قضايا

سؤال ما بعد الفراغ (2)

سامي عبد العال"تحلُّل الجماعات الدينية المتطرفة لا يقل خطورةً عن نشأتها واستفحالها.."

"كلُّ تحلل لأي كيان جمعي هو عملية بنائية بالضرورة .."

"سيشكل تحلُّل الظواهر العامة أمراضاً أخرى من جنسها العام .."

تفكُّك الجماعات الدينية المتطرفة ليس معضلةً في حد ذاته داخل مجتمعاتنا العربية، فهي جماعات تخضع لقوانين وآليات تاريخية تخص البيئات الناشئة فيها. ومن الطبيعي أنْ تخبو بعدما كانت قويةَ الوجود والتأثير، ومن الطبيعي كذلك أنْ تتراجع وتصبح كالأصداء البعيدة بعدما كانت قريبة من الحكم. علما بأن الثقافة هي (الوريث الشرعي) لهيكلها العظمي الأيديولوجي حتى النهاية. وبالأخير قد تبقى الجماعات مجرد أعراض لحقب زمنيةٍ شهدت أحداثاً وأفكاراً، ولم نعٍ وجودها إلاَّ عندما تنهار وتأخذ طريقها إلى الغياب.

إن تحلُّل الكيانات السياسية الإجتماعية قضية تاريخية مثل (تحلُّل الجيف) بعوامل الطبيعة والحياة. فالتحلل في الحالين يحدث وفقاً لأساليب بنائية زمنية وتعيد تدوير المفاهيم والأفكار والكيانات الناتجة عنها بمقدار ما تأخذ من أحداث وأزمنة.  ونظراً لكونها جماعات قد استهدفت السلطةَ بطريقة برجماتية مباشرة، فإنها فقدت أصالة (الفكرة والمعنى) وباتَ وجودُها ضد مصالح الناس وتطور المجتمعات، ولذلك يكون الواقع كفيلاً بدحرها مثل أية كائنات عملاقة قابلة للإنقراض.

لكن المعضلة (كل المعضلة) أنَّ يكشف تحللٌّ كهذا الجوانب الأخرى من مجتمعاتنا العربية، يعريها تماماً ويضع المساحة الفارغة التي تركتها وراءها قيد السؤال الإجتماعي السياسي. ذلك بالضبط مثل بعض الأمراض التي قد لا تقتل الجسم مباشرةً، وربما يتغلب عليها في النهاية، غير أنَّها تُوضِّح مكان العطب المدمر في أنسجته الحية، وكيف خضع لتلك الحالة المرضية؟ ولماذا تُوجد ثمة تهديدات كان بإمكانها أنْ تودي بحياة الإنسان؟

مجرد نُشوء الجماعات الدينية المتطرفة بهذا الشكل المُرعب كان علامةَ استفهام حول الفراغات التي توجد في عقل المجتمعات، وفي جسد الثقافة العربية إلى هذا الحد الذي نطلق عليه فوضى. كان يجب على المجتمعات العربية (لا الدول فقط) أنْ تفسر هذا النشوء والتكوين والتطور والمآل. لأنَّ حقب (المد التنظيمي) لتلك الجماعات منذ (ستينات وسبعينات) القرن العشرين هي حقب ضعف دور الدولة العربية الحضاري. كانت الدولة العربية مهمومة فقط بإكمال أدوار التحرر الوطني والمشروعات الاجتماعية وترسيخ أقدامها سياسياً كما حدثَ في مصر مع حقبتي جمال عبد الناصر وأنور السادات. وهي حقب (الشخصنة الوطنية) على الأصالة التي استمرت حتى اللحظة.

عملية التحرر الوطنى من الاستعمار لم تتم هكذا مرة واحدةً، فقد جرى إجلاء أغلب قوات الاستعمار عن الأراضي العربية في نهاية الستينات وحقبة السبعينيات، غير أنَّ الاستعمار بطبيعته يترك جيوباً وولاءات وفراغات ثقافية في أجساد المجتمعات. ولم تكن الدولة وقتئد معنية إلاَّ باجلاء الاستعمار المادي والعسكري بطبيعة الحال.

أمَّا الجانب الثقافي، فكان له وجهان:

الوجه الأول: هو حشو الاستعمار لأدمغة المحتلين بقوة وجوده الرمزي وامتياز ثقافته العابرة على الثقافات المحلية وإعادة غسل التاريخ الدموي للدول المستعمِرة التي استنزفت الثروات والعقول.

الوجه الثاني: تشجيع التكوينات والجماعات الهامشية في جسد المجتمعات العربية، حتى تصبح كالسرطان الذي يضعف الجسد وينخر عظامه. وبطبيعة الحال، فإن الاستعمار جاء سهلاً، بعد أن وفرَّ المستشرقون بيئة ثقافية حاضنة ووضعوا أمام الاستعمار المادي كل طبائع الثقافة العربية وتكوينها التاريخي.

وبخاصة أنَّ الاستعمار درس جيداً تكوين المجتمعات العربية وعصورها إزدهاراً وانحطاطاً، وأدرك أن ضعفها كامن في تحويل وجودها العام إلى فرق وطوائف وجماعات وتنظيمات وأحزاب فرعية، لا تتفق على شيء قدر اتفاقها على الولاء لذاتها ومصالحها فقط، حيث تتكالب جميعاً على السلطة، وليس من ضابط جمعي لها سوى الغلبة والغنيمة في النهاية.

وتزامن ذلك مع تحول بعض أنظمة الدول العربية إلى (قطط سمان) تحرس المناطق الإقليمية إزاء بعضها البعض وتحت نظر قوى الغرب الاستعماري القديم. وساعد في ذلك اكتشاف الثروات النفطية تحت الأرض، إذ جاء الاستعمارُ بوحهه الإقتصادي لا العسكري القح هذه المرة. وتدريجياً تسطّحت أنظمة الحكم إلى درجة مذهلة، لتصبح غير واعية بدورها الحضاري والثقافي، ولتغدو مجرد (أداة عيش) ليس أكثر، أي أداة تجلب الأنماط المرتفعة من الثراء والانهماك في مظاهر العيش الباذخ وممارسة الرفاهية والترفيه. بينما مازال وجودها العام غارقاً في الماضي، ومازالت تجرجر أذيال المشكلات الثقافية والإنسانية على الصعيد المشترك.

وليس أدل على ذلك من أنَّ الدولة الوطنية لدى العرب اعتبرت - بشكل مقصود أو غير مقصود - الجماعات الدينية المتطرفة أصحاب قوة في الشارع. ذلك بمنطق التوظيف السياسي لها من قبل أنظمة الحكم. وهو لون من الاستثمار المزدوج لحركتها، حيث لم تحظ الأنظمة بقوى حقيقية على هذا الصعيد بينما كانت الجماعات الدينية تقوم بهذا الدور المزيف إستناداً إلى ارتداء عباءة الدين، وحيث تكمل أنظمة الحكم بواسطتها صورة السلطة أمام القوى السياسية والشعبية الأخرى، لأن الجماعات الدينية كانت ذات تأثير على الاتباع والأعضاء المنتسبين إليها. ونتيجة أن أنظمة الحكم لم تكن على مستوى ثقافي عالٍ، فقد سمحت لتلك الجماعات بممارسة أنشطتها الدعوية والإجتماعية وبعض الأنشطة السياسية. وكأنها أنظمة في مأمن من اللعبة التي أوجدتها،  وهي (أي أنظمة الحكم) لا تعلم أنها ستكون أول ضحاياها القريبين. لأن الجماعات الدينية تتغذى على جثث السياسة وتقوى حد التضخم المرعب بأفكار الحرب والجهاد .. إلى أخر الترسانة الأيديولوجية المسيَّسة.

وكل ذلك كان سطح جبل الثلج الظاهر فقط للعيان، أما جسم الجبل وأبعاده وامتداداته فكان غارقاً في مجال الثقافة وعلى صعيد الحركة الإجتماعية ضمن أعماق المجتمعات العربية. بكلمات واضحة أن الفراغ الذي استوطنته تلك الجماعات كان تكويناً بنائياً لأهدافها على حساب الدولة والمجتمع. وهو ما عانى منه الناس العاديون ورجال السلطة على السواء. لأنها كانت جماعات تأكل مما تأكل السلطة السياسية وتشرب مما تشرب أنظمة الحكم على حساب الشعوب، وأحياناً كانت تلتهم كميات مهولة من الغرائز الجمعية والأنشطة العامة طوال الوقت في غيبة المعرفة السياسية الحقيقية لنمط وجودها بين الجماهير. وهو ما جعل لتلك الجماعات الدينية تواجداً على صعيد الشباب ومظاهر المجتمع المختلفة تحت مسمى الأنشطة الدينية والدعوية والمساعدات الإنسانية والأعمال الخيرية الأخرى.

