قضايا

دعوة لترك المفاصلة والانفصال عن العالم

توفيق السيفالغرضُ من هذه الكتابة، هو الدعوةُ لترك «المفاصلة» كأساسٍ لعلاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم مع غيرهم. ومعنى المفاصلة هو تحويلُ فهمِك الخاص للدين أو الآيديولوجيا، إلى حاجز يفصلك عمَّن يخالفونك في بعض الأفكار أو السلوكيات أو طريقة العيش.

هذه دعوة تبررها حاجتنا المصيرية للتعلم من الأمم الأخرى. نحن لا نقود العالم، ولا نستطيع التعلمَ منه من دون تفاعل معه. أضف إلى هذا، أن تطور البشرية يأخذنا للمزيد من التوحد والاندماج، سواء كنا ركاباً في قطار الحياة، أم كنا في مقعد السائق. الواقع أن الميل للانفتاح والاندماج هو ديدن الأمم الناهضة، بينما تميل الأمم المنتكسة والمتخلفة للانكفاء على الذات، لأنَّ نيَّات الآخرين مريبة.

المفاصلة وكراهة التواصل مع العالم لها جذور عميقة في التراث الديني، وتجسدت في قواعد عقيدية (الولاء والبراء أو التولي والتبري)، وفي مسلمات عامة (نظير الاعتقاد بأنَّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه، الذي يفسر بأنَّ المسلمين هم الأعلَون على أي حال)، ودعمتها مأثورات عرقية شهيرة عند العرب «مثل تفضيل جنس العرب، وبشكل مطلق، على بقية الأمم»، ثم لحقت بكل ذلك أحكام فقهية، أجمع عليها الفقهاء، نظير اعتبار ديَّة الكافر نصف ديَّة المسلم، والتمييز في عقوبة القتل بين الاثنين، وعدم إرث الكافر من مورثه المسلم.. إلخ. ووصلت إلى حد تحريم بعضهم الترحم على الأم والأب والزوج، إن ماتوا على غير الإسلام.

لعلَّ القراء الأعزاء قد استذكروا الآن الجدل الساخن حول جواز الترحم على الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، نظراً لكونها مسيحية. لحسن الحظ فقد أثمر ذاك الجدل عن نتيجة إيجابية، حيث شجع الكثير من الناس على إعلان تعاطفهم مع المرحومة شيرين، الأمر الذي جعل مقتلها ثم تشييعها، حدثاً استثنائياً، وحد قلوب العرب، على امتداد العالم. وذكرني هذا بما جرى في 2017 حين توفي الفنان الكويتي المعروف عبد الحسين عبد الرضا. في تلك المناسبة أفتَى أحدُ الشيوخ بحرمة الترحم عليه لكونه شيعيّاً. فرد الناس على تلك الفتوى بعكس ما أراد صاحبها، وتحوَّلت جنازة الفنان إلى استعراض هائل للوحدة الوطنية والتعاطف، لم تشهد له الكويت مثيلاً في تاريخها كله.

غريزة التضامن والتعاطف هي، على الأرجح، أعمق العوامل المحركة لميول الإنسان الاجتماعية، وبالتالي رغبته للعيش في الجماعة، حتى لو كلفه شيئاً من ماله أو حريته. وهذا هو التفسير الذي اعتمده الفيلسوف المعروف جان جاك روسو، في معارضته لنظرية توماس هوبز، التي تعالج حالة المجتمع في المرحلة السابقة لقيام الدولة.

بالعودة إلى أصل الموضوع، فإنَّ المسألة الجوهرية ليست إلغاء الأحكام التي قامت على أرضية الميل للمفاصلة، نظير الأحكام التي ذكرتها آنفاً، رغم أني شخصياً وجدتها معارضة لأصل العدالة الحاكم على كل حكم شرعي أو وضعي. المسألة الجوهرية هي التفاعل مع المخالفين والمختلفين، فإما أن نعتبر التواصل غير ضروري، كما رأى أسلافنا، وإما أن نعتبره ضرورة للتقدم، بل ضرورة للحياة. أظن أن عقولنا قد أخبرتنا فعلياً بالخيار الصحيح. فإذا اعتبرنا التواصل صلاحاً لنا وضرورة لحياتنا، تلزمنا إعادة النظر في الأحكام والرؤى التي وضعت على خلفية الميل للمفاصلة أو كانت تخدمه.

المفاصلة واعتزال المخالفين ليسا من نوع العبادات التوقيفية، بل من المصالح المتغيرة بحسب الزمان والمكان، التي يصحُّ الاجتهاد في أصلها وفي تفصيلها، كي تستجيب لحاجات الزمان ومصالح أهله.

***

توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم