قضايا

رحلة غوميلوف إلى منطقة بحيرة تشاد بين الواقع والخيال

خليل حمديحتل الأديب نيكولاي غوميلوف Nikolai Gumilev (1886- 1921م)مكانة عالية فريدة في تاريخ الأدب والشعر الروسي، وهو أديب ناقد، ومؤرخ مستكشف، ومترجم خبير، يتقن خمس لغات، وقد تناول في أعماله الأدبية تسجيلاً دقيقاً لأوصاف البلاد والمناطق التي سافر إليها، أو مرّ بها.

وتكمن أهمية رحلات غوميلوف، في كونها قد لعبت دوراً كبيراً في استنطاق مواهبه الإبداعية، فنتجت من ذلك مجموعة قيمة، من روائع من الأشعار، والقصص الأدبية المتنوعة؛ مما تكوّن منه لون رفيع الشأن من أدب الرحلات"، يحتوي تراثاً قيماً زاخراً، وعملا أدبياًّ راقياً، يقدم قصة وأفكارا متماسكة وذات قيمة، ولا يقتصر على مجرد تسجيل التواريخ والأحداث.

ومن بين الناطق التي حظيتْ باهتمام كبير من غوميلوف، وتكرر ذكرها في أعماله شعراً ونثراً:منطقة " بحيرة تشاد" الواقعة في وسط أفريقيا جنوب الصحراء؛ فقد تناولها في قصائده، كما خصّها بكثير من القصص، ورسم حركة الحياة فيها، وأنماطها وجمال البيئة، وملامح السكان، في تصوير فني بديع مبتكر، يتميز بصوره الحية وألوانه الزاهية، يستحضر تاريخاً خالداً مجيدأً.

وأنتج كلاًّ من الشعر والكتابات النثرية الحوارية والقصص الصغيرة عن القارة الأفريقية وثقافتها، وقام برحلات منتظمة مهمة إلى مناطق متفرقة من قارة إفريقيا، [1] واستطاع من خلالها أن يندمج مع المجتمع الأفريقي اندماجًا مكّنه من الحصول على أدق المعلومات، فيما يخص نمط الحياة والأجناس والقبائل والثقافات والمعتقدات والعادات، والنبات والمحاصيل الزراعية، وتأقلم مع البيئات الأفريقية التي سحرتْه بطبيعتها الخلابّة، ومشاهدها الناطقة بالحيوية والجمال الباهر، فتعلق بها وعشقها، بل اتخذها معادلاً موضوعيّا، فأخذ يعبر عن أحوالها ويجسّد مناظرها في أشعار بديعة، أطلق عليها النقاد" القصائد الأفريقية"، كما قام غوميلوف ومساعده نيكولاي سفرشكوف بإنتاج أكثر من 200 صورة فوتوغرافية رائعة عن أفريقيا، وأحضر أنواعاً من القطع الأثرية من التراث الأفريقي، وقدّم المجموعة هدية إلى متحف روسيا الوطني في سانت بيترسبرغ .

و تشير زوجته أخماتوفا في مذكراتها إلى أن "الخيمة" كتاب جغرافيا في الشعر، واستندت إلى مذكرات غوميلوف الخاصة، من ذلك قوله: "أنا الآن أبحث في إفريقيا، هذه القبائل الأفريقية السوداء، يجب أن أكشف كيف تخيّلوا العالم لأنفسهم " . وقد عُثر - من بين الأوراق الوثائقية من تراثه- على خطة وضعها لتأليف كتاب باسم "الجغرافيا في شعر"، بحيث يضم عدة أقطار من العالم، وسجل في القسم الذي خصّصه لأفريقيا أنه كان ينوي كتابة قصائده عن طريق رحلة خيالية حول إفريقيا.

