قضايا

تاريخية العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام (الورقةالأولى)

سليم جواد الفهدكل ما في الكون من الذرة إلى المجرة ولد في لحظة من لحظات الزمان. وهذا الزمان يجري في خط ذو أتجاه واحد هو المستقبل ولا يعود إلى الوراء أبدا.

وكل كائن حتى الجماد له تاريخه. وللإنسان تاريخه وكل فكرة تخرج من عقل هذا الإنسان لها تاريخ ثم لها علاقة بما حولها تتصارع مع ضدها وأحيانا حتى مع نقيضها فتتطور وتتخذ أشكال جديدة لتثير صراعا آخر وهكذا دواليك حتى تضمحل وتموت.

من هذه  الأفكار التي تتلون باستمرار وتتكرر على ألسنة بعض منظري ما صار يعرف "بالصحوة الإسلامية" إن الإسلام على عكس الأديان السماوية الأخرى هو دين ودولة.

نشأت هذه الفكرة في بداية تأسيس الأخوان المسلمين على يد حسن البنا ثم صار لها مبرر وجود واقعي بعد الثورة الإسلامية في إيران وصارت تتكرر حتى على ألسنة بعض الذين ليسوا لا إيديولوجياً ولا فلسفياً من إطار فكر الصحوة الإسلامية.

وكل الذين كتبوا حول مسألة علاقة الدين بالدولة في الإسلام من الذين يؤيدون فكرة إن الإسلام دين ودولة يخلطون على العموم بين ما هو ذو شأن تاريخي وما هو ذو شأن منطقي أو تصوري فتنقلب في أذهانهم العلاقة التاريخية بين الإسلام والسياسة إلى علاقة منطقية أو تصورية.

يقول "راشد الغنوشي":

"الإسلام كل مترابط كل جزئية فيه ترتبط بغيرها فالعقيدة والشريعة والعبادة كل متكامل ومن ثم لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة والدين والدولة". وهذا ينطبق لا شك على "حسن البنا" الذي أصر على إن "الإسلام دين ودولة وروحانية عمل.. لا ينفك واحد عن الآخر".

والجدير بالذكر أيضاً أن الخلاف بين المؤيدين لفكرة إن الإسلام دين ودولة والمعارضين لها يكاد ينحصر في كونه خلافاً حول ما إذا كانت هناك نصوص قرآنية تؤيد الفصل بين الدين والدولة في الإسلام أو لا تؤيد هذا الفصل وكأن هذا القول يحسم المسألة الأكثر أهمية مسألة ما إذا كانت العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام على افتراض أن هناك نصوصاً تؤيد وجودها هي أكثر من علاقة تاريخية أو يمكن أن تكون أكثر من علاقة تاريخية.

إن المسألة الأخيرة لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق معالجتنا الفلسفية لمسألتين:

المسألة الأولى: تتعلق بما هو مطلوب على وجه التحديد (ما هو نوع المعارف المطلوبة) لتنظيم المجتمع سياسياً وقانونياً واقتصادياً.

والمسألة الثانية: تتعلق بما إذا كانت المعرفة أو المعارف المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع على النحو المذكور هي معرفة تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية ولا يمكن بالتالي اشتقاقها إلا من المعرفة الدينية.

فإذا تبين مثلاً أن المعارف المطلوبة لتنظيم المجتمع لا يمكن حتى من حيث المبدأ اشتقاقها من المعرفة الدينية يصير الافتراض إن هناك نصوصاً تؤيد القول بوجود علاقة بين الدين والدولة في الإسلام وفي هذه الحالة سيكون لزاماً علينا أن نؤول هذه النصوص على نحو يجعل هذه العلاقة في أفضل حال علاقة تاريخية لا أكثر وإلا نقع في تناقض.

حتى نفهم كيف يمكن أن يحصل تناقض كالذي نشير إليه لنفترض أن المعرفة أو المعارف المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع لا يمكن اشتقاقها من المعرفة الدينية.

في هذه الحالة علينا أن نقول أن لدى الإنسان القدرة على أن يحصل على المعرفة المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع باستقلال عن اللجوء إلى الدين.

إذا كان الإنسان يمتلك هذه القدرة فإن هذا يعني للمؤمن أن الله هو الذي أعطاه هذه القدرة. ولكن إذا انطلق المؤمن الآن من الافتراض أن العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام ليست مجرد علاقة تاريخية بل هي علاقة ضرورية منطقياً  إذن ما يتبع هذا بالضرورة هو أن الإسلام مصدر المعرفة المطلوبة لتنظيم المجتمع. إن هذا يعني على وجه التحديد إن الإنسان لا يمكنه أن يعرف باستقلال عن اللجوء إلى تعاليم الإسلام كيف ينظم شؤون حياته الاجتماعية والسياسية والقانونية والاقتصادية.

ولكن هذا يتعارض مع افتراضنا الأصلي أي افتراضنا أن الله أعطى الإنسان القدرة على أن يحصل على المعرفة المطلوبة لتنظيم شؤون حياته دون اللجوء إلى الدين. هكذا يتضح أن هناك تناقضاً بين افتراضنا أن المعرفة المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع لا تقبل الاشتقاق من المعرفة الدينية وافتراضنا أن العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام هي علاقة ضرورية تنبع من ماهية الإسلام. وهذا التناقض لا يمكن تجنبه إلا إذا أولنا العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام على أنها لا يمكن أن تتجاوز حدود العلاقة التاريخية أو برهنا هنا على أن المعرفة المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع ليست مستقلة عن المعرفة الدينية.

إن منظري الصحوة الإسلامية يختارون لا شك البديل ولكن هناك تأويلان لهذا البديل التأويل الذي تكون بمقتضاه عدم استقلالية المعرفة المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع عن المعرفة الدينية شأنا منطقياً والتأويل الذي تكون بمقتضاه عدم الاستقلالية هذه شأناً واقعياً.

فبناء على التأويل الأول إن طبيعة المعرفة المطلوبة لغرض تنظيم شؤوننا الدنيوية تفرض أن يكون الأساس الأخير لها كامناً في المعرفة الدينية. إن من يتبنى موقفاً كهذا ينطلق من نظرية ابستمولوجية أساسية تقول بوجود أساس أخير للمعرفة المطلوبة لغرض تنظيم شؤوننا الدنيوية وأن المعرفة الدينية هي هذا الأساس الأخير.

إن العلاقة بين المعرفة السابقة "المعرفة العملية" والمعرفة الأخيرة هي علاقة منطقية ثابتة لا تتقرر بأي عامل خارج طبيعة المعرفة العملية وطبيعة المعرفة الدينية. فإن الإنسان بناء على وجهة النظر هذه وبغض النظر عن ظروفه الزمانية والمكانية وعن مدى تطور قواه العقلية ليس من الوجهة المعرفية في وضع يسمح له بأن يعرف كيف ينظم شؤون حياته الدنيوية ولأي غاية إلا إذا كان في وضع يسمح له بأن يعرف ما الذي يأمره الله بفعله في هذا السبيل.

إن المعرفة الدينية ذات أسبقية منطقية على المعرفة العملية.

أما التأويل الثاني فإنه يجعل علاقة المعرفة العملية بالمعرفة الدينية علاقة تفرضها سمات معينة للإنسان وليس الطبيعة المنطقية لكلا النوعين من المعرفة.

فبناء على هذا التأويل إن الإنسان غير قادر ليس لأسباب منطقية أو تصورية بل لنقص فيه على أن يصل إلى معرفة بدون توجيه إلهي .

طبعا هذا الموقف لا يعني أن المعرفة العملية متضمنة منطقياً في المعرفة الدينية ولا يعني بالتالي أنه لا يمكن حتى نظرياً الحصول على معرفة عملية باستقلال عن المعرفة الدينية إنه يعني فقط أنه يستحيل عملياً وواقعياً على الإنسان أن يحصل على معرفة عملية بدون اللجوء إلى المعرفة الدينية. إن الإنسان عاجز لأسباب تتعلق به وليس لأسباب نظرية أو منطقية عن أن يعرف حقاً كيف يتدبر شؤون دنياه بدون توجيه إلهي.

هناك موقف ثالث لا يقوم على أية مسلمات ابستمولوجية وهو موقف رافض لافتراضنا أن هناك تعارضاً بين النظر إلى علاقة الدين بالدنيا في الإسلام على أنها نابعة من ماهية الإسلام وبين اعتبارنا المعرفة العملية مستقلة عن المعرفة الدينية إن المسألة الأساسية بالنسبة لأصحاب هذا الموقف ليست المسألة المتعلقة بنوع العلاقة القائمة بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية بل المتعلقة بنوع العلاقة بين "المخلوق وخالقه" إن من المعتقدات الأساسية للمسلم والمسيحي على حد سواء أن المخلوق مدين بالطاعة المطلقة لخالقه لأنه خالقه وليس لأي سبب آخر.

