قضايا

الدراسات الجامعية الدينيَّة.. قراءة أولية في ضعف مشاريعها البحثية

haidar shokanمع بداية القرن العشرين وبروز خطاب النهضة، حصلت تحولات تاريخية مفصلية في العقل الإسلاميَّ لم تكن من قناعاته التقليدية المتعارفة تاريخيًا، ومن بين هذه التحولات دخول العقل الدينيَّ -أكثر بكثير مما كان الحال عليه قبل ذلك- في دائرة المتغيّر، دائرة السياسة والاقتصاد وتحديات الحداثة المادية والفكرية التي تشكلت بمنأى عنه، ودون أن تتاح له الفرصة بالمساهمة فيها.

وكان المفترض أن يكون لانفتاح شريحة من الباحثين والمشتغلين بالعلوم الدينيَّة واطلاعهم على آخر منجزات العلوم الإنسانيّة التي لها صلة بالعلوم الشرعيّة، مثل: الهرمنيوطيقيا، والألسنية، وفلسفة العلم، والقانون والحقوق، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا وغيرها، أثرٌ مستمر ومتجذر في اكتشاف المناطق المستبعدة في دلالات الواقع التاريخي وانعكاسه على فهم النصوص الدينية، والكشف عن حالات التطور والجمود عبر التاريخ.

إلَّا أن هذا الحال أخذ بالتراجع بعد الصعود السريع للقوى الارتدادية الأصولية منذ هزيمة حزيران 1967م، إذ رفضت منجزات العلوم الحديثة بكل قوة وعنف، ورأت في الحداثة غزوًا فكريًا وعدوانًا على تراث المسلمين. وفرضت هذه القوى نفسها في المنطقة الإسلاميّة- العربية، فعبأت العقل الاجتماعي بمعارك مع الغرب استخدم فيها الإسلام وتراثه كقوة للتعبئة. وهنا حصل التوقف أو الفتور المعرفي لغربلة التراث وفحصه وفرز المكونات القاتلة، أو الميتة فيه. بعد ان كان الاعتقاد يتمحور في أن خطاب النهضة قد أجاب عن الأسئلة الحاسمة، وفكك مقدارًا معتدًا به من التراث الدينيّ. من ثَّم، فان عمر الحركة النقديّة للتراث الدينيّ لم تدم طويلًا، ولم يتعرض التراث لمسح شامل، كما حصل مع أوربا وتراثها المسيحيّ. فقد كانت المحاولات خجولة وناجحة نسبيًا، وهو ما يفسر لنا قوة الموجة الارتدادية للحركات الأصولية التي ملأت الشوارع والجامعات والبيوت، مستعينة بهموم المجتمع وفقره وهو ما جعله عاجزًا عن فتح الباب أمام الفكر الحر ونقده وتقبله.

يرى محمد أركون أن المسيحية الغربية عاجزة عن توليد حركات أصولية بمثل هذا الحجم والضخامة، لأن عقل التنوير مر بها، ولأن منهجية النقد التاريخي أصابت المسيحية في العمق وعزَّلتها ونفضت عنها ركام القرون. وهذا ما لم يستطع النهضويون العرب أو المسلمون أن يفعلوه بالنسبة للتراث الإسلاميّ حتى الآن(1).

ونتيجة لهذه الانتكاسة وقعت أغلب الجامعات الإنسانيّة- بكلياتها ومراكزها الدينيّة- تحت الضغط، فقدمت تنازلات طوعية وإكراهية لصالح التيار التقليدي التجييشي، مع المحافظة على قشور من التوجه التنويري.

من ينظر في عنوانات الدراسات الجامعية في الحقل الدينيّ- بشكل عام وأعني هنا الماجستير والدكتوراه - يجدها مسجونة في انتماء دينيّ وتاريخيّ محنط ومتكلس، ينتمي إلى العصر الزراعي والقبلي. وكل ما تقوم به هو سحب الماضي بحقبته- المضيئة والمظلمة من دون تفريق- إلى الواقع المعاصر وإن اصطدم معه اطرادًا. والمفترض أن أبرز خدمات الدراسات الجامعية ومكتسباتها أنها تقرأ بعقل نقدي في تكشيف التراث وتعريته وزحزحته.." فالماضي ينبغي قتله بحثًا" بعبارة أمين الخولي. أو "ضرورة تدمير المعرفة الخاطئة وتفكيكها قبل تأسيس المعرفة الصحيحة" بمقولة غاستون باشلار.

إن التأمل في التراث بمراحله ونقده بطريقة إيجابية ضرورة علمية ودينية وأخلاقية.

وأقول ضرورة، لأنه لا ينبغي القناعة بالإيمان القديم. فتنقيب التراث وفحصه وفتح ملفاته لاستحضار تساؤلاته ومعالجاته التي لها القدرة على الحضور النافع من شروط تجديد الإيمان.

يعلل بعض الزملاء أن النقد والتأمل والتفكير في التراث المرتبط بالقداسة والتجربة الدينية يؤدي في نهاية المطاف إلى الانفصال التام عنه "ومسح الطاولة" بتعبير بيكون. وهذا التبرير غير سليم علميًا، لأن التراث هو من ولَّد الحساسية الجماعية أو الذاكرة الجماعية خلال قرون عديدة، ولذ سيبقى ويستمر مهما كان التحليل والنقد فيه قويًا وصارمًا، بل سوف يبدو التراث أجمل وأنقى وأكثر متانة وقدرة على استيعاب المفارقات التي يعيشها الإنسان المسلم والأمة المسلمة. وهذه الدعوة ينبغي ألا تمنعنا من رفض النظريات والتحليلات الاختزالية التي تصر بلا مسوغ علمي على نزع صفة القداسة وشحنتها من نصوصه، ولا سيَّما الروحية، فيكون همها هو الانتقاص من قدره لا أكثر بدواعٍ وهمية أو كيدية، كما هو حال بعض الدراسات الاستشراقية.

أما أسباب المكوث في التراث والقطيعة مع مكتسبات العلوم الإنسانيّة الحديثة ومناهجها فكثيرة- وبعيدًا عما تقدم من عوامل السياسة والاجتماع- لعل أبرزها:

١-  تموضع أغلب حلقات الدرس الجامعي والأبحاث داخل العلوم التقليدية في برامجها ومناهجها وأدواتها وأهدافها، من دون الاستفادة من العلوم الحديثة، فمثلًا، لا تلمح حضورًا فاعلًا لدرس يؤشر إلى تطور الفكر الدينيّ وتأثره بالمحيط الخارجي من خلال رؤية مسبقة تقوم على جدلية التأثر والتأثير بين الفكر والقانون والقيم والأنساق التي ولد فيها. فالعقائد في العقلية المدرسية- الجامعية- تصور على أنها نشأت دفعة واحدة، لا على التدريج والترقي، وأنها يمكن أن تتعرض إلى الجمود التحجر. وان الجدل المذهبي له مؤثراته في صياغتها ورؤيتها لسؤال الكون والتشريع والمستقبل وو. وكيف استطاعة أن تنسينا زمنيتها كليًّا، فتظهر مجرد اطلاقات متعالية على التاريخ؟ والحال نفسه مع علم التاريخ، فلا يزال عدد غير قليل من الأساتيذ لا يميز بين " التاريخ الجديد" بالصيغة التي تشتغل عليها مدرسة الحوليات في تأكيدها على البحث في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والذهنيات، وبين التاريخ بوضعه التقليدي الذي ينهمك في ملاحقة الأحداث والوقائع فقط. والأمر لا يختلف في علم النحو، فثمة فرق شاسع بين علم النحو وفقه اللغة التقليدية وهو الممارس في الأبحاث العربية، وبين الألسنيات الحديثة، والطفرة الهائلة التي أنجزتها مؤخرًا.

وأقصى ما يمكن أن تجده في قاعات الدرس هو استحضار خطاب رواد النهضة من السيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد حسين النائيني والخالصي وحتى محمد باقر الصدر ومطهري وعلي شريعتي. وهذا التراث بنفسه هو بحاجة إلى الفهم والفحص والنقد لا عرضه وتقديمه والمكوث عنده لتصديره مرة أخرى، لأن الأهم هو استكمال هذه المرحلة وتجاوزها بعد أن حققت أهدافها المرحلية.

٢- العقل الدوغمائي لبعض الأساتيذ وضعف تحصيلهم العلمي واشتراطاته، فهم بشكل أو بآخر نتيجة هذه المؤسسات التي قل ما تفتح أبوابها أو تنفتح على الدراسات الحديثة.

٣- برنامج القبول وفتح مقاعد للدراسة غير مخطط له بشكل علمي. وإلَّا كيف يفسر أنّ عدد الطلاب الذين يتم قبولهم في سنة واحد يفوق "الكادر التدريسي" وإمكانياته العلمية. وهذا ما ينعكس على خيارات الأستاذ والطالب والموضوع.

4- حساسية المجتمع (الراكد) مع كل ما يزعزع تصوراته وقناعاته الإيمانية. فالمجتمعات المحافظة أو المتراجعة تشكل خطرًا حقيقيًا على تراثها الدينيّ أكثر من المجتمعات المنفتحة، بمعنى بديل، المجتمعات الساكنة هي التي تخاف من فتح أرشيف تراثها واختبار قدرته على الصمود مع الواقع المعاصر ودلالاته، ومن ثَّم فإن حساسيتها تكون أكبر وموانعها أكثر، بخلاف المجتمعات المتحركة والحيوية، إذا تكون ثقتها في تقبل الجديد أكبر، وهو ما يزيد ويطيل أمدها في الاستحقاقات والامتيازات. فلا تخشى التساؤلات مهما كان حجمها في عالم المعنى.

5- المؤتمرات والندوات والورش- في أغلب الأحيان- تعقد بالتعاون مع مؤسسات دينية لا تجيد إلا الاجترار المجاني والالتفاف على الموضوعات لأهداف أيديولوجية تحقق مصالحها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية من خلالها. مع أن الجامعات ومراكز أبحاثها ينبغي أن تستقل في رؤيتها المعرفية لتنخرط في هموم العصر وتحلل الأفكار والمعتقدات المهيمنة على صناعة المخيال السلبي لمجتمعاتنا وكشف التباساتها.

6- زد على ذلك أن الطالب عندما يأتي إلى الجامعة تجده مُعبّئًا بطريقة أيديولوجية في فهمه للتراث، لأنه قادم من مناهج دراسية محددة ،ومجالس تعليمية مغلقة، مع تغديته بالوعي المقلوب من خلال وسائل الإعلام .. من هذه العوامل وغيرها تكمن المشكلة والصعوبة في خلخلة وتحريك الجامد والمقمط في العقلية الجامعية في رسائلها وأطاريحها المقترحة والمكتوبة.

ويبقى أن التحصيل الذات وصناعتها بشكل علمي إنّما يأتي بجهد فردي، يتحمل فيه الباحث المسؤولية في تكوينه العلمي بمعزل عما تقدمه له الجامعة من خدمات.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلاميَّة.

..................

(1) قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، 171.

 

في المثقف اليوم