و من المستبعد أن تكون رحلات غوميلوف إلى أفريقيا كلها خيالية؛بل هي – أغلبها على الصحيح- رحلات حقيقية وقعت بالفعل، وهناك عدة أدلة على أنه زار بعض المناطق من أفريقيا، وعاش فيها فترة، بل تردد على بعض البلاد، كما حدث مع أثيوبيا، وله خريطة سفر رسمها بنفسه، وقد عثر عليها الكاتب.[2]

و يبدو أنه اطلع على ما كتبه بعض الأوربيين[3] الذين سبقوه بالرحلة إلى أفريقيا، [4] ومن هنا يحتمل أن يكون استقى بعض المعلومات منهم، خاصة فيما يتعلق بالأماكن التي لم يسافر إليها هو شخصياًّ، وهذا أمر طبيعي.

و لا يمكن أن يعتبر الشاعر كاتبًا سياسيّا، فيما يتعلق بكتاباته عن إفريقيا، لكن يمكن أن توصف آراؤُه عن أفريقيا بأنها استشراقية بمعايير اليوم، فهو مؤرخ مستكشف، وأديب ناقد، ومستفرق[5] أقبل- بشغف وحب استطلاع- على دراسة أفريقيا أرضاً وشعباً وثقافة، وقصائده ذات الطابع الأفريقي لا تحمل طابع حبّه الحقيقي وفهمه للثقافات الأفريقية المتنوعة فحسب، بل تحمل أيضًا – في طيّاتها- طابع الاندماج الفعلي مع هذه الثقافة، اندماجاً مكّنه أن يكون دقيقاً في تصوير هذه الثقافة الأفريقية من الداخل.

وقفة مع رحلات غوميلوف:

البلاد التي سجل التاريخ أنه زارها فعلاً: " لندن، وإيطاليا، بروسيا أو ليتوانيا، وأثينا باليونان، وإسطنبول، وو بيروت، وباريس، وأثيوبيا- و أخذتا النصيب الأكبر من رحلاته، ثم جيبوتي، الصومال، وإريتريا، وتنزانيا، وزنجبار، وجبل كيليمنجارو، بالإضافة إلى مصر( القاهرة والإسكندرية)، هذه الرحلات موثَّقة بأدلة.

و هناك بلاد ورد ذكرها على لسانه ووصفها وصفاً يوهم أنه زارها فعلاً، ولكن تبيّن أنه لم يسافر إليها، إلا أن يكون عبر القراءة في الكتب، وعن طريق التخيل المستنير بالثقافة ؛ ومن البلاد التي وصفها أو كتب عنها شعراً، ولم يصل إليها:أمريكا، واليابان، والهند، وتوغو. بالإضافة إلى إيران؛ وتم التحقق من هذا بالاعتماد على خريطة سفرياته وبعض الأرشيفات من تراثه، وإلقاء النظرة على جواز سفر، بواسطة الباحثة صوفيا باجداساروفا.

أما سفره إلى منطقة بحيرة تشاد، فلم يعثر الكاتب على مصدر علمي يذكر متى كان ذلك؟ وكيف؟ وما هي المناطق التي أقام بها، أو مرّ بها هناك؟ على الرغم من أن غوميلوف كان يصف بحيرة تشاد وصفاً دقيقاً ينِمّ عن معرفة دقيقة بالمنطقة؛ حتى إنه تناول مراراً اسم" بحيرة تشاد" في شعره، بل في القصة القصيرة الجميلة التي كتبها باسم" الأميرة زارا"، وهي سيدة من منطقة بحيرة تشاد، وذكر الشيء الكثير من عادات السكان، وأسماء بعض القبائل في تشاد، والحيوانات والأجواء التي تسود المنطقة ليلاً ونهاراً، إلى جانب تجسيد أشكال الحياة، والتصوير البارع للمناظر الناطقة بالجمال والبهاء هناك.