إذن إذا كان الله يأمره كما يدعي أصحاب هذا الموقف أنه يأمر المسلم بالفعل على أن ينظم شؤون دنياه على نحو معين فهو ملزم بوصفه مسلماً بأن يفعل ذلك.

إن ما هو مطلوب لتقرير هذا الإلزام هو أن يعرف أن الله هو الذي يأمره ولا شيء آخر. إذن فحتى لو كانت المعرفة العملية مستقلة عن المعرفة الدينية فإن هذا لا يمكن أن يعني أن العلاقة بين الدين والدنيا في الإسلام لا يمكن أن تتجاوز كونها علاقة تاريخية فإذا كان الله يأمر المسلم بأن ينظم حياته وفق مبادئ معينة فإن هذا يعني أن امتثاله لهذه المبادئ هو في صميم تعاليم الإسلام أي أنه لا يمكنه أن يفصل بين كونه مسلماً وعمله بهذه المبادئ مهما كانت العلاقة المنطقية بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية.

لننطلق الآن إلى معالجة هذه المواقف الثلاثة بالتفصيل مبتدئين بالموقف الأول: إن هذا الموقف كما رأينا يقوم على الافتراض القائل أن المعرفة العملية تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية في معالجتنا لهذا الموقف يحسن بنا في البداية أن نشرح ما الذي نعنيه على وجه التحديد بالمعرفة العملية وما الذي نعنيه بالمعرفة الدينية لننطلق من ثم إلى معالجة السؤال الذي يشكل محور هذا القسم من الدراسة أي السؤال: هل المعرفة العملية تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية؟ لنحاول أولاً أن نفهم ما هي المعرفة العملية وما هي مكوناتها الرئيسة. أن نمتلك معرفة عملية بالمعنى الذي يعنينا هنا هو أن نعرف ما هي الغايات الاجتماعية التي ينبغي أن نعمل على تحقيقها وكيف ينبغي أن نحققها.

المعرفة العملية إذن تزودنا بأجوبة عن نوعين من الأمثلة نوع يتعلق بالغايات التي يفترض أن يسخر لتحقيقها تنظيمنا للمجتمع على نحو أو آخر ونوع يتعلق بالوسائل التي ينبغي اللجوء إليها لتحقيق هذه الغايات. ما نفترضه هنا هو أن تنظيم المجتمع على نحو أو آخر ينبغي أن توجهه غايات بعيدة وليس مجرد غايات قريبة أي غايات مثل تحقيق العدالة الاجتماعية أو السعادة أو الحرية وما أشبه ذلك.

فإذا اخترنا مثلاً أن ننظم المجتمع على الطريقة الرأسمالية أو الطريقة الاشتراكية فلن يكون ذلك لأن ملكية فئة من الناس لوسائل الإنتاج كما هي الحال في النظام الرأسمالي أو ملكية المجتمع لهذه الوسائل كما في النظام الاشتراكي هي غاية في ذاتها فإن هناك غايات أبعد بكثير من النوع الأخير نستهدف تحقيقها من وراء اختيارنا للنظام الرأسمالي أو للنظام الاشتراكي أو لأي نظام آخر قد يقع بينهما. فقد تكون الحرية هي الغاية الأبعد التي نستهدف تحقيقها والغاية التي تخضع لها كل غاياتنا الأخرى أو قد تكون هذه الغاية هي السعادة العامة كما هي الحال لدعاة مذهب المنفعة ك(جون ستيوارت مل) مثلاً.

أو قد تكون العدالة الاجتماعية غايتنا الأخيرة أو قد نختار مزيجاً من هذه الثلاث غاية أخيرة لنا. وما نختاره غاية أخيرة لنا يقرر بالإضافة إلى شروط أخرى سنتناولها بعد حين طبيعة النظام الاجتماعي الذي يجب أن نقيمه أو يقرر كيفية تعديلنا للنظام الاجتماعي القائم.

