قضايا

ماذا قدمت اليونان للبشرية؟

حاتم حميد محسنيذكر الروائي البريطاني تيبور فشر في روايته (عصابة الفكر) الصادرة عام 1994 " ان النقد، يونانية اليونان.. لو تم تجاهل النقد لكنا في عصور مظلمة.. نحن كنا في طريقنا الى النجوم".

قبل ألفين وخمسمائة عام، كانت سواحل بحر ايجه مقرا لعشرات المدن اليونانية والدويلات الصغيرة والمستوطنات، تتاجر وتتصارع وتتنافس فيما بينها بقوة، تتنازع بشراسة، تعقد وتخرق التحالفات. المنافسة الفكرية كانت حامية الوطيس. في أماكن مثل ميناء ميليتس على الساحل اللونايني، كان اول الفلاسفة يتأملون في الطريقة التي صُنع بها الكون، طبيعة التغيير، يتجادلون باستمرار، دائما يحاولون نقد نظريات الآخر وتطوير نظريات بديلة. في اثينا، كان الفلاسفة يصوغون اكثر الحجج تعقيدا حول الأخلاق والعدالة والتقوى وما ندين به للآلهة ولبعضنا البعض. كتب نورث وايتهد مرة ان "الوصف العام الأكثر أمانا للفلسفة الاوربية التقليدية هي انها تتألف من سلسلة من حواشي افلاطون".

الناس عادة يأتون الى الفلسفة عبر أسئلة حيوية وساحرة. كيف يجب ان نعيش؟ ماذا يمكن ان نعرف؟ هم أحيانا غير صبورين عندما يسمعون بان الفلاسفة الحديثين ينفقون كل وقتهم في نصوص افلاطون وارسطو. "تعالوا"، هم يقولون، "لماذا لا تكتبوا شيئا جديدا حول تلك الأسئلة الهامة؟ بالتأكيد يجب ان تكون الفلسفة قد حققت تقدما ولو قليلا في تلك القرون؟ اتركوا افلاطون وابيقور للباحثين الكلاسيك في مكتباتهم المتربة". مع ذلك، يستمر الفلاسفة في اكتشاف ان كتابات الاغريق (كما وصفها وايتهد) منجم لا ينضب من الاقتراحات. لذا، سننظر ان كانت الفلسفة اليونانية القديمة حقا يمكن ان تساعدنا في الأوقات الحديثة.

معظم الكتابة الفلسفية جاءت على شكل حوارات. افلاطون كتب حوارات كان فيها معلمه القديم سقراط هو الشخصية الرئيسية. كتابة حوارات واقعية هي مسألة صعبة، لكن مايكل بومان يلتقط جو واسلوب افلاطون بشكل جيد. هو ينقل معنى جيدا للكيفية التي بُنيت فيها حوارات افلاطون، والكيفية التي جرت بها طريقة سقراط في الاستجواب الفلسفي. اذا كان الحوار يزعجك، وكنت تميل للقول "لا يا سقراط، هذا ليس عدلا، ذلك ليس ما كان يقصده الرجل الآخر"، عندئذ ذلك سيكون شيئا جيدا، لأنه يعني انك تحصل على شيء مثل تجربة سقراط التامة. وبالنهاية، هو كان مفكرا مزعجا جدا لدرجة ان القاضي عاقبه بالموت لا لسبب سوى طرحه بعض الأسئلة.

في الحقيقة، من الصعب تجنب اليونانيين. هم كانوا اول من فكر في العديد من المفاهيم الفلسفية الأكثر صقلا. لذا، لماذا لا نحاول استخدام وسائلهم وبحذر في حل المشاكل التي تواجهنا. عالمنا مختلف جدا عنهم. مثلا، هم لديهم عبيد، ومجتمع شديد الترتيب الهراركي لدرجة استبعدوا منه المرأة. أفكارهم وأحلامهم كانت مسكونة بمجموعة مذهلة من الآلهة والخرافات. برودة التماثيل الرخامية الكلاسيكية وارتباطها بالنهضة عزز الانطباع في كل اليونان القديمة كنموذج للمعقولية. لكن في زمانهم كانت تلك النُصب والبنايات رُسمت في كل انواع الزخارف والحجج المنطقية للفلاسفة والتي كانت بلا شك ملونة بمشاعر وعواطف المنطقيين التي يتعذر الوصول اليها الان. هذا لا يعني اننا لا نستطيع استعمالها كإلهام، وانما يجب ان نتردد قبل استغلالها كسلطة لدعم نظرياتنا.

اليونانيون القدماء عرفوا القليل عن العلم، لأنهم كانوا اخترعوه توا. في الحديث عن اراتوثيناس وعبقريته في القياس الدقيق لمحيط الارض، قد يرى احد ان هذا مثال على العلم او الرياضيات وليس فلسفة، لكن الانقسام الحديث بين العلم والفلسفة حدث فقط قبل قرون قليلة. في اليونان القديمة وبعدها بوقت طويل، كان العلم يُرى كنفس الفعالية: استعمال العقل لفهم الكون. حتى كلمة "عالِم" اختُرعت فقط في عام 1834. ومهما يكن، كان اليونانيون أسلافا ليس فقط لفلسفة اليوم وانما ايضا لعلوم اليوم . ذلك لأن كل منهما، هو جزء مما عمله اليونانيون لنا. كل الخيرات والأخطار للعلم الحديث تأتي من ذلك الزمن. كيف يجب ان نشعر تجاه ذلك؟ اليونان واسطورتهم مرة اخرى تساعدنا في معالجة العالم. في الميثولوجيا اليونانية كانت بندورا فتحت صندوقها الشهير ومنه انطلقت كل انواع المآسي لكن الشيء الأخير الذي بقي في الصندوق هو الأمل(1).

ان الميراث الفلسفي النظري لليونان كان ثريا جدا وقد منحنا عدة أفكار نستطيع تطبيقها اليوم. الميراث الأعظم قيمة لليونان هو ليس في نظرية خاصة وانما في الموقف العام للشك والرغبة في رفض أي سلطة فكرية، ونقد أي نظرية، في محاولة لسحبها الى الأسفل والبحث عن نقاط ضعفها، لتفنيدها وتطوير نظرية أفضل.

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) في الميثولوجيا اليونانية تُعتبر باندورا Pandora أول امرأة خلقها اله النار وفقا لتعليمات زيوس. كل واحد من الالهة منحها موهبة متميزة. اسطورة باندورا هي نوع من العدالة الالهية، تعالج اسئلة الشر في العالم. طبقا للاسطورة كانت باندورا قد فتحت الجرة او الصندوق واطلقت جميع الشرور للانسانية. قيل ان الشاعر اليوناني هسيود في تفسيراته لقصة باندورا استمر في التأثير على كل من الثيولوجيا اليهودية والمسيحية وبهذا نقل سمعتها السيئة الى عصر النهضة. عدد من الشعراء اللاحقين والدراميين والرسامين جعلوا من القصة موضوعا لهم.

 

في المثقف اليوم