تحدث غوميلوف في قصة" الأميرة زارا" عن رحلته من بحيرة تشاد إلى زنجبار قائلاً:" ورسم الكاهن العظيم على جبيني علامة الرسول وأشار لي إلى الطريق. فاتّبعت مجرى نهر شاري حتى بلغت منطقة نيام- نيام التي يقطنها أُناسٌ قِصار القامة بَشِعون يلتهمون بعضَهم بعضاً ويعبدون إلهاً يعيش في حجَر أسوَد. لقد ملأ الضباب السامُّ في أوكيرويِ جسدي بالحمّى، وبالقرب من نْغِزة انتصرت على أفعى ضخمة، وتعقّبني أهالي بياز أربعين يوماً إلى أن ظهر لي، أخيراً، إلى يساري بريق ثلوج كليمَنجارو الفضية. واكتمل الهلال بدراً ثماني مرّات قبل أن أصل إلى زنجبار".

و مع هذا لا يستطيع الكاتب أن يجزم بأن غوميلوف سافر إلى المنطقة على نمط سفره إلى مناطق شرق أفريقيا وبعض الأماكن من شمالها، وقد بعث الكاتب رسالة إلى معهد الدراسات الأفريقية التابع للأكاديمة الروسية للعلوم – مستفسراً عن تحقيق رحلة غوميلوف إلى منطقة بحيرة تشاد؛ ولم يحصل على ما جواب يسعفه. ولكن هناك احتمال أن يكون الرجل قد جاء إلى المنطقة حقيقة، مع الإمكان أن يحدث ذلك تخيّلاً، بشكل عام، ويؤكد موقع روسي متخصص أن"هناك القليل من المعلومات الوثائقية (وليس الشعرية) حول رحلات جوميلوف. قال جورجي إيفانوف، على حد قوله: "السفر في إفريقيا مقرف. الحرارة. الزنوج لا يريدون أن يطيعوا، ويسقطوا على الأرض ويصرخون: "كالاس" ("لن أذهب أبعد من ذلك"). عليك أن ترفعهم بسوط. أنت غاضب جداًّ"[6] .

و مع ذلك يبقى التساؤل يطرح نفسه هنا:هل كانت رحلة غوميلوف إلى بحيرة تشاد واقعية أم أنها خيالية؟

رأى علماء العرب قديماً أن قوى الخيال تعدّ من أعجب القوى المدركة,، حيث يمكن للإنسان عن طريقها وفي ساعة واحدة أن يجول في المشرق والمغرب والسّهل والجبل وفضاء الأفلاك وسعة السّموات، ويتصوّر من الأشياء ما له حقيقة، وما لا حقيقة له، فيتخيّل بهذه القوّة طائرًا له أربع قوائم، أو فرسًا له جناحان، وما شاكل ذلك، ممّا يعمله المصوّرون من الصّور المنسوبة إلى الجنّ والشّياطين وعجائب البحر. لهذا الأمر ازداد احتلال عنصر الخيال على جانب لا يستهان به من أدب الرّحلات. فأدب الرّحلات لا يسعه البتّة أن يكون له وجود إلّا إذا أقام نوعًا من التّوازن بين الخيال والواقع.

الخيال – في العمل الإبداعي- مركبة فنية عجيبة، يمتطيها الأديب المبدع، لتحلق به في فضاء الإبداع الفسيح، متخطّياً حواجز الحدود المصطنعة في التصورّ الحسّي، إلى آفاق شاسعة المدى، من العوالم الخيالية المفتوحة، هي أرحب وأفسح مجالا.و أبلغ تعبيراً، بحيث تتسق عناصره التي تتشكل منها الملامح، في توافق وانسجام فائق الوصف؛ لترسم ما هو أبدع في فن التصوير الجمالي الرائع، بآلية تعبير مميز، يحمل إيحاءً خاصّاً، يضفي على النص الإبداعي جمالاً ومتعة وتشويقاً، يتخذ منه المبدع سبيلاً ينفذ إلى نقل التجربة والتأثير في نفس المتلقي.

و يصدق القول بأن الخيال وحي فني، يتميز به الأديب المبدع عن الإنساني العادي، في التفكير والتصور والخطاب.

وعلى هذا، فلا غرابة أن يقوم بعض المبدعين برحلات على متن مركبات الخيال العابرة المحلّقة إلى ما وراء التصور الحسي، وقد سجّل التاريخ الأدبي نماذج ناجحة من ألوان الرحلات الأدبية، بنوعيها الواقعية الحقيقية، والخيالية التي تعتمد الوصف التشخيصي القائم على الخيال المجنّح، دون مباشرة الواقع الميداني؛ ونتج عن ذلك إبداع متميز قيم، شعراً ونثراً.

