قضايا

الدين مشروع تحرري لم يكتمل بعد

رضوان سعديلقد أحدثت الأديان بشكل عام والدين الإسلامي بشكل خاص ثورة على كل القيم السائدة في العصور القديمة على مستويات عدة، وهي ثورة لم تنته بعد إذ يجب علينا استكمال ذلك المشروع الثوري التحرري في أفق الوصول إلى التحرير النهائي للإنسان من كافة القيود باعتباره الغاية السامية لجميع الأديان السماوية. لقد ظهر الإسلام في سياق سوسيواقتصادي وسياسي مترد جدا بالمقارنة مع ما نحن عليه الآن، ففي شبه الجزيرة العربية حيث ظهرت الديانة الإسلامية، كان النظام الاقتصادي بدائيا قائما على الرعي وتجارة العبيد وغنائم الحروب، وعلى المستوى السياسي كان النظام القبلي العشائري قائما على العصبية حيث الحكم للعصبية التي لها الغلبة. أما اجتماعيا فكانت الأعراف والتشريعات الأخلاقية في معظمها ضد الإنسان ككائن عاقل يسمو عن باقي الموجودات -على الأقل في شبه الجزيرة العربية- وإذا أخذنا المرأة كنموذج سنجدها أنها كانت منبوذة الى درجة أن المولود إذا لم يكن ذكرا يتم قتله أو دفنه حيا (وأد البنات) لأن الفتاة حسب اعتقادهم ستجلب لهم العار والخزي، كما أن الذكر كانت له كل الصلاحيات في الزواج بعدد لا محدود من النساء. وهنا وجب التنبيه إلى أن ادعاء البعض بأن المرأة كانت مضطهدة على مر العصور وفي جميع المجتمعات إلى أن جاء الإسلام، هو ادعاء غير صحيح يتنافى مع الوقائع التاريخية الموضوعية يقول جيفري بارندر في كتابه، الجنس في أديان العالم الذي ترجمه نورالدين البهلول: "إن النساء في بداية الإسلام وربما في الجاهلية الى حد ما كن يتمتعن بحرية واستقلالية أكبر بكثير مما صرن عليه في المجتمعات اللاحقة. فقد وجد في الجاهلية نظام العائلة الأمومي الذي يعتمد فيه النسب عبر خط الأم.... وكان بوسع المرأة أن تختار زوجها، وأن تعود إلى عائلتها إذا أسيئت معاملتها. وأحيانا كانت المرأة تعرض نفسها للزواج، وهذا ما فعلته بالضبط زوجة محمد الأولى، خديجة، مع النبي الذي كان فقيرا ويتيما رغم انتمائه لعائلة من وجهاء القوم". وهذا ما كان سائدا في الحضارة الفرعونية حيث كانت حقوق المرأة قريبة من حقوق الرجل، إذ كانت تعمل خارج البيت (في الحقول، الأسواق، التجارة)، وهو ما يتضح من خلال  بعض رسوماتهم حيث ظهرت المرأة تقود السفينة في إشارة الى القيادة والزعامة التي تتمتع بها، كما كان لها الحق في الميراث، وإذا انتقلنا إلى شمال إفريقيا نجد أن المرأة الأمازيغية كانت أكثر تحررا إذ  كانت تشارك في الحروب الداخلية والخارجية، وهذا ما جسدته الملكة الأمازيغية "ديهيا" المشهورة بلقب "الكاهنة" التي كانت قائدة حربية و سياسية فحسب المؤرخ عبد الرحمان ابن خلدون فديهيا حكمت شمال أفريقيا لمدة 35 سنة، ولا زال أمازيغ الطوارق يحتفظون بالمجتمع الأمومي الى اليوم  حيث يرجع نسب الطفل لأمه وليس لأبيه  وفي هذا السياق تقول الكاتبة الأردنية  لبنى العجارمة أن المرأة هي سيدة المجتمع الطوارقي، فهي التي تختار زوجها وشريك حياتها لا هو من يختارها، كما أن النساء حاسرات كاشفات عن رؤوسهن، بخلاف الرجال الذين تفرض عليهم  العادات اللثام بشكل أقرب الى النقاب. هكذا إذن تبين هذه النماذج التاريخية أن المرأة كان لها شأن عظيم في بعض المجتمعات، وفي المقابل كانت مهضومة الحقوق في مجتمعات أخرى كما هو الأمر في اليونان القديمة حيث كانت المرأة أدنى درجة من الرجل، وقد عبر الفيلسوف اليوناني أرسطو عن ذلك بقوله: "إن المرأة للرجل كالعبد للسيد، والعامل للعالم، والبربري لليوناني، وأن الرجل أعلى منزلة من المرأة" كما قال أفلاطون "أشكر الله لأنني لست امرأة" في إشارة الى دنيوية المرأة، نفس المكانة احتلتها المرأة في المجتمع الروماني ونفس الدنيوية  ستكرسها المسيحية واليهودية في ما بعد.

النموذج الثاني الذي يبين لاعدالة ولاإنسانية بعض التشريعات القديمة هم العبيد الذين كانوا يعاملون كسلع تباع وتشترى في أسواق النخاسة، سواء في الجزيرة العربية أو في باقي دول العالم (اليونان، الرومان...) فقد كانت تجارة العبيد رائجة في جميع الأمم، وكان العبيد بمثابة العمود الفقري للاقتصاد القديم الى درجة أن الفيلسوف اليوناني أرسطو اعتبر العبودية قضية عادلة، وأن العدالة تتمثل في حفاظ كل واحد عن مكانه "الطبيعي" أي ابن العبد سيظل عبدا وابن السيد سيبقى سيدا، وقد استمرت التجارة في العبيد إلى حدود القرن العشرون.