كذلك فإن هذا (الفراغ البنائي) قد فشلت الجماعات الدينية فشلاً ذريعاً في ملئه، بل عمقت أسبابه ونتائجه ودفعت الفئات الشبابية الأكثر تأثراً به إلى التعلق بهذا الفراغ حتى الموت، سواء أكان موتاً بمفاهيم الجهاد والحروب المقدسة أم بعناوين الدفاع عن الدين وممارسة الطقوس والشعائر أم لا حقاً – بعد تحلل تلك الجماعات- عن طريق الانتحار والانحراف والانغماس في الجرائم والبلطجة أم عن طريق انتشار موجات الإلحاد نتيجة أوهام تلك الجماعات وانهيار نموذج التدين السائد.

الآن طفحت جذور الفراغ وأعراضه المرضية مع تحلل ظواهر الإسلام السياسي بعد أن تصادمت مصالح أنظمة الحكم ومصالح الجماعات الدينية. وبدا الصراع بينها واضحاً حول مائدة واحدة عامرة بغرائز السيطرة واحتكار السلطة وجني المصالح والمأرب. وأظهر الفراغ هشاشة السياسات والخطط والبرامج التي تتعامل معه، على الرغم من كون التحلل المشار إليه في صالح المجتمعات والدول العربية. لأن هذه الدول تحتاج إلى معرفة: كيف سيجري تحلل الجماعات الدينية المتطرفة ثقافياً قبل تحللها سياسياً وتلاشيها في الشارع. وللأسف نظراً لاحتكار الدول (الثقافة العمومية)، فقد اختفى المثقف الفاهم لكيفية تحلل الظواهر، لأنه مثقف يعاني من تشوهات في وعيه وانحيازه التاريخي للسلطة على حساب الشعوب والمجتمعات.

إن إنشاء (معارف وأفكار واستراتيجيات) حول (تحلل الظواهر العامة) بات أمراً ملحاً. لأن الدولة العربية الراهنة لا بد أن تجيب عن أسئلة من جنس وجودها التاريخي، ولا تستطيع دفعها جانباً كما أشرت. لقد تركت الجماعات الدينية فيروسات محتملة التكاثر والنمو الغريب سريعاً وفي اتجاهات ليست متوقعة دينياً وسياسياً واجتماعياً. وقد تبدو تلك الجماعات كحال جماعة الإخوان المسلمين متلاشية في الظاهر، غير أن هذا لون من التحلل الخادع، فهي حالياً (فيروس خامل) تحت جلد المجتمعات وتنتظر الفرصة المواتية لتشغيل وجودها الحركي وأيديولوجيتها مرة أخرى. مثلها مثل آلية (الثعالب) في الدفاع عن نفسها، إذ حين يشعر الثعلب بأنه سيهلك لا محالة أمام حيوان مفترس أو أمام صياد ماهر قد يمسك به، فسرعان ما يطرح نفسه أرضاً دون حراك وكأنَّه قد مات تماماً. وقد يخرج رائحةً نتنه لا تطاق، من باب أنَّه قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولكنه في الحقيقة ثعلب متيقظ تماماً لأدنى فرصة هروباً من الموت المحقق. وما أن يقلبه الحيوان المفترس أو الصياد ولا يجد به حياة، حتى يطلق الثعلب لأرجله كامل السرعة تاركاً المكان دون رجعة.

وطبعاً لأن الدولة العربية لم تدرك معرفياً وثقافياً على نحو أساسي: بأية صورة توجد تلك الجماعات، فقد لا تدرك بالتبعية كيف تدخل الجماعات في مرحلة التحلل الخادع أو التحلل الحقيقي. فالاثنان يقتضيان معرفة: ماذا فعلت الدولة بنفسها أولاً وبتكوينها التاريخي وكيفية تطوير حياة الشعوب وكيفية التعامل مع (الفراغ) في جسد المجتمعات وداخل وعي أفرادها كما شرحت، لا الدخول في معارك مع (أشباح خفية) هي التي خلقتها من الأساس. إن مظاهر الإحباط واليأس السياسي وانعدام الأمال لدى قطاعات كبيرة من العرب إزاء السياسة، لابد أن يؤخذ في الحسبان لدى أنظمة الحكم في كل دولة عربية على حدة، لأنه عرض لأمراض بعيدة عن النظر ونتيجة عوامل معقدة اجتمعت تاريخياً كالسحب السوداء.

تقول ثقافة التحلل إن الظواهر والظروف العامة تأتي وتهيمن.. وستزول عاجلاً أم آجلاً، ولكن الأهم هو بناء الأسس لحياة أفضل وتجنب السلبيات والأخطاء من أجل غدٍ مشرق وتوفير الخبرات لدى الناس بصدد أنَّ الظواهر مثلما كانت قوية التأثيرات والنتائج غير المرغوبة، فكذلك بإمكانهم التغلب عليها والإفادة منها إلى أقصى درجة لبناء المجتمعات والدول.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم