قضايا

العدو والعدائية في السلوك البشري

توفيق التونجيينام الماء ولا ينام العدو

حكمة تركية

العدو، هو الخصم أو الند. لا يوجد بين الاعداء أي مساواة او تشابه بين الطرفين من الناحية القوة العسكرية واحيانا الفكرية والاجتماعية. يعتبر الند الاقرب إلى العداء لكن فيها التوازن في القوة الطرفين من ناحية ومن ناحية أخرى يعتبر الند اختيارا شخصيا وأحيانا مسالما. يتسائل البعض كيف تتحول بعض الصداقات الى عداء يصل الى استخدام العنف والشدة وحتى القتال بين اصدقاء الامس (نموذج من العراق في الصراع بين عبد الكريم قاسم ورفيقه عبد السلام عارف). لكن التنافس يؤدي إلى ظهور سباق بين ندين متنافسين كما هي عليها الحال في الفرق الرياضية. ان كان ذلك ضمن الدولة الواحدة او بين عودة من الدول. نراه مثلا في التنافس بين فريق كرة القدم المصري الزمالك والاهلي. هم انداد يحاولون الفوز دون الوصول إلى درجة العداء في التنافس.  بينما "العدو" والعداوة ومن يكن العداء يميزه الكراهية للطرف الآخر يصل حد القتل وافناءه. العداء بين طرفين متنازعين يكون نتيجة لعلاقة تاريخية وللعداوة ماضي يتوارثها الاجيال دون اي تحليل للسبب والمسببات كما في العداء بين منتمي الافكار السياسية والاديان والصراع

القومي. العدو ك صفة تطلق من قبل الجهتين، الواحدة تجاه الاخرى وقد يكون جمعا اي هناك قوى معادية أو شعوب معادية وكذلك افكار معادية. لذا حين يطلق شعب على شعب اخر صفة "العدو" تقوم الجهة المقابلة باستخدام نفس تلك الصفة اي ينعتهم ب "العدو" كذلك. رغم ان معنى الكلمة تاتى كذلك ب (الاستعانة بالاخر) طبعا قاموسيا.

 بينما نرى العدوانية سلوك شخصي فردي يتميز صاحبه في قبوله حتى لاستخدام العنف في التعامل مع  الاخرين وقد تنعكس على سلوك وطبائع الشعوب كذلك. قارن مثلا الشعب التونسي المسالم مع جاراته وبين الجزائر والمغرب.

"العدو " يتم اختياره في بعض الأحيان من الفكر المناقض. كما عليه اليسار واليمين السياسي واليسار مقابل القومي أو الفكر الديني وما يقابله من فكر دنيوي او ما يسمى ب العلماني.

هذا الاختيار الفكري والطبيعي للعدو قد اوصل المجتمع الإنساني إلى الحروب والنزاعات خلال معظم حقب التاريخ حتى يومنا هذا. والا،  لماذا يعادي الفكر اليسار الفكر اليميني؟ رغم ادعاء الطرفين بصحة فكرهم لخدمة المجتمع والمواطن. هذا العداء أدى إلى قتل الطرفين لكل من ينتمي إلى فكر الطرف الآخر. لذلك نرى من يقول بان (عدو عاقل خير من ذلك الجاهل). ولكن العدو العاقل قد يكون أكثر شراسة ويهدد العالم بقوته وجبروته. 

الإنسان بحد ذاته غير عدواني عند الولادة على الاقل. نرى ذلك بوضوح في دور الحضانة حيث العلاقة بين الاطفال الصغار خالية تماما من افكار سلبية حول اللنتماء العرقي والعقائدي لاقرانهم في الدار. بل يتعاملون دون اي تاثير سلبي عنصري. لكن العدوانية كسلوك تظهر أحيانا حتى عند الأطفال في سن مبكر.

نرى بأن العديد من الدول بدات استخدام العقاقير والاوية المهدئة في علاج الاطفال اللذين يظهرون نوعا من العدائية حتى في في سنوات مبكرة وفي دور الحضانه.

