قضايا

عيد الأضحى بين العادة والعبرة.. قراءة نفسية تحليلية

سعد الجنويعادة مايثار الجدل حول أضحية العيد وسعرها عند اقتراب كل عيد جديد، لذلك وجب التفكر والتمعن في هذا الحدث السعيد لاستجلاء معانيه العميقة والوقوف على وظائفه ، وتجاوز التفكير السطحي السائد الذي يلخص العيد في الوليمة الكبرى وإشباع للبطون ليس إلا.

لذلك حري بنا التساؤل عن الحقيقة النفسية والحضارية لعملية التضحية هاته؟

إن كلمة التضحية عندما تقترن بالكبش عبر نحره يوم العيد، تختلف عن مفهوم التضحية المتداول، والذي يقصد به التضحية  بالذات، أو بالنفس، وهي التي من شأنها أن تخلق الألم والندم والإحساس باليأس، وقد يصاب كثير من الناس بمثل هذه الحالة في حياتهم العادية، عندما يضعون أنفسهم باستمرارية في مثل هكذا موقف، في علاقاتهم بالغير لأجل إرضاءه، وانتظاراً  لاعترافه الذي لايحصد منه سوى التنكر والجحود. وهو موقف نفسي "مازوشي"، يحمل في طياته إرادة غير واعية، لتعذيب الذات لأسباب دفينة مكبوتة.

في المقابل، فالتضحية بالكبش أو بأضحية العيد، لها معانٍ سامية، ومرجعية دينية، والكل يعرف مصدرها الديني في الإسلام أو في الاعتقادات القديمة.

في المعتقدات القديمة، كانت الأضحية تقدم كقربان لاستعطاف الآلهة، رغبة في حمايتها وقصد تجنب غضبها وثأرها. بينما الإسلام أتى بمفهوم نفسي مغاير جذريا من ناحية دور ووظيفة عملية التضحية. فاقتداءً بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي افتدى بالخروف بدل ابنه اسماعيل، صار المسلمون عبر تضحيتهم بالكبش يوم العيد يقتدون بالسنة الإبراهيمية إياها .

فهل لقصة إبراهيم (عليه السلام) وابنه جوانب رمزية تحمل دلالات نفسية لاشعورية خفية عند الإنسان العادي؟

ذلك ماسنحاول الإحاطة به عبر استنباط معاني ومفاهيم تنيرنا، وتقودنا إلى الصواب، بعد التمعن العميق والغني للتضحية. فإذا تفحصنا قصة إبراهيم (عليه السلام) مع ابنه وعملية التضحية التي قام بها، سنعثر في تفاصيلها على عدة رموز دلالية، متداخلة في إشكالية نفسية معقدة سنحاول الوقوف عليها..

تشكل شخصية إبراهيم عليه السلام، الرمز الأول، فهو  يعتبر الأب الروحي للإنسانية، وانطلاقا من هذا الجانب، فهو يرمز إلى الأبوة وما تحتويه من مسؤوليات وتيارات ونزعات وجدانية متناقضة.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أسطورة "أب الفئة البدائية" عند داروين، الذي تصورها كأصل الجماعات الإنسانية البدائية. وقد كان أب الفئة البدائية، رجلا غليظ الطبع، متوحشا، عنيفا، يستحل لنفسه الاستمتاع بنساء القوم، ولا يتردد في قتل كل ابن سولت له نفسه معارضته أو منافسته.

في كتاب "الطوطم والطابو"، حلل فرويد كيف سيثور الإخوة على الأب الطاغي، ويقتلونه، ويأكلون لحمه، وبعد أن يقوموا بهذه الجريمة، سيدخلون في تنافس متطرف، سيؤدى بهم إلى الدخول في حروب أهلية طاحنة، لأجل الاستيلاء على مكانة الأب. فكانت عاقبة قتله، هو انهيار الجماعة، ثم التشتت، حيث أصبح الكل يحارب الكل، وبدون جدوى.

وعلى النقيض من ذلك، فعملية الانتقال الجدري من فئة متوحشة مجرمة، والرقي إلى مكانة أسرة آمنة مستقرة، غدت ممكنة عندما تآخى الإخوة الأعداء، واتفقوا على وضع قوانين صارمة، تعتبر قاعدة أساسية لتأسيس المجتمع والحضارة. وهي تحريم القتل، وتحريم العلاقة الجنسية مع نساء الجماعة "المنتمية لنفس الطوطم"، بمعنى الأسرة في مفهومها الحديث، وتحريم أكل لحم الإنسان.

ولولا التآخي، ووضع قوانين تأطر العلاقات داخل الجماعة،  لحماية الطوطم "الإله والأب الذي يمثله" لما استطاعت الإنسانية تأسيس الأسرة والمجتمع.

ولولا انتقال الأبوة من مرحلة الوحشية القاتلة إلى مكانة وضع وإثبات وحماية القانون، ضامنة احترامه وتفعيله لما تمكنت الإنسانية من تأسيس الأسرة وضمان استمراريتها.

من خلال هذه الأسطورة ومن ملاحظتنا النفسية العلمية، تتصدر الأبوة مكانة مهمة، ولكن طرقها النفسية ليست سالكة بسهولة، تهدد بالرجوع إلى الوراء، إلى الفئة المتوحشة الغابرة.

فلا غرابة إن وجدنا عند الإنسانية، في الرابطة الأبوية، صرامة في الحرص على احترام حدود النفس، بفضل الحب، والعطف، والحماية، التي يشعر بها الأب تجاه ذريته. ولا غرابة أيضا أن نتعرض لبعض البقايا المتوحشة، عند كل أب، لكونه إنسان ذو آلة نفسية متصارعة، وبدرجات متفاوتة، متجسدة في نزعات عدوانية قد تكون قوية ومسيطرة عند البعض، دافعة بهم إلى عنف قاهر، تكاد تولد عندهم الرغبة في القتل.

فكم من مرة شاهدنا تفريغا لهذه النزعات في الأسر، كالعنف ضد الأولاد، والتخلي العاطفي والفعلي، وجرائم ترويها لنا الصحف هنا وهناك، مما يخلق فينا هلعا وغضبا ورفضا صارما.

تشكل رؤية النبي إبراهيم، عليه السلام، يذبح ابنه في نومه الرمز الثاني.  والإنسان البشري، يحلم في نومه، والعلاج النفسي التحليلي أظهر أن الحلم هو وسيلة تفريغية للرغبات المكبوتة. والنوم ثم الحلم، هم عبارة عن متنفس للضغوط النفسية التي قد يتخبط فيها الفرد في اليقظة، إثر استعماله لعملية الطرد النفسي الدفاعي ضد رغباته وحاجياته المتراكمة وغير المقبولة.

إذن الحلم تعبير مبهم للرغبة المتناقضة في شتى أوجهها الطيبة البناءة والتخريبية.

والابن، لصغره واعتماده المطلق على الآخرين، فهو بدون شك يرمز إلى المكانة التي يحتلها كل ضعيف الإنسان، طفلا  أو راشدا، والذي يعاني من الهشاشة، وهو ما يعلل احتياجه الضروري للعناية والحماية، لا حول له ولا قوة. لكن تعاطفنا التلقائي مع ضعيف الإنسان لا يجب أن يحجب عن إدراكنا وبصيرتنا حتمية تزامن تيار الحب برغبة التماهي مع الأبوة مع نزعات العدوانية والتنافس عند الطفل مع الأخوة ومع أبويه.

والمراهقة تشكل أوج الاصطدام والصراع مع الأبوة، لكونها مرحلة إثبات الذات والهوية، مما قد يثير ويغذي الغضب (بمثابة عراقيل قد تزحزح الأبوة من مكانتها وصوابها).

تشمل الأضحية الرمز الأخير، أي الكبش أو ما يقوم محله، فهو يرمز إلى الغريزة الحيوانية المحضة، الخام، التي تسعى باستمرار لا ينقطع، إلى الإشباع الآني والتفعيل الحركي، ضاربة كل مانع  عرض الحائط.

فما هي أبعاد هذه الرموز في مناسبة عيد الأضحى ياترى؟

من تفحصنا  لهذه الرموز، نستخلص انها تقودنا لوجهتين متلاحمتين في عملية التضحية:

أولا، ذبح الكبش، أو ما يقوم محله، يهدف إلى تجنب التضحية بالذات، وهي رسالة إلهية واضحة، تدعم هذا الموقف النفسي في الحياة اليومية.

ثانيا، عملية الذبح وما ينتج عنها من مشاهدة الموت وسفك الدماء، تعني القيام بنحر وسحق الجانب النفسي التدميري الذي يحمل في دواخله اللذة والاستمتاع.

وكلا الهدفين يدفعان إلى تطوير النزعة التدميرية وتحويلها إلى ما هو إيجابي إلى التآخي والتعاضد والتضحية والرأفة، والعناية والحماية والسخاء..

هكذا نجعل ضعيف الإنسان يحتل المكانة الأولى للانتفاع بهذه العملية التطويرية النفسية، وبالخصوص كل فرد يعاني من الهشاشة والفقر والحرمان.

فالفريضة الدينية للأضحية، لا تختزل في  قضاء واجب خشية من العقاب الإلهي، بل إضافة لذلك، هي وسيلة تطويرية نفسية رمزية، لها جذور تاريخية جد قديمة، قصد الارتقاء بالنزوة المدمرة المتوحشة إلى مرتبة حضارية يسود فيها التعاطف والتضامن والتآخي الاجتماعي امتثالا للرسالة النبوية، وتماهيا مع شخصية أحسن المخلوقات، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي حضي بعناية ربانية متميزة وعصمه الله من النزوات المدمرة في قوله تعالى "ألم نشرح لك صدرك..."

ولربما، قد نعيد المياه إلى مجاريها، بفضل هذا التمعن، ونوجه عيد الأضحى إلى قصده النفسي الأخلاقي الاجتماعي الحضاري، فيصبح  عيد الترابط والسخاء الإنساني، وليس عيد التنافس والكبرياء وملء البطون..

***

د. سعد ابن الجنوي، محلل نفسي وأستاذ علم النفس المرضي بجامعة الحسن الثاني الدار البيضاء

في المثقف اليوم