إن المعرفة المعيارية (معرفة الغايات) تأتي إذن في رأس مكونات المعرفة العملية. فحتى نجيب عن السؤال: ما الذي ينبغي أن نفعله في وضع معطى؟ فإنه مطلوب منا أن نعرف ما هي الغاية الأخيرة التي يفترض أن نحققها أو نقترب من تحقيقها من وراء ما نختار فعله في الوضع المعطى ولكن حتى نعرف الأمر الأخير فإن ما هو مطلوب منا هو أن نعرف ما هي الغايات التي لها الأهمية الاجتماعية القصوى أو التي هي ذات قيمة كامنة. إذن ما نحاول أن نعرفه هنا هو الجواب عن السؤال: أية غاية لها الأسبقية على كل الغايات الأخرى؟ وهذا في الواقع يعني أن ما هو مطلوب منا هو أن نعرف إن الغايات هي غايات خلقية أو يسوغها المنظور الخلقي فالغايات التي يمكننا أن نصفها بحق على أنها خلقية أي مسوغة من المنظور الخلقي هي الغايات التي ينبغي بالضرورة أن نحسبها ذات أسبقية على كل الغايات الأخرى. إن المعرفة المعيارية من حيث هي إذن معرفة خلقية في المقام الأول تأتي في رأس مكونات المعرفة العملية.

بالإضافة إلى المعرفة المعيارية فإن المعرفة العملية كما رأينا تتضمن معرفة للوسائل المطلوبة لتحقيق الغايات التي اخترناها. والمعرفة الأخيرة هي من نوع المعرفة العلمية التطبيقية. بيد أن المعرفة العلمية التطبيقية تستلزم امتلاك معرفة علمية نظرية مما يجعل المعرفة التي من النوع الأخير مرتبطة على نحو غير مباشر بالمعرفة العملية. فإذا أردنا أن نعرف مثلاً ما هي الوسائل المطلوبة لقيام نظام اجتماعي أكثر إنسانية وأكثر عدلاً على افتراض أن لدينا معايير محددة تحديداً جيداً لما يشكل مجتمعاً أكثر إنسانية وأكثر عدلاً فإنه ينبغي علينا في هذه الحالة أن نقرر كيف ننظم المجتمع على مختلف المستويات لتحقيق الغاية أو الغايات التي تستلزمها هذه المعايير. لكن لا يمكننا أن نعرف كيف ننظم المجتمع لتحقيق الغايات المرجوة قبل أن نعرف شيئا عن طبيعة هذا المجتمع ومستوى تطوره التاريخي والإمكانات التي يزخر بها وجوده ومدى استعداده لامتصاص الصدمات التي سيحدثها إدخال تعديلات من نوع معين على بناه الأساسية وما إلى ذلك. وهذه المعرفة هي باختصار معرفة علمية تطبيقية. ولكن معرفة من هذا النوع غير ممكنة بدورها بدون معرفة علمية نظرية حول طبيعة التطور الاجتماعي والتاريخي بعامة والقوانين التي تتحكم بالسيرورات الاجتماعية - التاريخية. فكما هو واضح من تحليلنا فإنه لا يمكننا أن نعرف كيف نعيد تنظيم المجتمع لتحقيق غاية معطاة أو للاقتراب من تحقيق هذه الغاية إلا إذا كنا نعرف أي نوع من المجتمعات هو هذا المجتمع وإلى حد يمكن تغييره وما هو نوع مؤسساته وكيف يؤثر بعضها على بعض. وأن نمتلك معرفة من النوع الأخير هو أمر يستوجب امتلاكنا مقدماً لمعرفة علمية نظرية من النوع الاجتماعي - التاريخي.

إن المعرفة الاجتماعية التاريخية ليست النوع الوحيد من المعرفة العلمية المطلوبة لتحقيق معرفة علمية فإنه بإمكاننا هنا أن نفكر في عدة حالات لا يكون فيها إمكان لاستغناء المعرفة العلمية عن نوع المعرفة التي تزودنا بها العلوم الطبيعية.

لنأخذ مثلاً أسئلة حول كيفية معالجة محيطنا الطبيعي لخدمة أغراض إنسانية أو أسئلة حول كيفية تحسين التكنولوجيا التي في حوزتنا لنجعلها أكثر فعالية في عملية الإنتاج وتحسين نوعيته. في كلا الحالتين لا غنى لنا عن المعرفة التي تزودنا بها العلوم الطبيعية وهكذا يتضح أن المعرفة العملية بالمعنى الذي يعنينا هنا تتضمن أو يمكن أن تتضمن معرفة علمية من النوع الاجتماعي - التاريخي وكذلك من النوع الذي تزودنا به العلوم الطبيعية بالإضافة إلى تضمنها معرفة معيارية أو خلقية.

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

 

 

في المثقف اليوم