و تزخر المصادر الأدبية بما اصطُلح على تسميته بــــــــ" أدب الرحلات"، وهو نوع من الأدب الذي يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور، في أثناء رحلة قام بها إلى أحد البلدان. وتُعد كتب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، والتصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية، ممتعة ومسلية. هناك عدد كبير من الروايات والقصص يمكن أن يندرج بصورة ما تحت مسمى أدب الرحلات، فهذا المسمى الواسع يتناول أعمال ابن بطوطة وماركو بولو وتشارلز داروين وأندريه جيد وأرنست همنجواي، رغم التباين الكبير فيما بينهم؛ لكن الفكرة التي تجمعهم هي فكرة الرحلة نفسها، الرحلة الزمانية أو المكانية أو النفسية.

و تندرج تحت اسم "أدب الرحلات" مجموعة كبيرة من الكتابات المختلفة في نواحٍ متعددة، من حيث أسلوب الكاتب، ومنهج الكتابة، والغرض من الكتابة، والجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب، واهتمامات كل منهما، الكاتب وجمهوره. لكن هذه الكتابات تشترك كلها في أنها تصف رحلة يقوم بها شخص ما إلى مكان ما لسبب ما.

ويمكن تلخيص الأهداف الرئيسة التي يتوخى بلوغها في مجال أدب الرحلة فيما يلي[7]:

1- تعزيز الحوار من خلال تشجيع أدب الرحلة وترجمته؛

2- تيسير الوصول إلى أعمال أدب الرحلة الأقل شهرة، وخاصة تلك المكتوبة باللغات المستخدمة على نطاق محدود، وتلك الأعمال الأقل حضوراً في الساحة الدولية.

3- تشجيع المزيد من التنوع في الملتقيات الأدبية الدولية ونشر الأعمال الأدبية لفائدة جميع الفئات العمرية.

4- صياغة منهجيات مبتكرة للإبداع الأدبي، وتشجيع الترجمة ودعمها وتدريب مترجمي الأعمال الأدبية العاملين باللغات الأقل استعمالا.

5- تحفيز أنماط التواصل الجديدة متعددة الأطراف، وأشكال التعاون والمشاريع المبتكرة التي تمكن أدب الرحلة من التفاعل مع غيره من الأجناس الفنية، واستكشاف الدور الاجتماعي والسياسي للكتابة.

6- تحفيز النقاش حول القضايا ذات الصلة بالحوار بين الثقافات.

7- إيجاد فرص لتبادل الأفكار ونقل المهارات والمعارف، وتبادل الخبرات والموارد بين المنظمات والمؤسسات من أجل تشجيع الحوار والتواصل بين الثقافات بأفضل السبل الممكنة.

و نشط أدب الرحلات أساساً على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما تقع عليه عيونهم أو يصل إلى آذانهم حتى لو كان خارج نطاق المعقول، ويدخل في باب الخرافة.

وبالإضافة إلى تسجيل رحلات الرحالة، هناك نوع آخر من أدب الرحلات هو القصص الخيالية الشعبية مثل: سندباد الذي يُعد رمزاً للرحالة المدمن للرحلة، والقصص الأدبية مثل: قصة ابن طفيل عن حي بن يقظان، ورسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، والملاحم الشعرية والأدبية الكبرى في تاريخ الإنسانية تعد كذلك من أدب الرحلات، مثل: ملحمة الأوديسا الإغريقية. وملحمة جلجامش البابلية، وملحمة أبو زيد الهلالي العربية. وغيرها؛[8] لأن هذه الملاحم تنبني في جوهرها على حكاية رحلة يقوم بها البطل لتحقيق هدف معين، وقد تنبني تلك الرحلات الأسطورية على بعض الوقائع التاريخية أو الشخصيات الحقيقية في عصر ما، ثم يترك الشاعر لخياله العنان؛ ليخلق الملحمة التي هي خلاصة رؤية المجتمع لقضاياه الكبرى في مرحلة زمنية معينة.[9] وفي العصر الحديث أصبح أدب الرحلات شكلاً فنيًا داخلاً في الأدب، وليس دراسة تاريخية وجغرافية حيّة كما كان من قبل.[10]

و لا ينقص قيمةَ العمل الإبداعي- في أدب الرحلات- أن تكون الرحلة حقيقية أو خيالية؛ فلا تعدّ واقعية الرحلة شرطاً لاكتساب النتاج القيمة؛ بل العبرة في ذلك بمستوى جودة العمل، واحتوائه العناصر الأساسية التي تتشكل بها القيمة الفنية؛ مثل براعة الوصف ودقة التصوير الفني، وسعة الخيال، وجمال التعبير، وعمق الفكرة، واتساع الرؤية وشموليتها وبُعْدِ مداها، وابتكار العناصر الجمالية الجديدة، والجمع بين الإمتاع والتشويق والإفادة.[11]

و في قصيدته"بحيرة تشاد" تناول وصف البيئة وعناصرها الطبيعية، ورسم حركة الحياة وأنماطها وجمال البيئة، وملامح السكان، وبعض العادات، وهو وصفٌ لا يختلف كثيراً عن ما كتبه في قصة قصيرة باسم:" الأميرة زارا"، [12] إلا أن ما في القصة أوسع وأشمل، وأدقّ، حيث يقول:"أحقاً أنت من قبيلة الزغاوة [13]القريبة من بحيرة تشاد؟ سألت العجوز عندما صار رفيقها في السفر تحت ضوء القمر"، ولا يفوته أن يشير إلى الوجود العربي في المنطقة في قوله:"انكشفت أمام العجوز عضلات عظيمة تحت جلد غامق لعربيّ مولود في أفريقيا (...) يلحظ هذا العربي الجميل شيئاً"، ويتأنّق في تصوير المناظر الطبيعية والأشجار، والأجواء الجميلة، وبعض الحيوانات، كأن فناناً تشكيلياًّ يرسم لوحة فنية ناطقة بالجمال الباهر، حين يقول:"إلى نخلة. سوف ننطلق مثل طيرين عبر الغابات والسهوب، وفي قوارب طويلة سريعة سوف نعبر أنهاراً مزبِدة إلى أن تتألّق زرقة المياه المقدّسة في بحيرة تشاد. على ضفّتها يوجد وادٍ محرّم على البشر. هناك بساتين من باسقات النخيل العريضة السعف، ثمارها الناضجة البرتقالية اللون تتلاصق محيطة بغدران فضّية يفوح منها عبق البنفسج ونبات الصبّار المُسكِر. هناك الشمس رقيقة حنون، لا تنفث القيظ، يمتزج بريقُها بعذوبة الرياح. هناك النحل من ذهبٍ غامق يحطُ على ورودٍ أبدع من مناديل الملوك الغابرين. كل شيء هناك، الشمس والورود والهواء، يتكلّم ويحلم بكِ. ستسكنين كهفاً جميلاً من المرمر، وشلالاتٍ تتراقص مثل الخيل ستبهج نظراتك الهادئة، وستغدق الرمال الذهبية قبلاتها على ساقيك الرشيقتين، وستبتسمين للقواقع العجيبة الأشكال. وحين يجيء سرب الزرافات وقتَ الغروب ليشرب، ستداعبين حرير جلودها المهيبة البذخ، وفيما ينعمن بالمداعبة، سيتأمّلن عينيك الطافحتين بالإعجاب".."على غِرار شمس المساء... وعندئذ تجتمع القبيلة الجبّارة على قرع الطبول من جديد...ومن جديد يدلّ الكاهن العظيم من هو جدير ...""قد لامس القمر البيضوي في هبوطه الذي لا يتغيّر غابةَ المنغوليا، وقريباً ستشرق الشمس الفتيّة فوق المحيط الورديّ. أسرعي قبل أن ينهض من النوم ".