هكذا إذن كانت وضعية المرأة تتأرجح بين التقدم والانحطاط حسب ثقافة وأعراف وتقاليد كل مجتمع، بينما ظل العبيد يرزح تحت وطأة الاستغلال والاضطهاد في كل بقاع العالم، هذا الاستغلال والاضطهاد هو الذي جاء الدين من أجل محاربته والقضاء عليه، من أجل خلق مجتمع إنساني عادل تسوده قيم العدل والسلم والتسامح والتعايش المشترك.

يمكن القول بداية أن الدين جاء من أجل تهذيب السلوك البشري وإخراج الناس من حالة الفوضى وأللاقانون  وأللاعدل إلى حالة السلم والعدل والعيش المشترك، ولتحقيق هذا الهدف عمل بشكل تدريجي وليس دفعة واحدة على حث الناس على ضبط رغباتهم ومشاعرهم وعقلنة سلوكياتهم، بمعنى أن الدين هو وسيلة للإرتقاء بالإنسان إلى مرتبة "الإنسان الفاضل". وارتباطا بالنموذجين أعلاه يمكن القول أن الإسلام أحدث ثورة على الأنظمة التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة، وذلك من خلال إقراره مجموعة من الحقوق للمرأة والعبيد، بالنسبة للمرأة أقر الدين أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في الإنسانية، يقول تعالى" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها" ، ومن أهم تجليات هذه التورة تم الإقرار بحق المرأة في الإرث الى جانب الرجل، يقول تعالى "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه او أكثر نصيبا مفروضا، وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقهم منه وقولوا لهم قولا معروفا"، هكذا أوجب النص الديني للمرأة الحق في الميراث بعدما كانت محرومة منه وممنوع عليها، ويعد هذا الإقرار ثورة حقيقة على الأعراف السائدة آنذاك، ونرى في هذا الإقرار أقصى ما يمكن أن يتحمله العقل في العصور القديمة وسيرا على نهج النص الديني لا نرى مانعا من استكمال ذلك المشروع الإصلاحيٍ بغية الوصول الى مجتمع المساواة التامة خصوصا وأن السياق قد تغير وأصبحت المرأة تلج سوق الشغل الى جانب الرجل، ولم يعد الرجل هو المسؤول عن الانفاق بل أصبحت المرأة فاعلة ومنتجة. أما الزواج فقد أباح النص الديني التعدد لمصلحة اجتماعية محددة تتمثل في رعاية الأيتام وحفظ التماسك الاجتماعي، قال تعالى: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا". هكذا لا يمكن باي حال القول بأن من التعدد كان من أجل المتعة كما يرى بعض المغرضين.  

وإذا انتقلنا إلى مسألة الرق فنجد أن النص الديني تعامل معه بنفس منطق التدرج الذي تعامل به مع قضية المرأة وباقي القضايا الأخرى، إذ لم يتم منع الرق بشكل قطعي، وهذا راجع إلى أن العقول لم تكن مستعدة لتحمل القطيعة النهائية مع إرثها الثقافي ويحضر لي مثالا في هذا الصدد بقرار إلغاء العبودية الذي أصدره الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن في القرن التاسع

عشر والذي تم استقباله بالحديد والنار حيث اندلعت حربا أهلية في أمريكا راح ضحيتها الملايين. لهذا عمل النص الديني على حصر وتضييق مجال الرق، من الاسترقاق بالبيع والاسترقاق بالسطو على القوافل واسترقاق المدين الى استرقاق الأسرى، فتم منع كل هذه النماذج إلا أسرى الحرب باعتبارها عقوبة على حربهم ضد المسلمين وتم وضع شروط محددة لها. هكذا يتضح مدى المرونة التي يتميز بها النص الديني في خطابه، وهذا يعني أن أحكامه ليست أصناما بل هي نصوص مفعمة بالحياة تحتاج إلى تجديد الأدوات والمناهج لقراءتها قراءة معاصرة تستجيب لمتطلبات العصر، وهذا هو الطرح الذي يدعمه المفكر السوري محمد شحرور الذي يرى أن فقهاءنا ظنوا أن ما بدأته الرسالة المحمدية في القرن السادس الميلادي هو البداية والنهاية معا بالنسبة للرق والمرأة وباقي القضايا المجتمعية الأخرى. ومما يؤسف له أن الدول العربية هي اخر من ألغى الرق بقرار سياسي وليس ديني وهذا عار على الفقهاء.

***

رضوان سعدي

......................

المراجع المعتمدة:

- كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1998.

- إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مؤسسة الأهرام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996.

- جيفري بارندر، الجنس في أديان العالم، ترجمة نور الدين البهلول، دار الكلمة، دمشق، الطبعة الأولى، 2001، صفحة.

- القرآن الكريم، سورة النساء، الآيات :1-6-7-3

- مريم دجين الكعبي، مكانة المرأة عبر العصور، صحيفة الجزيرة الالكترونية.

- لبنى العجارمية، المرأة الطارقية، الموقع الالكتروني: jubraniah.wordpress.com

في المثقف اليوم