قضايا

نشأة الدين قراءة في الاتجاه اللاهوتي

يرى كثير من العلماء أنَّ تاريخ العالم لم يخل من الدين، وكذلك مستقبله لن يخلوَ منه (1). وعلى حدّ تعبير أرنست رينان(ت1892م)- الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي-:" من المستحيل أن تتلاشى الرغبة في الدين، أو تمحى من النفس الإنسانيّة، بل إنّها خالدة وسوف تبقى إلى الأبد"(2).

وقد دعت هذه القناعات وغيرها إلى البحث عن بواعث التدين في الإنسان ومنشأ الدين، وقد طرحت عدة نظريات وتفرعت وفي هذا الصدد سنتحدث عن الاتجاه اللاهوتي .

وهو الاتجاه الذي نبت في تربة التساؤلات والخطوات المبتنية على المناخ اللاهوتيّ في قراءة نشأت الدين، ومن أبرز تساؤلاته(3):

1- كيف كشف الله عن ذاته عبر التاريخ؟

2- على أي نوع من الاختبار عند الإنسان يرتكز، خصوصا، اختبار الله؟ ومن أيّ اختبار بشريَّ ينطلق البحث عن الله؟

3- كيف يتم التعبير عن الاختبار الديني في حياة البشر؟

وكما هو واضح من طبيعة الأسئلة انها صيغت في فضاء لاهوتي مفاده: أن الله يعرب عن ذاته في الزمن والتاريخ، ومن ثًّم، فمعرفة نشأة الدين وتطور الظاهرة الدينية، هي معرفة لكل المكونات الدينية وبنائها، لأنّ التاريخ والزمن هما ساحة العناية الإلهي وتدبيرها الذي يريد منه أن يكون متسعًا بالله. فاللحظة الأولى هي الوجه الأوّل للّحظة الأخيرة من الزمن (الله هو سيَّد الزمن)(4).

ويلحظ على هذا الاتجاه الحضور الأيديولوجي في القراءة والتحقيق وهو ما دفع اتجاهاتٌ أساسيةٌ في دراسة تاريخ الأديان، إلى رفضه، لأنها عدّت أنّ تاريخ الأديان العلمي يرفض أن يكون غطاءًا للقراءات الجاهزة وأسبقياتها.

ينبغي الإشارة إلى أن الإسلام وان قدم قراءته الفطرية في نشأن الدين وحركة الظاهرة الدينية إِلَّا أنّه لم يُسقط أيّ وجهة أو قناعة مسبقة في قراءة التاريخ ومعطياته، بل هو عدّ أنّ حركة الأنبياء جاءت بعد مرحلة الائتلاف البشري قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾(5). وفي مرحلة الاختلاف قال تعالى: ﴿ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾(6)

وهنا يقول محمد حسين الطباطبائي (عالم امامي من أبرز فلاسفة ومفكري الشيعة /ت1981م):" إن الإنسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أول اجتماعه أمة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفعت بالتبشير والإنذار: بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، وإرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والأحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلَّا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلمًا وعتوًا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" (7).

***

سمية ابراهيم الجنابي

طالبة دكتوراه - العراق

....................

(1) يقول ويل وآريل ديورانت- الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي صاحب كتاب قصة الحضارة- : " لقد علّمنا التاريخ أنّ الدين له أرواح عدّة، وكلما فقد واحدةً منها ومات؛ عاد مجددًا إلى الحياة بروح جديدة. وإنّ الله والدين ماتا في التاريخ أكثر من مرّة ثمّ بُعثا من جديد. إخناتون استخدم كل قوى الفراعنة ليقتل دين آمون، لكن في خلال سنة واحدة من موت إخناتون تم استعادة دين آمون. انتشر الإلحاد بين الشباب البوذي، وبوذى نفسه أرسى ديانة ليس لها إله؛ لكن بعد موته تطوَّرت البوذية إلى ديانة معقدة لها آلهتها، وقساوستها وجحيمها." ويل وآريل ديورانت، دروس من التاريخ، ترجمة يوسف ربيع، الناشر: عصير الكتب – القاهرة، الطبعة الأولى- 2020م، 83.

(2) محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، 4/ 111.

(3) عادل تيودور خوري، مدخل إلى علوم الأديان، الناشر: المكتبة البولسية- بيروت، الطبعة الأولى-2003م،7.

(4) سورة البقرة، 213.

(5) سورة البقرة، 213.

(6) الميزان في تفسير القرآن، 2/111. وينظر: 2/ 124-125.

(7) شفيق جرادي، مقاربات منهجية في فلسفة الدين، 79.

 

في المثقف اليوم