"من مكان ما شديدِ القرب منهما، كان يترامى غامضاً هدير المحيط الغائب عن النظر، فيُسكِر بأنفاسه العليلة الهواء الراكد في الليل الاستوائي. وطفا ضوء القمر شعاعات فضية على ماء أحواض سوداء رقراقاً في قطرات تجمّدت على رُخام درجات السلّم الزهرية اللون. وتدلّت النجوم قريبة غاية القرب، وكانت كاذبة وواثقة مثل عينَي فتاة ارتكبتِ الخطيئة وتريد ستْر عارها. لماذا جاء إلى عالم هذا الثراء والذنوب ابنُ سهول فسيحة وأدغال خضراء، مقاتلٌ ممشوق القامة ذو قلادة من أنياب الأسود؟"، "ما السهول الفسيحة، ما أيّام الصيد المرِحة، وأفراح المجد"

و يسجل ما يتعلق بالعطور وأدوات الزينة والتجميل، وبعض أنواع الملابس للسكان:"تنتشر رائحة المِسك والعطور الهندية من جسد الأنثى الفتيّة، كانت الأميرة زارا ملتفّة كلّها بالحرير، جالسةً على تخت منخفض ووسيع. خُيِّلَ أنه ليس للحب، بل لشيء أسمى خُلِقت شفتاها الجامدتان، كأنما قُدّتا من عقيق، وقامتها الشديدة النحول، وعيناها البديعتان بنظرتهما الحزينة المُلغَزة. في يديها العاريتين حتى المرفق كانت ترنّ أساور ذهبية منقوشة، وكان قوسٌ ضيِّق يسند ما لخصلات شعرها من ثقل باذخ. أدرك الوافد الوسيم أنه لم يخطئ بالمجيء. انحنى، وبصوت يتقطّع من الاضطراب، طلب إلى " جاء ...من بحيرات يغطيها الدُّخان والوديان الخطيرة إلى زنجِبار. لم تُجِب زارا بشيء".

و يتحدث عن رحلته من بحيرة تشاد إلى زنجبار قائلاً:" ورسم الكاهن العظيم على جبيني علامة الرسول وأشار لي إلى الطريق. فاتّبعت مجرى نهر شاري حتى بلغت منطقة نيام- نيام التي يقطنها أُناسٌ قِصار القامة بَشِعون يلتهمون بعضَهم بعضاً ويعبدون إلهاً يعيش في حجَر أسوَد. لقد ملأ الضباب السامُّ في أوكيرويِ جسدي بالحمّى، وبالقرب من نْغِزة انتصرت على أفعى ضخمة، وتعقّبني أهالي بياز أربعين يوماً إلى أن ظهر لي، أخيراً، إلى يساري بريق ثلوج كليمَنجارو الفضية. واكتمل الهلال بدراً ثماني مرّات قبل أن أصل إلى زنجبار".

و يلاحظ مظاهر تأثُّر بعض السكان من المسلمين بالشعائر الإسلامية، فيقول:" تؤمن قبيلة.. بالنبي، والنبي لطيف بها. لقد مّنَّ عليها بسعادة عجيبة. ففي غاباتنا تعيش العذراء الطاهرة التي هي أحَبُّ مَن خلقَ الله، بهجة الناس ومجدهم. إنها من حيث طبيعتها واحدة وإلهية معاً"

كما تحدث عن بعض الأحداث التي يتكرر وقوعها في القرى خاصة في تلك الفترة الغابرة من عمر الزمان، يقول:

"أجابها الوافد الطويل القامة:أنا من بحيرة تشاد العظيمة والمقدسة. أنا الابن الأصغر لشيخ القبيلة، يَعدّونني قويّاً بين الأقوياء، وشجاعاً بين الشجعان. في المعارك الليلية، انتصرت مراراً على أُسودٍ ذهبيّة اللبدة تزأر، كانت الفهود الفتّاكة ما إن تسمع وقْع خطواتي حتى تلوذ بالفِرار فزعاً. والصبايا السمراوات من القبائل الغريبة".

"وعند بزوغ الفجر، كان ضبْعٌ فتّاك قد مزّق الجمل الأبيض المربوط إلى جذع نخلة".

من اليمين صورة منطقة بحيرة تشاد الاستوائية، تليها صورة زرافة تقصد مغارتها وقت الغروب، وبالجنب تظهر أخماتوفا- زوجة غوميلوف- صور من مجموعة غوميلوف الأرشيفية.

***

كتبه خليل حمد / الكاميرون

...................

[1] ينبغي التنويه هنا إلى أن غوميلوف ليس هو أول شخص روسي قام بالرحلة إلى أفريقيا؛ فهناك رحالة روس سبقوه بالسفر إلى إفريقيا، وآخرون اقتفوا أثره، ومن أشهرهم: يونكر (1840- 1892)، هـ. كوفاليفسكي (1809- 1868)، وقام فافيلوف (1887- 1943)، برحلة استكشافية إلى إثيوبيا في عام 1927م، أي بعد وفاة غوميلوف بنحو ست سنوات، ودرس أصول النباتات المزروعة، ونتيجة لذلك تم تحديد مناطق منشأ محصول القمح.

المصدر: موقع روسي يُعنَى بتاريخ الاستكشاف الجغرافي لأفريقيا- المستكشفون الروس:https://hotel- all.ru/ar/crimea/russkie- puteshestvenniki- i- ih- otkrytiya- 19- vek- russkie- puteshestvenniki- xix- veka- podgotovka- novoi- eks/

[2]- قدم الباحثون الروس إسهامات علمية كبيرة في دراسة القارة الأفريقية، ويعتبر المستكشف فاسيلي يونكر Juncker من أعظم المستكشفين الروس في أعالي النيل والجزء الشمالي من حوض الكونغو. بدأ رحلته في تونس حيث درس اللغة العربية. اختار مناطق أفريقيا الاستوائية والشرقية كموضوع للبحث، وسافر عبر الصحراء الليبية، وأنهار البركة، والسوبات، رو ول، وجوت، وتونجي. وزار بلاد ميتا، وكاليكا.

وجمع مجموعة نادرة من عينات النباتات والحيوانات، وكانت دراساته لرسم الخرائط دقيقة، وقام برسم أول خريطة لأعلى النيل، كما كان بارعاً محيطاً في وصف النباتات والحيوانات الأفريقية، واكتشف حيوانًا غير معروف له ستة أجنحة، وسجل البيانات القيمة والإثنوغرافية التي قام بجمعها، وأجرى دراسة إحصائية قيمة وموسعة عن القبائل الأفريقية.

[3]- وتجدر الإشارة إلى أن الرحالة الروس غالبيتهم يتقنون العديد من اللغات الأوروبية الحية، إلى جانب معرفتهم الجيدة باللغتين اللاتينية واليونانية، مما أتاح لهم إمكانية الاطلاع على مؤلفات المؤرخين الأوروبيين القدامى وأعمال المستشرقين والرحالة المعاصرين حول مناطق أفريقيا. المصدر:https://hotel- all.ru/ar/crimea/russkie- puteshestvenniki- i- ih- otkrytiya- 19- vek- russkie- puteshestvenniki- xix- veka- podgotovka- novoi- eks/

[4] - في نهاية القرن الثامن عشر - بداية القرن التاسع عشر، اهتمت إنجلترا وفرنسا ودول أوروبية أخرى اهتمامًا متزايدًا بدراسة القارة الأفريقية. ليس فقط من أجل الأغراض العلمية فحسب؛ بل أ من أجل الأهداف العسكرية والمخططات الاستراتيجية والاستعمارية.

المصدر:https://hotel- all.ru/ar/crimea/russkie- puteshestvenniki- i- ih- otkrytiya- 19- vek- russkie- puteshestvenniki- xix- veka- podgotovka- novoi- eks/

[5] - المستفرق: الذي يتخصص في الدراسات الأفريقية، من غير الأفارقة، وبعضهم يصطلح على تسميته" الأفريقاني" وأما المستشرق فهو مصطلح يطلق على المتخصص في الدراسات الشرقية من غير الشرقيين، ويكثر إطلاقه على الغربيين المهتمين بالتراث العربي أو الإسلامي.

