد أن أعدت لهم محشو ورق العنب رفضوا أن يأكلوا منه وطلبوا منها أن تعد محشو باذنجان، فما كان منها إلا أن خرجت في التو لشراء ما يلزمها لتبدأ في إعداد ما طلب أبناؤها المدللون، ففوق أنهم لم يبالوا بتقدير تعبها في إعداد الوجبة الأولى، لم يأكلوا أي شيء آخر من المتاح أمامهم في المنزل، بل وزادوا بأن طلبوا منها إعداد وجبة أخرى، علمًا بأنها ليست وجبة سريعة الإعداد.

وأمثال هذه المرأة تعرف كيف تبتلي المجتمع بنماذج فاسدة، وتجعلهم ينتفخون، ويحسبون أن العالم الخارجي سيتعامل معهم بالطريقة ذاتها التي كانت تعاملهم بها هذه الأم الجاهلة التي لا تتأخر في تحقيق أي طلب لهم على قدر استطاعتها، وتفشل تمامًا في حثهم على تقبل ما بين أيديهم وأن يحمدوا الله عليه.

ذبيحة جامعة المنصورة

منذ أيام فُجع الوطن العربي بنبأ مقتل فتاة مصرية جميلة في ريعان شبابها ذبحًا على يد زميلها أمام أسوار جامعتها، والذي كان دائم المطاردة والتهديد لها في الحياة وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، بعد رفضها طلب خطبته لها مرتين، وتحرير أبيها ثلاثة محاضر له في الشرطة تلزمه بعدم التعرض لها، وعقد جلسة عرفية اتفق فيها معه أن يبتعد عن الفتاة، ولكن كل هذا لم يُجدِ مع الفتى المدلل الذي لم يستوعب أن طلبًا له لم يُجاب، وأن اللعبة التي أرادها أبت أن تكون له!

وهذا الشاب كما عرفنا من أحواله من خلال وسائل الإعلام يتيم الأب، وله أختان متفوقتان أكبر منه سنًا، ولم يترك أبوه لهم معاشًا حكوميًا يتدبرون به أمور معيشتهم، فكانت أمه تعمل للإنفاق على الأسرة، ومع ذلك فلم يذكر أحد أنه حاول أن يعمل ولو عملًا مؤقتًا في خلال الإجازات الصيفية ليساعد والدته التي حنت ظهرها السنون، وإنما بدلًا من هذا طلب الفتاة من والدها مرة ومن والدتها مرة، متوهمًا أنهم سيقبلون به بعد أن أبدت الفتاة إعراضًا عنه، وحُق لها أن تفعل.

ولم يقتصر السوء على الجريمة، بل كان الأسوأ منها بعض من تحيلوا لتبريرها بأنها نتاج الاختلاط وتبرج الفتاة وغيرها من الأسباب التي يشيعها التافهون وضيقو الأفق ليخرجوا النقاش المجتمعي لأي قضية من قضايانا عن سياقه، ويجعلوا من الرجل الطرف المظلوم الذي تم دفعه لارتكاب الخطيئة، وتبقى حواء دائمًا وأبدًا سبب الخطيئة منذ الأزل وإلى قيام الساعة، وإن كانت مظلوميتها واضحة.

رأينا أحد المشايخ المتفرنجين الثقلاء ممن يستخف دمه في مواطن لا تحتمل درجة ظرفه المتطرفة، وهو يتحدث عما أسماه سبسبة الشعر وارتداء الجينز، وأن هذا المظهر سيجعل من تظهر به تتحول إلى جثة، وأحد رجال الدين المسيحيين هو الآخر لم يقصر فخرج علينا في مقطع يتحدث عن شمشون الجبار ودليلة التي أرادت إذلاله، وكيف سمح لها أن تذله، وهكذا بقدرة قادر مثّل الفتاة الذبيحة بدليلة، فإن كانت قد ذُبحت فتلك ولا شك جريرة خطيئتها، فهي التي استدرجته حتى فعل ما فعل!

أثر  التدليل

إن قضية كبرى مثل هذه تحمل في طياتها قضايا فرعية كثيرة بحاجة إلى نقاش، وليس من بينها الاختلاط، أو لنقل إنه ليس أهمها الاختلاط، فلا البنت كانت تظهر اهتمامًا به ولا جارته في مشاعره، وباعتراف جار الشاب، الذي ربّاه، أن ما أسماه (حبه لها) كان من طرف واحد، فعاش في بالونة في رأسه، وفقدت قدماه اتصالها بالأرض.

وبدايةً فإن تسمية شعور هذا الشاب تجاه الفتاة بالحب هو تسمية معيبة؛ فمن يحب لا يؤذي من يحبها، ومن الصواب القول إن شعوره تجاهها هو رغبة تملك وربما شهوة وليست حبًا.

