قضايا

في علم النفس: الذكاء (1)

ترجمة : احمد مغير

اذا فكرت في أي سمة من سمات الناس من حولك فسوف تلاحظ أنهم يختلفون عن بعضهم البعض. هم يختلفون ليس فقط في السمات الجسدية مثل الطول ولون البشرة والوزن والرؤية والقدرة على السمع وما إلى ذلك ولكن أيضا في السمات النفسية. في تعاملنا اليومي نجد أن الناس يختلفون في دوافعهم وتعاملهم مع المشاكل واهتمامهم وقدرتهم على التعلم. تشكل دراسة هذه الفروق الفردية مجالا مهما في علم النفس. أصبح تقييم الذكاء والشخصية والاهتمامات والإبداع وغيرها من السمات بمساعدة الاختبارات النفسية ممارسة راسخة. عند اختيار الأشخاص للوظائف، فأن تشخيص الإعاقة العقلية ورصد النمو النفسي وفر زخما لوضع مجموعة متنوعة من الاختبارات لتناسب مجموعات مختلفة من الناس (مثل الأطفال والبالغين والمتعلمين والأميين). أصبح مصطلح IQ الآن كلمة شائعة وغالبا ما يرغب الناس في معرفة معدل ذكائهم وشخصيتهم. ستساعدك هذه المقالة على التعرف على السمات الأساسية للتقييم النفسي وفهم طبيعة وتقييم القدرة الفكرية.

طبيعة التقييم النفسي

يشير التقييم النفسي إلى استخدام إجراءات محددة تستخدم في تقييم الصفات الشخصية والسلوكيات والقدرات للأفراد. تصف هذه الإجراءات الأشخاص من خلال تحديد كيفية اختلافهم عن الآخرين أو تشابههم معهم. غالبا ما يتم إجراء مثل هذه التقييمات من قبلنا في حياتنا اليومية عندما نصدر أحكاما على الآخرين مثل "لطيف" و "جيد" و "سيء" و "جذاب" و "قبيح" و "عبقري" و "أحمق". وغني عن القول إن مثل هذه الأحكام غالبا ما تكون خاطئة في حالات عديدة. يحاول علم النفس علميا تنظيم هذه الإجراءات بحيث يمكن إجراء التقييم بأقل قدر من الخطأ وأقصى قدر من الدقة. غالبا ما يطلق علماء النفس على هذه الإجراءات اسم "الاختبارات". الاختبار النفسي هو تقنية منظمة تستخدم لتوليد عينة مختارة بعناية من السلوك.

من أجل أن تكون مفيدة لغرض استخلاص استنتاجات عن الشخص الذي يتم اختباره أو فحصه، من الضروري أن يكون الاختبار موثوقا به وصالحا وقياسيا ودعونا نفهم معنى هذه المصطلحات. يكون الاختبار موثوقا به إذا كان يقيس شيئا ما باستمرار. على سبيل المثال، إذا قمت بتقييم شيء ما، فيجب أن تكون الدرجات التي تم الحصول عليها في حالات متعددة ومنفصلة هي نفسها. اما إذا كان المقياس يعطي قيمتين مختلفتين أثناء تقييم نفس الكائن في حالتين فيعتبرغير موثوق. لا يمكن اعتبار اختبار الذكاء موثوقا به إلا عندما يسجل لنفس الشخص نفس الدرجات في كلتا الحالتين. اما صلاحية الاختبار فهي الدرجة التي يقيس بها ما ننوي قياسه. يعطي الاختبار الصحيح للشخصية مقياسا لشخصية فرد ويتنبأ بسلوكها في المواقف التي يكون فيها هذا الجانب من الشخصية مهما.

ولكي تكون أداة الاختبار اوالتقييم مفيدة، ينبغي ان تكون قياسية او موحدة . القياسية تعني القدرة على إجراء الاختبار لجميع الأشخاص بنفس الطريقة وفي نفس الشروط. كما أنه ينطوي على وضع معايير بحيث يمكن تفسير درجة كل شخص يطبق عليه الاختبار. تتضمن المعايير مقارنة درجة الشخص مع درجات الآخرين في مجموعة محددة. تضمن القياسية للاختبار التوحيد والموضوعية في طريقة وظروف اجراء الاختبار و يجعل نتائج الاختبار قابلة للتفسير.

طور علماء النفس مجموعة متنوعة من الاختبارات لقياس الخصائص البشرية المختلفة. في المدارس نستخدم اختبارات التحصيل او الامتحانات التي تقيس ما تعلمه التلاميذ، اما علماء النفس فيستخدمون اختبارات القدرة والشخصية. اختبارات القدرة تقوم على معرفة ما يمكن للفرد القيام به عندما يكون في أفضل حالاته. تقيس هذه الاختبارات القدرات كإمكانيات وليس كإنجاز واختبارات الذكاء والكفاءة تأتي تحت هذه الفئة. تشير الكفاءة إلى قدرة الشخص على تعلم نوع معين من المهارات المطلوبة في موقف معين. تقيس اختبارات الشخصية الطرق المميزة للتفكير والشعور والتصرف.

