قضايا

الدكتور محمد بومخلوف ومساهماته في سوسيولوجيا التنمية بالجزائر

طلحة بشير مقدمة: من السهل الكلام عن مسيرة وانجازات الطالب لما تكون أستاذا ولكن العملية العكسية لا تصدق في الغالب و خاصة لما تكون المسافة بينك وبين أستاذك تفرض عليك احترامه وتحافظ على ذاك القدر من العلاقة بين الاستاذ والمربي والطالب، هذا ما يصدق على الدكتور بومخلوف، فهو شخصية علمية وإنسانية تركت بصماتها في كل من عرفه او تقرب منه، عرف بالتزامه ودقة انضباطه وجديته في العمل وفوق كل هذا بأخلاقه العالية، ولازلت اذكر الكلمات التي قدم بها الدكتور محمد سويدي طالبه بومخلوف خلال مناقشته لرسالة الدكتوراة والثناء الذي ناله بعلو أخلاقه وحسن سيرته، ولعلا هذه الشهادة يتقاسمها معه الكثير من الذين عرفوا الدكتور بومخلوف واشتغلوا معه.

بدأت علاقتي بالدكتور بومخلوف خلال مرحلة الليسانس تدريسا وإشرافا، ومع انتقاله لدولة قطر انقطعت أخباره، ومع قدومه تجددت علاقتنا من خلال الإشراف على رسالة الماجستير وكان عونا وسندا لنا من خلال هذه المرحلة لتستمر بعد ذلك حتي مرحلة الدكتوراة، اين استفدنا من توجيهاته ووافر كرمه اذ لم يبخل علينا بكلماته الطيبة وحسن مشورته الى ان وفقنا الله على اتمام هذه المراحل من التعليم، ودخولنا مرحلة التدريس ولازالت هذه الذكريات الطيبة المجسدة للعلاقة بين العالم والمتعلم بين الاستاذ والطالب حاضرة في وجداننا تحفظ له كل معاني التبجيل والوقار.

لما كلفت بالمشاركة بمداخلة حول اعمال الدكتور لم اكن على اطلاع واسع بما كتبه خاصة في مراحل تواجده بدولة قطر، اذ لم يصلني من كتاباته الكثير، ومع تلقي لأهم أعماله في الشق الذي كلفت بالحديث حوله حاولت جاهدا ان الم بأهم ماجاء فيها وربطه بافكاره وشخصيته العلمية التي اعرفها وطريقة تفكيره، ومع وجود كثير من التقصير نظرا للالتزامات التي تلازمت مع مرحلة كتابة هذه الورقة ومع إيماننا أكثر ان المجهود يبقي كبير على الأجيال الشابة في علم الاجتماع لصياغة وتدوين وتثمين الفكر السوسيولوجي للمدرسة الجزائرية التي كانت سباقة في العالم العربي في ترك بصماتها القوية من خلال الارث السوسيولوجي الغني، والذي يختلف معالجة وطرحا عن مثيلاته في كثير من البلدان العربية، وبالتالي هذه الورقة تقدم مساهمة متواضعة في محاولة اظهار مساهمات الدكتور بومخلوف فيما يخص قضايا التنمية بالجزائر، املا في ان يتم طرحها في اعمال اوسع وادق، وعليه فان تقديمنا لهذه المساهمة ضمناه ثلاث محاور اساسية تعبر عن معالجته في نظرنا لقضايا التنمية واهم اعماله السوسيولوجية.

اولا: قضايا التنمية، الرؤية والاستشراف

جاءت السياسة التنموية في الجزائر كاستجابة وردت فعل للوضعية الكارثية التي خلفها الاستعمار الفرنسي من خلال هيمنته على الجزائر واستغلال خيراتها بمقابل سياسة التجويع والحرمان التي طالت الجزائريين قرابة القرن والنصف القرن، كما أحدثت السياسة الاستعمارية تفكيك في بنية وتركيبة المجتمع الجزائري اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، جعلها تحتل المراتب الدنيا ضمن السلم الاجتماعي الذي أعطي الحق للمعمرين بمقابل السكان المحليين، وامام هذه الوضعية التي بدت اثارها واضحة على جميع الاصعدة عشية الاستقلال، لم يكن مقدر على الطبقة السياسية سوي تجاوز هذه الوضعية وترميم كل مخلفات السياسة الاستعمارية بتبني سياسة تنموية شاملة ليس على المستوي القطاعي بل المستوي الايديولوجي، وتصبح كل الجهود موجهة نحو انجاح هذه الاستراتيجية وتفعليها من خلال تبني العديد من المشاريع التي مست قطاعات مختلفة، تهدف اساسا الى تجاوز المرحلة الاستعمارية وخلق عدالة اجتماعية تضمن الحياة الكريمة للمواطنين، وان سارت بوتيرة مختلفة بين مرحلة انطلاقتها خلال سنوات الستينات وفيما بعد سنوات السبعينات اين شهدت توجهات صناعية كبري وتضاءلت مع نهاية الثمانيات، اين بدت هذه الإستراتيجية بعد حوالي ثلاثين عاما تقريبا غير مجدية وبدأت المناداة بضرورة اعادة النظر في هذه السياسة والتوجه العام للدولة بما تفرضه التغيرات الاقليمية والعالمية.

