قضايا

الالتزام في الأدب.. المدرسة الوجوديَّة

عبد الله الفيفيمصطلح «الالتزام»، لغويًّا، قديمٌ في الاستعمال، إلَّا أنَّه اليوم يمثِّل اتِّجاهًا ومصطلحًا حديثًا في الأدب. كما أنَّ الدعوة إلى الالتزام قديمة الجذور، غير أنَّها لم تصبح فلسفةً ناضجةً إلَّا حديثًا.(1) تبنَّتها مدرستان: الاشتراكيَّة، والوجوديَّة. وينطلق التزام الاشتراكيَّة من أفكار الفيلسوف الألمانيِّ (كارل ماركس Karl Marx، -1883)، فيُسَخِّر الأديب في خدمة القضايا الاشتراكيَّة. ولذلك فهو اتجاهٌ أشبه بالإلزام منه بالالتزام. أمَّا الالتزام الوجودي، ففلسفةٌ ذات أُسسٍ ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي، كردِّ فعل على اتجاه «الفنِّ للفنِّ» الذي كان مسيطرًا في منتصف ذلك القرن، ونتيجةً لأزمات الأنظمة، واضطراب الفلسفات المتباينة، والتحوُّلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة، لا في (فرنسا) وحدها، بل في العالم أجمع. على أن البداية الحقيقيَّة المستقلَّة لهذه الدعوة كانت مع الفيلسوف الدنماركي (كيركجارد Kierkegaard، 1813- 1855). وقد نَمَتْ فلسفة هذه الدعوة حتى جاء الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر، 1905- 1980)، زعيم «الوجوديَّة السارتريَّة»، الذي روَّج لهذه الدعوة في كتاباته وتعمَّق مفاهيمها، غير أنَّه قَصَرَها على الأدب النَّثري. وانتشرت الدعوة خلال القرن العشرين في أرجاء العالم. (2)

ولمَّا كان مصطلح (الالتزام في الأدب) مصطلحًا وجوديَّ الميلاد في العصر الحديث وجوديَّ النشأة، وكان قد حظي بتنظيرٍ مستفيضٍ من زعيم الوجوديَّة، فإنَّه جديرٌ هنا ببسط القول حول مفهومه لدَى هذه المدرسة.

يرى منظِّرو المدرسة الوجوديَّة أنَّ «الحُريَّة شرطٌ أساسيٌّ من شروط [الالتزام]، وليس ملتَزِمًا من كان التزامه صادرًا عن قَسْرٍ أو مجاراةٍ أو ممالأةٍ أو نفاقٍ اجتماعي.»(3) على أنَّه، لطغيان السياسة، أصبح «الالتزام» في عصرنا هذا التزامًا سياسيًّا في الغالب. وهو التزامٌ لا يقتصر مفهومه على المشاركة السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الفكريَّة فحسب؛ بل هو اعتناق ودفاع واستعداد للتضحية كذلك. وكما يقول (إيتامبل) حول هذا: فإنَّهم «سعداء من يموتون من الكُتَّاب في سبيل شيءٍ من الأشياء.» (4)

ومن مفهوم الالتزام أن يكون الأدب الملتزِم هادفًا، وأن يكون الهدف هدفًا بنَّاءً. فعلى الكاتب الملتزِم أو الأديب أن يدرِك أنَّ كلماته «مسدساتٌ عامرةٌ بقذائفها»، على حدِّ قول (برايس بارين Brice Parain)، «ولكنه إذا اختار أن يُصوِّب، فيجب أن يكون له تصويبُ رَجُلٍ يرَى إلى أهداف، لا تصويب طفلٍ على سبيل الصُّدفة، مغمض العينين، ومن دون غرضٍ سِوَى السُّرور بسماع الدَّوِي.»(5)

وبهذا التصوير الحيِّ لمسؤوليَّة الأديب الالتزاميَّة يُعبِّر (الوجوديُّون) عن مفهوم هذا الاتجاه، الذي لا يرون مناصًا إلى تجاوزه أو الإفلات منه؛ لأنَّ الكتابة سبيلٌ من سُبُل الإرادة الحُرَّة، ولا تتحقَّق هذه الإدارة إلَّا بنوعٍ من الحرب، فأيًّا ما سلكتَ، وأيًّا ما كان هدفُكَ، ومتى ما شرعتَ في الكتابة، فأنت ملتزمٌ، شئتَ أم أبيت.(6)

وهكذا فإنَّ (الوجوديِّين) يربطون الإنسان بعالَمه؛ وما دام كذلك، فالالتزام حتميٌّ عليه، ولم يَعُدْ هناك مجالٌ لما يُسَمَّى (الفنُّ للفنِّ).(7) كلَّما بإمكان الكاتب هو أن يختار أيَّ نوعٍ من الانتماء يلتزم. ورِهان (بليز باسكال) مشهورٌ في هذا، حيث يقول: «نحن في هذا العالَم أشبه بمسافرِين عن طريق البحر، ليس لهم من خيارٍ في أمر السَّفَر، فلم يبق لهم سِوَى اختيار السفينة.»(8)

[للبحث بقية]

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

............................

(1) يُنظر: أبو حاقة، أحمد، (1979)، الالتزام في الشِّعر العَرَبي، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 16- 00.

(2) انظر: هلال، محمَّد غنيمي، (د.ت)، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 147.

(3) العالم، محمود، (1970)، الثقافة والثورة، (بيروت: دار الآداب)، 54.

(4) سارتر، (1990)، ما الأدب؟، ترجمة: محمَّد غنيمي هلال، (القاهرة: نهضة مِصْر)، 138.

(5) م.ن، 22.

(6) انظر: م.ن، 63.

(7) مدرسةٌ سادت الأدبَ الفرنسيَّ في أواسط القرن التاسع عشر، والأدبَ الإنجليزيَّ في أواخره، لتقول بتقديم القيمة الجماليَّة على الأخلاقيَّة. (انظر مثلًا: وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 31؛ هلال، محمَّد غنيمي، (1997)، النقد الأدبي الحديث، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 339).

(8) سارتر، 73.

 

في المثقف اليوم