[6]- Заглянем в загранпаспорт Гумилева

[7]- أدب الرحلات ودوره في تلاقح الحضارات، بقلم د. محمد اشتاتو، بتاريخ 6 يوليو 2020

https://www.futureconcepts- lb.com

[8]- ظهرت في العصر الحديث ملاحم شعرية عديدة؛ منها : ملاحم أحمد محرم، وأبي شادي مؤسس جماعة أبولو بالقاهرة، وملحمة الهمشري الرائعة" على شاطئ الأعراف".

للتوسّع في هذا:1- السياحة ضد أدب الرحلات، مقتبس من الموسوعة العالمية الحرة، تاريخ الولوج 11- 04- 2009، نقلاً عن نسخة محفوظة من 8 مايو 2009 على موقع واي باك مشين.

2- مشاهدات سفير مغربي بإسبانيا في القرن الثامن عشر"، مجلة البحث العلمي، عدد 2، 1964، ص. 174.

3- المجلة الثقافية - الملف نسخة محفوظة 03 فبراير 2017 على موقع واي باك مشين.

4- الجغرافيا والرحلات - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF نسخة محفوظة 04 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.

[10]- يُعدّ كتاب"عيسى بن هشام"، ، من كتب الرحلات الخيالية، في أدب الرواية العربية الحديثة ؛ إذ يقص رحلة قام بها البطل عيسى بن هشام برفقة أحد باشوات مصر، بعد أن خرج هذا الباشا من قبره، وكان قد مات منذ زمن بعيد، ثم خرج يتجوَّل في شوارع مصر ودوائرها الحكومية، ومنها المحاكم، ويصف لنا، بأسلوب أدبي ساخر، مظاهر التحول السلبي التي أصابت الحياة. كما تلقانا رحلة أمين الريحاني التي أسماها الريحانيات، وقد سجل مشاهداته في بلدان عربية ووصف عادات أهلها، كما زار بعض ملوك العرب ومن بينهم الملك عبد العزيز، وسجل لنا بعض أحاديثه وآرائه.

المصدر:السياحة ضد أدب الرحلات، مقتبس من الموسوعة العالمية الحرة، تاريخ الولوج 11- 04- 2009، نقلاً عن نسخة محفوظة من 8 مايو 2009 على موقع واي باك مشين.

[11]- قد تراجع أدب الرحلات حالياً. يضاف إلى ذلك تقدم وسائل الاتصال خصوصاً التليفزيون والإنترنت بحيث يظن مستخدم هذه الوسائل أنه يعرف كل شيء عن العالم، وأنه زار كل مكان في العالم وهو جالس في بيته لم يتحرك من مكانه أمام شاشة التلفاز أو الحاسب الآلي. المصدر السابق.

[12]- جريدة الأخبار التي تصدر في بيروت، عنوان المقالة: قصة الأميرة زارا، نيكولاي غوميليوف، ترجمة: د. نوفل نيوف تاريخ النشر السبت 22 نيسان 2017.

[13]- مما تقتضيه الموضوعية في البحث العلمي عامة، وفي مجال البحوث التاريخية الإثنوغريفية خاصة: إيراد النص الأصلي كما كتبه صاحبه، بقدر الإمكان، وقد تم إثبات اسم القبيلة المذكورة بناء على ذلك؛ مع التأكيد على ضرورة تجنّب الحساسية القبلية، وإقرار التعايش السلمي القائم على مبدأ اعتبار الآخر وقبوله بصفته ضرورة إنسانية وسمة حضارية، واحترام سائر القبائل وطبقات المجتمع وأطيافه، واحترام ثقافاتها المتنوعة، وتقدير أهمية التعددية الثقافية في بناء حياة فكرية راقية، وإنشاء برامج تنمية مستدامة.

في المثقف اليوم