مفهوم الذكاء

"الذكاء" من الأمور الواضحة وكذلك المثيرة لكثير من الايهام، يتم التعبير عن الاختلافات في الذكاء بين الناس عبر الأداء. على سبيل المثال، إذا أخذنا العلامات في الامتحان المدرسي لطلاب الصف السادس الثانوي، فسوف ينتج عنه توزيع يظهر فيه معظم الناس مستوى معتدلا من الأداء وعدد قليل جدا منهم يظهر مستوى أداء مرتفعا للغاية (ممتازا) أو منخفضا للغاية (ضعيفا جدا)، وينطبق الشيء نفسه على الذكاء. يمكننا أن نرى أن معامل الذكاء (IQ)، الذي يتم استخدامه كمؤشر للذكاء يختلف في الدرجات وعدد قليل جدا من الناس لديهم مستوى غيرعادي من الذكاء. وبالمثل يأتي عدد قليل جدا من الناس في فئات التخلف العميق والشديد.

ومع ذلك، عندما نحاول تعريف وقياس الذكاء، فسيبدو لنا أنه مشكلة معقدة. الذكاء ذو طبيعة مجردة. لذلك فإن تعرفنا عليه يسترشد بمفهوم نظري فقط . لا يمكننا الاقتراب منه والتعرف عليه بشكل مستقل ألا من خلال نماذجنا النظرية أو المفاهيمية و في الوقت الحاضر لدى علماء النفس العديد من هذه النماذج التي توفر وجهات نظر متنوعة عن الذكاء. التنوع في تعريف الذكاء محير للغاية لدرجة أن العديد من علماء النفس أصبحوا يعرفونه من حيث "ما يقيسه اختبار الذكاء". ويرجع هذا التعقيد جزئيا إلى حقيقة أن العديد من اختبارات الذكاء تم تطويرها قبل تعريف ما يتم اختباره، في هذا الصدد، من المهم أن نتذكر قصة أول اختبار ذكاء منشور. طلب وزير التعليم العام الفرنسي من العالمين بينيه وسيمون في عام 1905 المساعدة في تعليم الأطفال المتخلفين عقليا. اعتبر هؤلاء العلماء أنه من الضروري قياس الذكاء لتحديد هؤلاء الأطفال المتخلفين عقليا. اختبروا الأطفال بمساعدة احد الاختبارات وقارنوا درجاتهم بمتوسط النتيجة التي حصل عليها الأطفال العاديون في كل مستوى عمري، واعتبر الأطفال الذين تأخروا سنتين في العمر العقلي عن عمرهم الزمني "متخلفين".

بعد نشر أول اختبار لبينيه للذكاء، تم إجراء أبحاث كبيرة حول الذكاء في جميع أنحاء العالم، وقد أدى ذلك إلى حصيلة متعددة من الآراء النظرية. قبل أن نشرع في عرض بعض وجهات النظر هذه، يمكن الإشارة إلى أن معظم الباحثين يربطون الذكاء بالفئات الواسعة التالية من القدرات: (أ) التكيف مع المواقف الجديدة ومتطلبات المهام المتغيرة، (ب) التعلم أو الاستفادة المثلى من الخبرة أو التدريب، و(ج) التفكير المجرد باستخدام الرموز والمفاهيم.

هنا يجب أن يكون واضحا أن مصطلح "القدرة" يشير إلى القوة المتاحة حاليا لأداء شيء ما. يمكن وضع وجهات النظر المختلفة حول الذكاء في فئتين واسعتين هما نظريات القياس النفسي أو العوامل ووجهات النظر الموجهة نحو العملية. تحاول نظريات العوامل تحديد العامل او العوامل التي تشكل الذكاء، وتصف نظريات العملية الذكاء من حيث المهام أو الاجراءات أو العمليات المحددة التي ينطوي عليها الأداء الذهني. دعونا ندرس بعض وجهات النظر الرئيسية حول الذكاء.

منظور العوامل حول الذكاء

اعتبر تكوين الذكاء سواء كان واحدا أو متعدد المكونات مسألة فضول، من خلال استخدام تقنية مترابطة تسمى تحليل العوامل، حاول العديد من الباحثين الكشف عن بنية الذكاء.

الذكاء كعامل عام (G) اقترح سبيرمان أننا نمتلك عامل ذكاء عام واحد (g) والعديد من العوامل المحددة الخاصة بقدرات معينة. يعمل عامل g عبر جميع أنواع القدرات. يتم التعبير عنه في القدرة على فهم العلاقات المجردة.

الذكاء متعدد العوامل اقترح ثورستون أن الذكاء يتكون من 7 عوامل هي الفهم اللفظي، وطلاقة الكلمات، والعدد، والفضاء، والذاكرة الترابطية، والسرعة الإدراكية والحث (أو التفكير العام). طور اختبارا للسرعة الإدراكية والحث (أو التفكير العام). طور اختبارا للقدرات العقلية الأولية (PMA) لقياس هذه العوامل.

بنية العقل وبغية توفير مقياس شامل للذكاء، اقترح غيلفورد وجهة نظر أخرى. وصفها بأنها نموذج بنية العقل (SI). يصنف هذا النموذج سمات الذكاء على طول الأبعاد الثلاثة الرئيسية. العمليات: مايفعله الشخص؟ وتشمل العمليات الإدراك والذاكرة والإنتاج المتباعد (الإبداع) والإنتاج المتقارب والتقييم. المحتويات: يشير هذا إلى طبيعة المواد أو المعلومات التي يتم تنفيذ العمليات عليها. وتشمل هذه الصور البصرية والسمعية والرمزية (مثل الحروف والأرقام) والدلالية (مثل الكلمات) والسلوكية والتصويرية (معلومات عن سلوك الشخص ومواقفه واحتياجاته وما إلى ذلك). المنتجات: يشير هذا إلى الشكل الذي تتم به معالجة المعلومات من قبل الشخص. يتم تصنيف المنتجات إلى وحدات وفئات وعلاقات وتحولات النظام وآثاره. وبالتالي من الواضح أن وجهة نظر العوامل تقدم وجهة نظر للذكاء من حيث تنظيم السمات. إن تنوع السمات التي تم تحديدها على هذا النحو أمر محير. هنا، يجب على القراء أن يتذكروا أن السمات المحددة من خلال تقنية تحليل العوامل هي ببساطة تعبيرعن درجة العلاقة بين التدابير السلوكية،إنها فئات وصفية. يتأثر تنظيم السمات بالخلفية التجريبية للأشخاص الذين يؤدون المهمة. إن الاختلافات الموجودة بين المجموعات والمستويات الاجتماعية والاقتصادية وأنواع المناهج الدراسية في تنظيم السمات تدعم هذا الرأي. بالنظر إلى عدد كبير من الأبحاث باستخدام تحليل العوامل، خلص أناستاسي بحق إلى أن الذكاء البشري يتكون من "ذلك المزيج من المهارات الادراكية والمعرفة المطلوبة والمعززة والمكافأة من خلال السياق التجريبي الذي يعمل فيه الفرد".

منظور الذكاء كعملية

ترتبط وجهة النظر هذه بتقاليد العلوم المعرفية، خصوصا نموذج معالجة المعلومات الوثيق الصلة به. وهو يتتبع عمليات الحصول على المعلومات وتمثيلها واستخدامها في القيام بأنشطة فكرية. دعونا نتعرف على بعض النماذج التي تؤكد على منظور الذكاء كعملية.

النظرية الثلاثية بعد رفض منظور العوامل أو النفسي القياسي، قام روبرت ستيرنبرغ بتحليل الذكاء الى ثلاثة جوانب، وهي المكوناتي والتجريبي والسياقي. يشمل الجانب المكوناتي تلك العمليات التي يستخدمها الشخص الذي يجري اختبارا من اختبارات الذكاء. وتشمل مكوناته المكون الفوقي أو عمليات التحكم في النظام الأعلى، ومكون الأداء، ومكون الاستحواذ، ومكون النقل. الجانب الثاني وهو الجانب التجريبي يشير إلى الطريقة التي يرتبط بها العالم العقلي للناس والعالم الخارجي ببعضهما البعض، إنه يضيف الإبداع إلى مفهوم الذكاء، في الواقع، يشكل ذكاء الشخص تجاربه، فإن التجربة التي يمتلكها المرء تؤثر على الذكاء. الجانب الثالث من الذكاء هو السياق و يشير إلى الطريقة التي يشارك بها الأفراد بيئاتهم ويتكيفون معها ويحاولون الحصول على أقصى استفادة من الموارد المتاحة ويسمى أيضا الذكاء العملي.

نظرية الذكاءات المتعددة جادل هاوارد غاردنر بأن هناك ذكاءات متعددة. ويقول إن الذكاء ليس كيانا واحدا، بل هناك ذكاءات متعددة يختلف كل منها عن الآخر. وقد حدد ثمانية أنواع من الذكاء: اللغوي، المنطقي، الرياضي، المكاني، الموسيقي، الجسدي الحركي، بين الأشخاص، داخل الشخصية والطبيعي . يتم تحديد قيمة هذه من خلال صلتها بالثقافة التي يعيش فيها الناس، الثقافات المختلفة تعطي درجات مختلفة من الأهمية لكل من هذه الذكاءات.

***

د. احمد المغير / طبيب اختصاصي وباحث

 

في المثقف اليوم