ومن أهم ما ينبغي أن نتذكره من طرح هذه القضية الاجتماعية أن الإنسان يولد غير قادر على ضبط رغباته؛ يبكي إذا جاع، ويفرغ مثانته وبطنه فجأة عندما تمتلئان، ولا يعرف كيف يتحرك وحده، ولا يصبر أن يُبطأ عليه طلب يريده، والتربية الفاسدة وإن كانت تعلمه أن يضبط مواعيد طعامه وإخراجه ويوازن حركة جسمه، فإنها لا تزيد عن هذا، ولكن التربية الصحيحة تهذبه وتعلمه التحكم في رغباته كافة والصبر على تحقيقها.

وكل مغتصب، وكل شاب شوّه وجه فتاة رفضته أو شوّه سمعتها، وكل قاتل قتل فتاة رفضته، أو اعتدى على عريسها الذي قبلت به ورفضته، هو نتاج تربية لم يتعلم منها أن ليس كل ما تريده يمكن أن يكون لك.

وفي مقال سابق عن الإلحاد ذكرت أنني لا أبالغ إن قلتُ إن التدليل قد يكون من أسباب الإلحاد، فبعضهم قد لا يقتل أو يغتصب، ولكنه يدعو كثيرًا كطفل يتوسل لتحقيق حاجته، وعندما لا تتحقق لا يتقبل عدم تحققها، ويشك في وجود الله الذي دعاه ولم يستجب له.

كما سبق وحكيت في بعض مقالات كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي" قصصًا عن نوعية الأمهات الجاهلة ناقصة التمييز التي تُفهم ابنها المدلل، الذي تراه سيد الناس، أن أي بنت تتمناه، وكيف تتجرأ بعضهن أن تخطب لمثل هذا الفاشل عديم المزايا فتيات متميزات، وتحسب أن أهلهن يمكن أن يرحبن بهم!

وبحسب شهادات أهل الفتاة وجيران القاتل فالسلوك العدواني للقاتل لم يظهر لأول مرة تجاه الفتاة، فله ماضٍ من سلوك التعنيف والأذى الجسدي تجاه أمه وأختيه رغم أنهن أكبر منه سنًا، وهن من قمن بتربيته هذه التربية المنحطة التي لم تمنعه عن رفع يديه عمن حملنه صغيرًا، ومثله لا يُستغرب منه سلوكه العنيف تجاه الفتاة التي رغب أن يملكها ورفضته. وإن كان الفارق أن هذه الفتاة القتيلة ليس لها ذنب في هذا السلوك، بينما أمه بالدرجة الأولى من تتحمل مسئولية شعور الدِيكة الذي أوصله لهذا المسلك.

وخلاصة ما يُقال في هذه القضية إنه إن كنتم تبحثون عن حواء لتحملوها الخطيئة مجددًا، فهي خطيئة من دللته فأفسدته، وليست خطيئة القتيلة.

أثر رفاق السوء

في أغلب الحالات الشبيهة التي أعرف تفاصيلها عن قرب من خلال بعض الباحثين الاجتماعيين ممن بحثوها، لا يخفى فيها جميعها أثر رفاق السوء في حدوث الجريمة أيًا كان نوعها؛ فسواء كانت اغتصابًا أو تشويه سمعة أو قتلًا، أو خلافها، فهناك رفاق سوء لعبوا دور إبليس في القصة، ووسوسوا لصاحبهم وقادوه إلى الهاوية.

تبدأ الكارثة في التصاعد عندما يعمد أمثال القاتل في قصتنا إلى إيهام المحيطين به أنه على علاقة بالفتاة التي يريدها، وشيئًا فشيئًا يتكشف لهم كذبه، ولأنهم أصدقاء سوء يكونون سببًا رئيسيًا في ألا ينزع الموضوع من رأسه، ويطالبونه بأن يثبت لهم وجود علاقة مع الفتاة، وهنا يحدث التصعيد بحسب نوع الجريمة؛ فيبدأ صاحبهم في اختلاق حسابات مزيفة على وسائط التواصل باسم الفتاة ليظهر لهم كذبًا أنها تكلمه وبينهما علاقة، أو يحاول أن يختلق حديثًا معها ما أمكن لأتفه الأسباب، سواء كان حقيقيًا أو تليفونيًا، ليثبت لهم أن هناك تواصلًا بينه وبين الضحية. وفي جريمة حدثت في منطقة التجمع الأول بالقاهرة منذ سنوات دفع أصدقاء السوء الشاب إلى بيت المرأة دفعًا وطلبوا منه أن يصعد إلى منزلها في وقت كانت وحيدة فيه، ليثبت لهم أنها على علاقة به، فاضطر أن يصعد ولما فتحت المرأة الباب لترى ماذا يريد ولماذا يطرق بابها، دفعها فحاولت أن تصرخ فقتلها وهرب!

وأثناء استماعي لشهادات الشهود في قضية فتاة جامعة المنصورة لفت نظري أن بعض الشباب من زملاء القاتل قالوا إنه لا يوجد مبرر لأن يقتلها وإن خانته وتركته! وهذا على عكس شهادة جاره ومربيه الذي قال إن الشاب اعترف له أنه حب من طرف واحد وأن الفتاة رفضته تمامًا منذ البداية، كما أكدت مراسلات الفتاة مع أختها عبر تطبيق الواتس آب رفضها له، وكانت تصفه بمن أراد خطبتها، وذكرت لأختها أنه هددها وكرر تهديده لها. فلماذا يظن أو يردد بعض الشباب أنها خانته؟!

كما ذكرت بعض الشابات من صديقات القتيلة أنه اختلق حسابات وهمية كثيرة على موقع الفيسبوك ليتمكن من محادثتها، ولكن الفتاة حظرته، فاستخدم هذه الحسابات للتشنيع عليها منها.

وبحسب تصوري فقد صدّق بعض زملائه ما حاول التشنيع به على الفتاة من وجود علاقة بينهما، أو جاروه في ادعاءاته، ولدي شك بنسبة لا تقل عن 90% أن بعض زملاء الشاب القاتل في الكلية لعبوا دور إبليس في القصة، كما يلعب أمثالهم هذا الدور في كل قصة شبيهة، وهم من أوصلوه لحالة الهياج العقلي التي وصلها لما انكشف رفض الفتاة له، وهؤلاء يجب البحث عنهم وفضح دورهم في الجريمة ومحاسبتهم، فليسوا بأقل منه جُرمًا.

المجالس العرفية ومحاضر الشرطة!

في قصتنا هذه حاولت الفتاة أن تدفع الأحمق عنها بأن أخبرت أباها، وتصرف الرجل تصرفًا محترمًا، فلم يستغل أن أبا الشاب متوفٍ، ورجل في مثل حاله كان بإمكانه أن يهدد الشاب وأمه وأختيه، ولكنه لجأ إلى تحرير ثلاثة محاضر تلزم الشاب بعدم التعرض لابنته، كما لجأ إلى المجالس العرفية، ولم يُجدِ أي منها، والسؤال المهم هو لماذا لا تُجدِ أمثال هذه المحاضر والشكاوى في بلادنا؟!

منذ سنوات، عندما كانت أرقام الهواتف المحمولة في مصر لا يُشترط تسجيلها وربطها بأسماء، تلقت فتاة أعرفها رسائل معاكسات كثيرة متتالية من رقم لا تعرفه، وذهبت لتحرير محضر ضد من أرسلها، وبحسب ما أخبرتني فقد كان من يكتب المحضر متعاطفًا تمامًا مع من أرسلها، ومتعجبًا من غضبها منه؛ لأنه من الواضح أنه يحبها! وعندما همت بأن تخرج وتأخذ رقم المحضر لتتابع ما سيتم فيه، أخبروها أنهم طاوعوها فقط وحرروا المحضر ولكنه سيُحفظ لأن الرجل يحبها، ولم ير أي منهم عيبًا فيما فعل!

وعليه فأنا أعتقد أن الإجابة الصحيحة للسؤال عن سبب عدم جدوى هذه السلوكيات المتحضرة التي سلكها الأب أن أمثال هذه المجالس والمحاضر كانت صورية، ولم يستشعر الشاب أي ضغط حقيقي عليه ليقلع عن سلوكه السيئ ويكف عن مضايقة الفتاة، بل ربما وجد من يتعاطف معه!

وبعض التعليقات التي قرأتها حول القضية أظهرت بالفعل بعض التعاطف مع الشاب، واستشهدوا بالحديث الشريف "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"! علمًا بأن كثيرًا من العلماء تكلموا في صحة هذا الحديث، ومنهم الإمام البخاري، فضلًا عن أن بلغت درجة سفههم أن يصفوا قاتلًا ومدمن مخدرات بأنه مرضي الدين والخلق، وعلى فهمهم الضحل فكل من جاءك يطلب ابنتك أو أختك زوّجه، ولا عبرة برضا وقبول الفتاة، فيكفي أن الشاب يريدها لتتزوجه مرغمة وهي لا تطيق أن ترى وجهه وليس لها حق في الرفض! ويبدو أن تلوث ماء النيل سيرينا من الغباء المتزايد أضعاف ما كنا نرى!

ويؤسفني أن أقول في المقابل إنني متأكدة تمامًا أن الشاب لو وجد من يضربه ضربًا مبرحًا ويعنفه ويعنف أمه وأختيه لارتدع واحترم نفسه غصبًا عنه وابتعد عن الفتاة مرغمًا.

لكن الأحمق لم يرتدع، والفتاة قد ذُبحت بلا ذنب، ولم يبق لنا إلا المطالبة بالقصاص العادل العاجل منه ومن كل من يثبت أنه ساهم في تحريضه، والمطالبة كذلك بسك أفواه المختلين عقليًا ونفسيًا ممن يخرجون علينا في وسائل الإعلام ومقاطع اليوتيوب يحاولون التبرير لفعلته.

***

د. منى زيتون

الجمعة 24 يونيو 2022

 

في المثقف اليوم