لقد تماشي الخطاب السوسيولوجي ممارسة وفكرا مع التوجهات الاولي للدولة، لذلك انعكست الكثير من انتاجات السوسيولوجيين الجزائريين بتبني خطاب يتوافق ومراحل بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها وشجع على تدعيم المسعى التنموي الذي انتهجته الدولة في مجالات وقطاعات عديدة بل ذهب البعض الى تعزيز التوجه الايديولوجي للدولة علميا باعتباره يخدم طموحات الشعوب والاجيال، وهذا ما عكسته العديد من الدراسات التي ظهرت لدي الجيل الاول والثاني من علماء الاجتماع بالجزائر، وان لم تخلو هذه الدراسات من الوظيفة النقدية التي يمارسها السوسيولوجي باعتبارها مهمة اساسية في بناء المعرفة العلمية للسوسيولوجيا.

واختلف الامر لدي علماء الجيل الثالث الذين وقفوا على اثار سياسات وتوجهات الدولة فيما يخص عمليات التنمية والتحديث التي مست هي بدورها بنية وتركيبة المجتمع الجزائري واصبح يحتم على علماء الاجتماع من خلال مهمتهم الوقوف ونقد هذه السياسة، وتجسد ذلك في العديد من الدراسات التي كان من بينها مساهمة الدكتور محمد بومخلوف في تقييم هذه السياسة والوقوف عند تداعياتها الاجتماعية خاصة، وشكل ذلك اهتماما بحثيا لديه باعتباره موضوعا بحثيا اقتضته التحولات الكبري التي شهدها المجتمع الجزائري خلال هذه الفترة، وهذا ماترجمته مجمل اعماله التي اعتبرت ممارسة نقدية للسياسة التنموية والصناعية المتبناة في الجزائر خلال العقود الثلاثة الاولي لمابعد الاستقلال، والتي كانت في رأيه نتيجة هيمنة فكرية " للفكر التنموي الخارجي وعلى وجه التحديد الفرنسي الذي مارس ضغطا شديدا في توجيه التنمية المستقبيلة بها، وخاصة في ظل الفقر الشديد الذي كانت تعاني منه الجزائر في هذا الميدان ولاسيما في الاختيارات التنموية في عالم ملئ بالصراعات والانقسامات الفكرية والايديولوجية " [1] " فقد وقعت الكثير من البلدان في فخ الاختيارات المرسومة من طرف مفكري وديبلوماسي هذه البلدان خدمة لاقتصادهم الذي بلغ مرحلة اخرى من تطور الراسمال "، ويتسائل بعد ذلك حول امكانية تخلص النموذج الجزائري في التنمية الصناعية من التأثيرات الخارجية وبخاصة مع التوجهات العالمية الجديدة ان ذاك التي كانت تتحدث عن العولمة واقتصادات السوق الحرة، كما يتسائل عن امكانية الاستفادة من بعض التجارب لدي الدول الاخرى في قارات مختلفة من العالم، واعتبر ان المرحلة التي تمر بها الجزائر في ذلك الوقت اي توجهات الاقتصاد الحر اخطر من مرحلة اقتصاد الدولة الموجه، كل هذه التساؤلات والاجابه عنها مرهون بضرورة تقييم المرحلة السابقة التي اعتبرت غنية فكرا وممارسة وتجاوز هفواتها في جانبها التنموي وخاصة البعد الصناعي الذي حمل معه الكثير من الانجازات والماسي في نفس الوقت.

تظهر مساهماته اكثر في العملية النقدية الممارسة على سياسة التنمية الصناعية المنتهجة بالجزائر والتي أوضحها في الفصل الثالث تحت عنوان " تقييم لأنماط التوطين الصناعي"[2]، التي استخلص فيها ان التوطين الصناعي خضع لجملة من العوامل الاقتصادية والمبادئ الاجتماعية التي فرضها النظام الاجتماعي والاقتصادي، مما جعله يقع في تناقضات عديدة ليس على هذا المستوي فحسب بل التناقضات ظهرت على مستوي المبادئ العامة للتنمية من جهة وبين الممارسات الواقعية من جهة اخرى.

1- العدالة الاجتماعية كبعد من أبعاد التنمية:

تشكل العدالة الاجتماعية بعد من ابعاد التنمية ومطلبا جماهيريا وفرديا على حد السواء يتم التأكيد عليه في العديد من المناسبات والخطابات باعتباره مسعى اجتماعي يطمح الى تلبية احتياجات الافراد وتطلعاتهم، بل قيمة اجتماعية ترتبط بالمجتمع الجزائري نتيجة ماضيه التاريخي الذي البسه ثوب الحرمان كما يشير الى ذلك الدكتور بومخلوف، بل يوضح على ان العدالة الاجتماعية اصبحت مسعى ومقاربة سوسيولوجية بتغليب الابعاد الاجتماعية على الابعاد الاقتصادية في التنمية وتقليص درجة الهامشية التي يعاني منها الافراد، وهذا ما يظهر في الاختلالات الحاصلة في عملية التنمية التي تحدث حركية غير متجانسة بين مناطق الجذب ومناطق الطرد وتفاضل إحداها عن الأخرى، فمن سهل قراءة واقع التفاوت مجاليا وماديا بين عديد المناطق من البلاد من خلال اخطاء السياسات التنموية التي تغلب جهة على حساب اخري او نتج عنه تضخيم للمناطق العمرانية التي تتمركز فيها الصناعة بخلاف المناطق الريفية الهامشية التي تفتقد للتوطين الصناعي.

كما يمكن الإشارة الى احد أبعاد العدالة الاجتماعية ممثلا في عملية التشغيل التي تتأثر بالمركزية الصناعية وعملية التوطين الصناعي وما ينتج عنها من خلل في توزيع المال الناتج عن الاستثمار بين المراكز الصناعية الحضرية والمناطق الريفية "[3].

فسياسة التشغيل بالجزائر اعتمدت أولوية الطلب الاجتماعي على الطلب الاقتصادي من اجل امتصاص البطالة السافرة فوقعت في البطالة المقنعة وذلك بمحاولة توفير شغل لكل من يطلبه وضمان دخل اقتصادي لأكبر عدد ممكن من الأسر الجزائرية، بغية تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية في إعادة توزيع الدخل الوطني " [4].

وهذا ما انعكس على طبقات عديدة في المجتمع الجزائري وجعلها لا تستفيد من الريع، هذه السياسات التي تنعدم فيها العدالة الاجتماعية سوف تنتج عنها مظاهر سلبية اجتماعية في توزيع الدخل الوطني تؤثر بدرجة كبيرة على المجتمع وتحدث بذلك حراكا مجاليا وتحضرا سريعا وتضخم للمواطن الصناعية التي يصعب التحكم فيها، بسبب التشغيل الغير مهيكل والغير السليم.

التباينات الريفية الحضرية التي تتجسد في الفضاء الحضري بين المركز والهوامش سوف تحدث تفاوتا بين انماط ايكولوجية حضرية واجتماعية كذلك هي من بين اهم نتائح سياسات اللاعدالة اجتماعية " فالعمران غير المخطط والعشوائي بالوسط الحضري الصناعي يعكس الفقر والحرمان الذي يعاني منه سكان المناطق الداخلية، الذين نزحوا بحثا هن العمل وعن تحقيق خياة اجتماعية افضل "[5].

ان العملية التنموية ببعدها الصناعي ممثلا في عملية التوطين الصناعي كما اشار له الدكتور بومخلوف، يفرز مجاليا ليس تفاوتا على مستوي مناطق الاستيطان بل على المستوي الاجتماعي والثقافي الذي تعكسه هجرات وتنقلات العائلات الموسعة والضيقة على حد السواء بحثا عن العمل والاستقرار والعيش الرغيد، مما تنتج عنه احياء متفاوتة مجاليا واجتماعيا وتجعلها ترتبط في الغالب كما يؤكد على ذلك الدكتور بومخلوف بالاصول وتحافظ على وحدتها الاجتماعية داخل هذه المجالات " ان استعارة التوطين الصناعي لبعض الأساليب في سياق عملية النقل دون مراعاة هذه الخصائص وهذا الواقع الاجتماعي والثقافي، قد تنجر عنه عدة مشكلات اجتماعية، وذلك مهما كانت هذه الاساليب ناجحة في موطنها الاصلي " [6].

خلاصة لما جاء في هذا العرض المقتضب الذي حاولنا فيه تتبع لاهم ماورد من افكار فيما يخص التوطين الصناعي باعتباره جزء تطبيقي لاستراتيجية التنمية الصناعية والتي بدورها تستمد من السياسة العامة للبلاد فيما يخص مشروعها التنموي، فيمكن التأكيد على المراجعة النقدية ذات الحس النقدي للتجربة التي خاضتها الجزائر في هذا المجال والذي كان الدكتور بومخلوف بمثابة الشاهد على تقيمها والحكم على اهم انجازاتها واخفاقاتها من خلال رؤية علمية نقدية تقويمية وقراءة تفكيكية لكل تداعياتها على مستوي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وربطها بالتصورات والمقاربات المختلفة للتنمية الشاملة التي يسعي اليها المجتمع والدولة، وهذا يدخل في صميم العمل السوسيولوجي المحض الذي يقوم به الباحث الاجتماعي من خلال نقد الواقع الاجتماعي وبناء نماذج تفسيرية تعيد ترتيب الواقعة السوسيولوجية وفق اطر هذا العلم دون التنازل عن كشف المستور منه، ولعل قوة طرحه بالنسبة لهذا الموضوع تظهر في الابعاد المتشعبة لقضايا التصنيع والتنمية والعلاقات الارتباطية في تفسير الواقع وتجلياته.

ثانيا: التحضر والتنمية

مما هو ملاحظ في اعمال الدكتور بومخلوف هو محاولة الجمع بين متغيرات بحثية كبري تشكل محاور بحثية لتخصصات علمية في علم الاجتماع ومحاولة الربط بينها وتقديم قراءة اشمل للواقع الاجتماعي الجزائري، وعلى الرغم ما لهذه المحاولة من مخاطر ابستمولوجية الا انها تسعى الى تقديم المشهد الاجتماعي بجميع حيثياته وتفريعاته، ولعل هذا ما جعل الدكتور بومخلوف يجمع بين تخصصات مختلفة داخل الحقل السوسيولوجي ويعتبرها ابعادا في التحليل، من جهة الصناعي باعتباره متغيرا مؤثرا والحضري باعتباره متغيرا متأثرا يسهل قراءة تمثلاته المجالية والتنموي باعتباره مسعى بحثيا ثالثا يزاوج بين الاثنين.

وفي هذا الشأن شكلت اهتماماته بالمجال الحضري والعمليات المصاحبة له مسعا بحثيا اخر أغنى به المكتبة العربية من خلال كتابه حول "التحضر"[7] وحاول ان يقدم من خلاله للباحثين والطلبة الذين كانوا بأمس الحاجة الى كتاب يجمع قضايا التحضر ومفاهيمه ونظرياته، ولقد وقفت في زيارة لاحدي المكتبات بالغرب الجزائري[8] كيف ان الطلبة يقبلون على هذا الكتاب لشدة الاقبال عليه كاد ان لا يبقي منه شئ، وهو عمل اراده ان يكون شاملا لكل نواحي الظاهرة بما تحويه من تعقيداتها، سواء على مستوى المفاهيم او المقاربات او حتي تتبع التطور التاريخي للتحضر بالجزائر من خلال القراءة الشاملة لتاريخ الظاهرة بالجزائر والتي تفتقد للقراءة السليمة حولها.

وتم التأكيد كما في محاضراته او مداخلاته على البعد الثقافي والاجتماعي للتحضر، الذي يجعل الافراد ينتقلون الى الفضاء الحضري دون اكتسابهم للمواصفات الحضرية كما اكدت على ذلك العديد من المقاربات الغربية التي ترى هذه الابعاد اكثر دلالة على عملية التحضر من غيرها من الابعاد الاخرى، كما يناقش المفاهيم من خلال حضور النموذج الجزائري الذي يمثل حالة من حالات السيرورة الحضرية المرهونة بالتطورات والمعطيات التاريخية تكاد تمثل استثناءا في العالم العربي نظرا لهذه الظروف.

وكما تم الاشارة اليه في الربط بين المتغيرات العديدة، يري الدكتور بومخلوف ان التوطين الصناعي يعتبر بعدا من ابعاد السياسة الحضرية الحديثة وذلك فيما يساهم فيه من " معالجة للمشكلات العمرانية وتوزيع السكان بين المناطق المختلفة من الرقعة الجغرافية الوطنية، وتخفيف الضغط السكاني على مناطق وتعمير مناطق اخرى "[9].

وللوقوف على هذه العلاقة تم اختيار نماذج واقعية يتم اسقاط عليها المقاربات المفسرة لظاهرة التحضر وعلاقة ذلك بالتصنيع وهو محور اشتغل عليه الدكتور بومخلوف في منطقة سيدي موسي كدراسة حالة.

وفي هذا الشأن يؤكد من خلال قراءته للواقع الجزائري النقائص الواضحة للسياسة الحضرية بالجزائر وعدم وجود نموذج تنموي قار ذو رؤية واضحة ومحددة بل تم معالجة المعطيات انطلاقا من حلول ترقيعية في الغالب نتجت عنها اثار اجتماعية واقتصادية ومجالية ميزت المدينة الجزائرية، كما اظهرت التخبط والعجز التسيري لهذه التراكيب العمرانية الجديدة التي بدت تتضخم على حساب الارياف والبوادي، وهو مجمل استخلاصاته للتجربة الحضرية بالجزائر" [10].

ان التفكير السليم يقتضي ربط الابعاد التنموية بالمعطيات الثقافية والاجتماعية، كمحفزات للتنمية ذات البعد الشمولي التي تسعي الى النهوض بمجتمعاتنا في المجالات العديدة وتجاوز حالة الركود والتخلف التي تشهدها مجتمعاتنا ولن يكون ذلك الى برؤية شاملة وفكر نابع من خصوصيتنا الثقافية والحضارية بعيدا عن الاستعارات المجزئة.

ثالثا: ابن خلدون: توجه بحثي

شكلت الخلدونية محور اهتمام وبحث لدى طلائع علم الاجتماع الجيل الاول والثاني في علم الاجتماع بالجزائر، وهذا ماظهر في العديد من طروحاتهم وانجازاتهم البحثية التي عدت متميزة بنظيراتها في المغرب او المشرق العربي، فهذا الاهتمام وبهذا الكم بالنسبة للفكر الخلدوني واستمرارية الاجيال في محاولة اظهاره وتبنيه لحد اللحظة، يعبر عن محاولة تجاوز القطيعة التاريخية التي اصيب بها الفكر الخلدوني وتقليص هامشها، وان كانت تظهر لدى مجتمعات المغرب العربي اكثر من المشرق، ولكن بخلاف المغرب يعد الاهتمام بالفكر الخلدوني في الجزائر اكثر قربا من علم الاجتماع الحالي مقارنة بالمنحي الفلسفي فى المغرب وهو منحى تم التاكيد عليه في العديد من الطروحات.

تعد مساهمات الدكتور بومخلوف على اهمية الفكر الخلدوني في تفسير الواقع الاجتماعي وخاصة مع تلازم حضور البني القبيلة للمغرب الاوسط خلال القرن الرابع عشر واستمراريتها من جهة ومن جهة اخرى قدرة هذا الفكر على استمراريته وديمومته من خلال الرؤية التي يمكن ان يقدمها للكثير من جوانب الحياة وهذا الجانب هو الذي يتم التاكيد عليه في العديد من اعمال الدكتور بومخلوف، بل يصبح المناداة باعادة بعث الفكر الخلدوني من خلال إدراجه ضمن المناهج التعليمية والبحثية أمرا إلزاميا بالنسبة له، ففي العديد من الأعمال يتم الإشارة دوما الى الفكر الخلدوني وحضوره ضمن الأطر المعرفية الحديثة، ولا يحتاج القارئ الى كثير عناء للوصول لهذه النتيجة، فهو حاضر في جل اعمال الدكتور بومخلوف، ولكن يمكن الاشارة هنا الى المقال الذي حاول من خلاله الدكتور بومخلوف تقديم قراءة معاصرة للاستبداد والتنمية في الفكر الخلدوني، باعتباره موضوع يتجاوز الزمان والمكان من خلال البناء النظري الذي قدمه ولاسيما في ظاهرة الاستبداد وكيف تصبح عائق امام بناء اي عملية تنموية.

