قضايا

دفاعا عن استقلال القضاء دفاعا عن حريةً التعبير

نبيل ياسيناستقلال القضاء وحرية التعبير احد مباديء الدستور البريطاني انه يطبق بواسطة سيادة القانون وهذا يعني انه ليس هناك اعلى من سيادة القانون فلا احد اعلى من هذه السيادة. الحملة على القضاء العراقي تم برمجتها باعتبارها حرية تعبير، وهذا تدليس اشترك فيه مع الاسف من ينطلق من منطلقات سياسية ساذجة وعاطفية تبدو كأنها حملة سياسيةً وايديولوجية متظمة ضد استقلال القضاء الذي ظهرت بوادره مؤخرا. صحيح ان الفيس بوك وتوتير وفرا منصة لكل فرد للتعبير عن رأيه، ولكن هذه الظاهرة محكومة بمستوى ثقافة المجتمعات والمعرفة العامة والاختصاصية للقانون والدستور ومباديء النظام السياسي الديمقراطي والتاريخ والحريةً والعدالة وحقوق الانسان، وهذه كلها مرتهنة لحماية الدولة والرأي العام والمجتمع المدني. نرى الان مع الاسف كيف ان دولا ديمقراطية في امريكا واوروبا تخلت تقريبا عن هذه الحماية بسبب الحرب في اوكرانيا. فحتى الثقافة الروسية الكلاسيكية من ادب وفن وعلوم وتاريخ وافكار أخضعت لتعسف وانتهاك قانوني واخلاقي اذ تم الغاء حفلات لباليه مسرح البولشوي العريق ومنع تدريس ديستوفسكي وتولستوي وغيرهما في الجامعات في عدة دول اوروبية ديمقراطية في عقاب جماعي غير مسبوق. كما تم حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في المسابقات الرياضية الدولية، وتم شن حملة طائفية ضد الارثوذوكسية وهو مذهب روسيا واليونان وعدد كبير من الكنائس الارثوذوكسية في العراق وسوريا ولبنان ومصر لاثارة حرب طائفية اورو بية كما كان الحال ومايزال في العراق.ان سياسة إخلق عدوا حتى لو كان وهميا والق كل شرور بلادك عليه لحجب الحقيقة الناصعة لمتعد سياسة الانظمة الديكتاتورية وحدها فقد اصبح سياسة الغرب الديمقراطي ايضا في العراق مشكلة سياسية تسعى لاخضاع القانون والعقل والجغرافية والتاريخ والواقع والمجتمع والحقوق والعدالة لمنطلقاتها الايديولوجية. طرف يدعي الحق وتجريد الاطراف الاخرى وهذه اهم مشاكل تمزق الهوية الوطنية لان التعامل مع الهويةً تعامل ايديولوجي، اذ يحق لأية جهة ان تنتهك الدستور والقانون بما يسميه المنتمون للجهة (حرية الرأي والتعبير). واذا تم تسقيط القانون من قبل الذين كانوا يتهمونه بالتسييس لصالح قوى يعارضونها فانهم اليوم يقفون ضد محاولة القانون ان يتمرد على التسييس ويعارض قوى السياسة التي تريد تسييسه. بدأت كل دساتير اوروبا الديمقراطية منذ القرن التاسع عشر بتقليص صلاحيات الملوك والاباطرة لصالح قوة البرلمان الذي اصبح يقلص اكثر فاكثر صلاحية الملوك ويعزز اكثر فأكثر سلطة القانون واستقلاليته.وقد بدأ هذا الصراع بين القانون والملك في القرن السابع عشر في بريطانيا في عهد الملك تشارلس الذي اعدمه البرلمان بعد حرب اهلية رفض البرلمان قبلها تحكم الملك تشارلس بالبرلمان، ورفع شعار البرلمان يحكم مع الملك قبل ان يزاح الملك عن السلطة التنفيذية والتشريعية ويتحول الى رمز للبلاد فقط. لم تحدث سيادة القانون فجأة وبدون تضحيات.وتاريخ سيادة القانون طويل ودامٍ كما هو تاريخ حرية التعبير والتضحيات الجسيمة التي قدمتها حتى اعتبر كثير من المؤرخين ومنظري الدولة ان القرن التاسع عشر هو تاريخ حرية الصحافة في اوروبا التي تتوجت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة المفصلية فيه، المادة ١٩ الخاصة بحرية التعبير. أقرأ احيانا اراءً ساذجة وسياسية وانفعالية بحجة ان القانون غير مقدس وان العدالة غير مقدسة، فكيف اذن نطالب بالديمقراطية وشرطها الاساسي هو تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص من خلال سيادة القانون؟ ٢- تمارس حرية التعبير بقوة القانون واستقلال القضاء. لكن بعض المنتقدين العشوائيين لمجلس القضاء الأعلى والمحكمة الإتحادية لا يعيرون اهمية لارتباط حرية التعبير بسيادة القانون. كما انهم لايفرقون بين الدين كممارسة سياسية وبين الدين في المجال العام حيث اعاد كثير من الفلاسفة المعاصرين وبينهم هابرماس وبتلر وغيرهما النظر في دور الدين في المجال العام باعتباره موجود ا بالضرورة. لكننا في العراق وكثير من الدول الاسلامية لانعرف هذا التمييز فنطرح قضية فصل الدين عن الدولة بتهور يدعي الليبرالية المزيفة فيرفض الدين كوجود (انطولوجي) ويتعرض بالشتم البذيء لرجال الدين.فبدلا من رفض الايديولوجية الشمولية الدينية المتعصبة والقمعية يرفض الدين كوجود في الفضاء العام للمجتمعات حتى المجتمعات العلمانية. ولذلك يعتبر كثير من مدعي الليبرالية والعلمانية الساذجة والعاطفية ان شتم الرموز الدينية لمجتمع ما مرتبط بحرية التعبير وان مهاجمة القضاء من منطلق سياسي هي حرية تعبير، بينما هذا يناقض سيادة القانون المسؤولة عن ضمان تلك الحرية. مطلوب من القانون حماية حق التعبير ضمن اطار الدستور. وفي الدستور العراقي توجد المادة ٣٨ التي تنص على كفالة حرية التعبير بما لا يخل بالنظام العام والآداب. والقانون هو الذي يحمي هذه الكفالة من خلال مؤسساته كمجلس القضاء الاعلى ومؤسساته القضائية الأخرى، ولذلك ترتبط حرية التعبير بقوة وسلطة القانون. وسلطة القانون هذه يجب ان تحصل على حماية من الرأي العام أيضا من خلال دعمها واحترامها. ٤-في شهر آذار عام ١٩٧٦ وكنت نشرت ثلاثة موضوعات اساسية بمناسبة اعلان الامم المتحدة عام ١٩٧٥ العام الدولي للمرأة احدها عن الطلاق في العراق وحقوق المرأة، وبسبب حملة سلفية قادها وحرض عليها خير الله طلفاح خال صدام تعرضت لاجراءات الفصل من الوظيفة ومنعي من الكتابة والسفر بأمر مباشر من صدام حسين وتنفيذ من وزير الاعلام آنذاك طارق عزيز الذي قاد حملة (تبعيث) الثقافة والاعلام. ولم يستطع استرداد حقوقي اتحاد الادباء رغم تبني رئيسه الشاعر محمد مهدي الجواهري لهذه القضية ولا نقابة الصحفيين التي كنت عضوا في هيئتها الادارية.كان السبب واضحا وهو غياب القانون مقابل التصرف الديكتاتوري الفردي باعتباره القانون الوحيد. ٤- الرأي العام العراقي بشكل عام يمارس مع الأسف سياسة تدليس سياسي وأيديولوجي تدعمه عمليات غسيل الدماغ المبرمجة، فبدلا من دعم خطوات استقلال القضاء وتقوية نفوذه بوضوح وشفافية يجعل من الانحياز السياسي والأيديولوجي معيارا للحكم على القانون والاجراءات القانونية. بينما الاهم من ذلك والأكثر انسجاما مع الديمقراطية هو جعل القانون هو المعيار والمرجعية للاجراءات والتصرفات السياسية وبذلك نحقق سيادة القانون ونتيح له ان يراقب تطبيق الدستور.لقد أوقعت الكتل السياسية منذ البداية القانون في فخها وعملت على تسييسه ولذلك عجز القانون عن التصدي للفساد وتجريمه، وحين حاول القانون استعادة بعضا من استقلاله واتخذ اجراءات قانونية لتطبيق الدستور تحركت القوى المكلفة بإبقاء العراق في حالة فوضى واضطراب وصراعات داخلية. ٥- منذ ٢٠٠٣ حتى الآن يسألني سياسيون وقضاة واكاديميون وصحفيون ومثقفون بريطانيون واوربيون حين تدور نقاشات عن العراق والديمقراطية: هل في العراق سيادة قانون؟ وحين اجيب ب: لا، يقولون اذن لا ديمقراطية في العراق.

***

د. نبيل ياسين العراق

 

في المثقف اليوم