أن عدم علاج الاطفال في اعمار مبكرة سيؤدي إلى تحول الفرد إلى عالم الجريمة عند الكبر. قبل سنوات وانا ادرس كباحث في الجامعة علم الجريمة وقفت ومن قرب على الكثير من العلوم والمعارف الخاطئة حول المجرم ودوافع الجريمة التي في واقع الامر ليس له اي علاقة بشكل الفيزيائي للفرد مثلا. بل العكس قد يكون المجرم على قدر كبير من الجاذبية والاناقة احيانا.

أما دوافع الجريمة فهو بحث اخر لا مجال لذكره ها هنا.

 اذن في العداء الاختياري يحاول الفرد جاهدا أيجاد مبررات معقولة لسلوكه العدواني من ناحية ويقدم اسبابا مقنعة لاختياره العدو المقابل. هنا نرى ان العداء المكتسب أو المتوارث نشط بين العديد من دول العالم لحد يومنا هذا. وربما دون مبرر معقول. عند إلقاء نظرة على خارطة العالم السياسية لا نجد دولتين جارتين يعيشون في سلام تام. خاصة بين دول الشرق وحتى في شمال أفريقيا وأمريكا اللاتينية وقار ة آسيا. السنوات الخمسون التي قضيتها بنفسي في العديد من دول أوربا،  أيقنت فيها عند دراسة تاريخ الشعوب الأوربية وجود عداء مبطن وتاريخي لدن هذه الشعوب بعضها للبعض الآخر (الروسي ،الالماني، البريطاني، البولوني، اليوناني،  التركي ،الايطالي، الاسباني، الفرنسي). الملاحظ انه العوائل الملكية الحاكمة في اوربا تربطها علاقات مصاهرة وقرابة. رغم ذلك كانوا اعداء فيما بينهم وخاضوا الحروب مع بعضهم البعض. هناك من يبث العداوة بين الناس باساليب مختلفة وقد تكون دول تبحث عن اعداء لهم حتى لو كان ذلك العدو خياليا غير ملموس. كما نرى في العداء الموجه للفقر والظلم والجهل والامية والتطرف بكافة اشكاله، اوجه اخرى مقبولا للعداء.

ما يسمى الحرب الباردة كانت بين عدوين غير مرئتين بين الافكار الداعية إلى  الديمقراطية والنظام الاقتصادي الحر وبين الفكر الشيوعي ذو النظام الاقتصادي المبرمج والمخطط (الخطة الخمسية). حين كنت احضر رسالة الدكتوراه في جمهورية  رومانيا الاشتراكية قبل اكثر من اربعة عقود تعرفت ومن قرب بتاريخ هذا البلد وشبعة الطيب وراعني حوادث تاريخهم الحديث فمن كان عدوهم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية تغير إلى صديق بين صبح وضحاها. الخندق الذي كان يقف فيه الجندي الروماني يحارب مع صديقه الجندي الالماني النازي موجها بندقيه صوب الجيش الروسي الاحمر ، غير فجأ فوهة بندقيه موجها ايها صوب صديقه النازي المحارب في نفس الخندق، الذي تحول بدوره فجأ إلى عدو وتحول العدو الروسي إلى صديق وكان تلك الالتفاته اول الغيث الذي أدى الى نهاية الحرب العالمية وقبر النازية في وكرها.

احيانا هناك حسد عند البشر يصل إلى درجة العداء. كما ان هناك كراهية تصل الى العداء. في الحياة الشخصية للفرد نراه يرى حتى في أخيه أو قريبة ربما عدوا. وتلك ما نراه يكن عداوة بين الأقربون من ابناء العائلة الواحدة. فمثلا نرى امثلة كثيرة في التاريخ قتل الأخ لاخيه من أجل السلطة والحكم والميراث وامور اخرى كثيرة. نرى ذلك تاريخيا في صراع العائلي بين الاخوين (قابيل وهابيل) الذي انتقل وراثيا لسلوك البشر. هذا التراث بقى صامدا لدن جميع الملوك والخلفاء والسلاطين. أما العداء بين القبائل كانت منتشرة في العصور التاريخية.  الغريب ان نراه جليا حتى بين ابناء وطن يضمهم حدود الدولة الوطنية الواحدة اي العداء المناطقية ، الثقافية، القومية والعقائدية. هذا النوع من العداء يكون على أشكال متعددة. كما عليه في اعتبار ابناء منطقة معينة ونعتهم ب الجهلة أو الاغبياء، جبناء او البخلاء او اطلاق صفات نابيةاخرى عليهم.