بعكس الحرية التي تتيح للافراد الابتكار والثقة بالنفس وتعزيز قدراتهم الذاتية والجماعية، وبتتبع الطرح الخلدوني لهذه الظاهرة يحاول الدكتور بومخلوف عرض اهم المقاربات السوسيولوجية الحديثة لهذه الظاهرة ليؤكد في الاخير على العلاقة بين الاستبداد والتنمية لدي الفكر الخلدوني المستنبط من الواقع المعيش التي عاصرها كاتب المقدمة والتي تدعمها النظريات الحديثة، بل الاكثر حداثة، وتعطي اسبقية طرحه الواقعي، وهذا " مايدعو، بل يفرض العودة الى الفكر الخلدوني واستنارة به في فهم ومعالجة المشكلات التنموية المعاصرة، بابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية " [11].

الخاتمة:

إن الوقوف عند هذه العناصر لاستظهار مسيرة حافلة بالانجاز تدريسا وبحثا وانجازا علميا لا يفي الدكتور بومخلوف حقه، كشخصية علمية تركت بصمات واضحة لدى أجيال علم الاجتماع المتلاحقة بتخصصاتهم المختلفة وخاصة للذين تقربوا منه واشتغلوا معه في المشاريع العلمية، وكان عونا وسندا لهم بشخصيته الإنسانية المتسامية والتي استطاعت ان تستوعب الكثير منهم على اختلافهم، وهذا الجمع بين الأثر الطيب والعطاء العلمي المتواصل هو الذي جعله شخصية متميزة افتقدها الكثير، وجعلها حرية بالإشادة والتبجيل مما جعلنا نشير في ثنايا هذه الورقة الى الجوانب الإنسانية إضافة للعلمية مع إيماننا أننا لم نوفيه حقه بعد، أملين ان تكون هناك أعمال أكثر عمقا من ناحية الطرح والتحليل لاستجلاء جزء من مسيرة من قادوا قاطرة علم الاجتماع بالجزائر، فأطال الله عمره ووفقه الى الخير وجزاه الله عن الأجيال كل خير وآجره على ذلك.

***

الدكتور : طلحة بشير

قسم علم الاجتماع – جامعة الاغواط

.....................

المراجع:

- محمد بومخلوف، التوطين الصناعي وقضايا التنمية في الجزائر التجربة والافاق، دار الامة، الجزائر، 2001.

- محمد بومخلوف، التحضر، دار الامة، الجزائر، 2001.

- محمد بومخلوف، " إشكالية التنمية: محاولة سوسيولوجية لايحاد اطار جديد للتحليل في البلدان النامية"، مجلة الإنسان، مركز البحوث في الانتربولوجيا وماقبل التاريخ والاثنوغرافيا، الجزائر، 1983.

- محمد بومخلوف، الاستبداد والتنمية في فكر ابن خلدون قراءة معاصرة، مجلة العلوم الاجتماعية، عدد خاص باعمال الملتقي الدولي حول واقعية الفكر الخلدوني، قسم علم الاجتماع والديمغرافيا، جامعة الاغواط، ايام، 29 – 30 – 31 اكتوبر 2005، العدد 2، السنة الدراسية 2008/2009.

هوامش

[1]  محمد بومخلوف، التوطين الصناعي وقضايا التنمية في الجزائر التجربة والافاق، دار الامة، الجزائر، 2001، ص 32.

[2]  نفس المرجع، ص 71.

[3]  نفس المرجع، ص 107.

[4]  نفس المرجع، ص 108.

[5]  نفس المرجع، ص 112.

[6]  نفس المرجع، ص 115.

[7]  محمد بومخلوف، التحضر، دار الامة، الجزائر، 2001.

[8]  مركز التوثيق الاقتصادي و الاجتماعي بوهران.

[9]  مرجع سبق ذكره، ص 79.

[10]  نفس المرجع، صص 139-140.

[11]  محمد بومخلوف، الاستبداد والتنمية في فكر ابن خلدون قراءة معاصرة، مجلة العلوم الاجتماعية، عدد خاص باعمال الملتقي الدولي حول واقعية الفكر الخلدوني، قسم علم الاجتماع والديمغرافيا، جامعة الاغواط، ايام، 29 – 30 – 31 اكتوبر 2005، العدد 2، السنة الدراسية 2008/2009، ص 447.

في المثقف اليوم