عدو العدو اعتبر كذلك صديقا مما أدى إلى انفصام في شخصية الشعوب وهي نفاق واضح ادى إلى نتائج مأساوية في التاريخ الانساني. حيث يبقى أحد الأطراف دوما ينتظر أن يغدر بصديق الأمس (قراءه لتاريخ الاندلس في الحقبة الأخيرة من تاريخها مثال واضح) .

 لا ريب أن تحول العداوات إلى صدقات ممكنة بين الأفراد وبين الشعوب يقول الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)..  سورة فصلت الاية ٣٤.

اي ان العداء لا يستمر للأبد بل قد يتحول إلى صداقة. في السياسة الدولية تستخدم مصطلح المصالح المشتركة بين الشعوب حتى لو كانوا يوما أعداء.

العدالة الاجتماعية بين الناس يؤدي إلى الحسد خاصة حسد المعيشة نراه عندما يكون ابناء جزء من البلاد اغنياء والجزء الاخر من الفقراء. يعتبر تلك ظاهرة نجدها في العديد من المجتمعات حتى المجتمعات المتطورة في الغرب. خاصة في توزيع الثروات بين الاقاليم والمقاطعات ونرى ذلك جليا كذلك بين دول الاتحاد الاوربي كذلك. المجتمعات الفقيرة تحصل على معونات اكثر من المجتمعات الغنية والمتكورة. طبعا هناك قاعدة عامة في السياسة الاوربية مفادها جار غني افضل من جار فقير. اذ ان عدم المساواة في الثروات الوطنية كانت ايضا احد اسباب العداء بين الشعوب. ويذكرنا التاريخ بان معظم الغزوات كانت احد اهم أهدافها الاستيلاء وسلب الثروات الوطنية للشعوب الغنية. نرى ان ارض الرافدين وما جرى على ارضها من حروب واحتلال من قبل الشعوب الغازية والجامعة وعبر التاريخ، افضل مثال حي على ذلك. ناهيك عن العداء القومي الغير مبرر بين ابناء الوطن الواحد خاصة لدن من يحملون الافكار القومية السلبية حيث يعتبرون قومهم الافضل كما في الفكر العنصري الالماني النازي والتوركي الطوراني والعربي العروبي واليوناني والايطالي ... هناك اسباب اخرى للعداء. العداء الناتج بمجرد خلاف في الانتماء القومي والعقائد ي لابناء الدولة الواحدة كما نراه اليوم ومع الاسف في العراق. من نتائج هذا العداء الحروب الداخلية الموجود في عصرنا الحاضر.

ينتشر هذا العداء بين ابناء وطن تعددي الانتماء القومي والثقافية وأحيانا العقائدي كما عليه المجتمع العراقس واللبناني والسوري وحتى الاسباني.  

العداء لمجرد العداوة ينتشر في المجتمعات الجاهله.  الجهل هو أحد اهم أسباب العداوة. الحوار بين البشر يؤدي إلى زوال الاختلاف من ناحية ومن ناحية أخرى يزيد معارف الأطراف المتنازعة فيما بينهم ويزيل الشوائب والصورة النمطية تجاه الشعوب. عدم تقبل سلوك الآخر لا يدل ابدا بأن سلوكه خاطئ. بل يجب احترام الاختلاف. دون الوصول إلى درجة العداء  ومن ثم الخصام.

يبقى أن نعلم أن العداوة والكره صفتان انسانيتان مكتسبتان ويمكن تغيرها وتقويمهما دوما اي تغير الفكر السلبي إلى إيجابي.

الوعي الإنساني يتميز بالحكمة عند استخدام الفكر والعقلانية في تحليل الظواهر.  ذلك التغير هو المدخل الطبيعي للعلاقات الإنسانية المستقبلية من ناحية والعلاقات بين الدول للوصول بالانسانية إلى بر الأمان وترك الثرى للأجيال القادمة وطنا موحدا يسعد فيه الجميع.

***

د. توفيق آلتونجي

 

في المثقف اليوم