قضايا

تدريس الفلسفة للأطفال.. بين وأد براءتهم ومرح عقلانيتهم

ليلى تبانيالطفولة.. حياة الروح، وروح الحياة. عالم مخمليّ، مزدان بقلوب كالدرر، وأرواح باذخة الطهر. وعقول راجحة القرارعكس ما يروج لصغرعقولهم فالعقلاء هم الأطفال، يضحكون ويبكون متى أرادوا.. أما الكبار فهم مرضى كبرياء. وتمثيل ومكابرة، فالحقيقة تخرج من أفواه الأطفال. فلكم سعدنا بامتلاك الحكمة كوننا بلغنا مبلغا من عمر الحكمة، لتعود بنا إلى طفولتنا الهاربة.. فالطفل يقول ما يعنيه، ويعني ما يريد، ويريد ما يريد. ورغم أن الطفل تواق إلى عالم البراكوزم حيث التحرّر من الواقع والمنطق والسباحة في عالم من الخيال والعفوية بات من الضروري حفظ حقوقه المألوفة من حق في حياة والتعلم والعلاج، وأقحم بقوة حق الطفل في حرية التفكير وإبداء الرأي لاستكمال حريته وصلابة شخصيته.. لقد تعالت الأصوات في كثير من بقاع العالم الداعية إلى حقوق الطفل في التّفلسف، والتي تفضي به ان يمارس حقّه في الدهشة والتأمل والشك والشغف والسؤال، والتفکير اللامحدود القائم على ابداء الرأي ونقد الآراء الأحادية الاتجاه، وذلك بداعي أنّ الطفل يمتلك خيالا لا محدودا، وله طريقته في التفکير ونظرة للعالم تختلف عن نظرة الکبار... فإذا كان طرح السؤال من اختصاص الفلاسفة والمفكرين فما مبرّرات التفكير في حاجة الطفل إلى التّفلسف؟ أليس في ذلك إجهاض لبراءة الطفولة وتكسير للنّمو النفسي والعقلي للطفل؟ ام هو تحفيز لإشباع فضوله وإطلاق سراح خياله الواسع؟ نحاول الوقوف عند آراء الباحثين والمختصين في المجال ونستحضر بقوة رأي الدكتور حسني الهاشمي خبير تدريس الفلسفة للأطفال وخبير هندسة المناهج الدراسية من مصر العربية على ضوء إصداره القيّم " تدريس الفلسفة للأطفال " والذي استعرض محتواه للمناقشة والتحليل برعاية المجمع الفلسفي العربي وإدارة البروفيسورإحسان حيدري تحت عنوان: " تدريس الفلسفة للأطفال. رؤية تحليلية ونظرة مستقبلية ".

طفولة بدون تفلسف قتل ممتدّ لبراءة مذهلة:

هي دعوة من المفكر الدكتور الهاشمي للتفلسف من خلال تدريس الفلسفة للأطفال وقد سبقه إلى ذات النهج مفكرون فلاسفة من العالم كما لاقت اهتماما من الدول العربية على غرار المحاولات التربوية الفلسفية في دول المغرب العربي.   يرى المفكر الهاشمي أنّ تدريس الفلسفة للأطفال يواجه إشكالية قدرة الطفل على التفلسف والسن المناسب الذي يسمح للطفل بالتفلسف. وأكّد الدكتور أن أكبر عقبة تحبط سيرالمشروع، ظاهرة التنمّر على الفيلسوف والمشتغل بأمور الفلسفة عموما وعلى الطفل المتفلسف خصوصا،ويتجلى ذلك في رواج عبارات محبطة كقولهم:" إياك والفلسفة فإنّها تفسد العقول "... "من تمنطق فقد تزندق "... " الفلسفة تحليق في المجردات ولا تنطبق بالواقع... ". وأكّد أن الانسان ميزّه الخالق عزّ وجل عن سائر المخلوقات بالعقل، فيجد نفسه مضطرا للتفلسف من خلال التفكير والتأمل والخيال، ففي الغالب لا يوجد إنسان لا يتفلسف ليؤكد أن الطفل فيلسوف بالفطرة معزّزا نظريته بقول المفكر" محمد سعيد أحمد زيدان " أستاذ المناهج وطرق تدريس الفلسفة: " إنّ الدنيا بمثابة صندوق وأداة الطّفل لفتح هذا الصندوق هو ان يتساءل... لماذا؟ " وهوبداية التفلسف لدى الطفل. وقد طرق باب التفلسف بأسئلة أنطولوجية ميتافيزيقية أخلاقية، فتثار دهشة الطفل ويزداد شغفه لمعرفة خالق هذا الكون ومكنون السعادة وأصل الأشياء. فبمقابل هذه الأسئلة العميقة المهمة يلاقي الطفل صدّا وتجاهلا من والديه أو معلميه. وأنّ إغفال مثل تلك الأسئلة لدى الطفل الشغوف يؤدي إلى وأد التفكير والتفلسف لديه، لذا بات من واجب الوالدين والمربين تحفيز الطفل باستغلال تلك النزعة الطبيعية نحو التّفلسف واستثمار ما عنده من قدرات وامكانات وتوظيفها في تدريس الفلسفة لديه.

عزّز الدكتور الهاشمي رأيه بوجود اهتمام بتدريس الفلسفة للطفل عبرتاريخ الشعوب والحضارات، حيث أكد أبيقور أنّ الفلسفة طريق السعادة ولا يوجد سن خاص للاقبال على التفلسف فلا ينبغي تأخير ذلك بدعوى ان الطفل صغير. وهو الرأي الذي أكّده الفيلسوف الفرنسي " ميشيل ديمونتين " على أن الفلسفة ضرورة هامة وحيوية في تربية الأطفال

استعرض وجهة نظر الفيلسوف الأمريكي " ماثيو لبمان. Matthew Lipman.. "، التي تؤكد ضرورة تدريس الفلسفة منذ الطفولة لما لاحظه من قصور في النقد ومهارات التفكير لدى طلابه في الجامعة، ومردّ ذلك إلى أنّ الدافعية للتعلّم تقل كلّما تقدم الطفل في العمر نظرا لما تعانيه النظم التّعليمية التقليدية التي تهتمّ بالكم وتهمل الكيف، وتركّز على التعميمات والمفاهيم الغامضة والتلقين في طرائق التدريس وحشو المعارف وضخها وإهمال نمط التفكير في التفكير، وهي النظرية المستنسخة من نظرية سقراط في التعلّم وتوليد المعرفة. وهنا يجرّنا الحديث إلى أهداف تدريس الفلسفة للأطفال والتي من أبرزها "تنمية المحاكمة العقلية للطفل " والتي قوامها ابداع الطفل في ايجاد علاقات واستنتاجات بين الأحداث، ونقف رفقة الدكتور الهاشمي في اقحامه لمصطلح " الحصافة " وهي تعليم الطفل سلامة التفكير وتجنّب الوقوع في المغالطات، فضلا عن تعليمه التفكير الناقد والفلسفي والابداعي ولعلّ أهم ما نبتغيه من تدريس الفلسفة للطفل هو تنمية الاستقلال الذاتي للطفل والوعي الذاتي. إنّنا لو ركزنا الملاحظة والتحليل نجد أن الفيلسوف الهاشمي يكرّس فلسفة العقل السقراطية ويرمي إلى سقرطة التعلّم عملا بشعار سقراط " اعرف نفسك بنفسك ". ويثمّن دور المعلّم المنشط الفعّال كما يقحم مساهمة التكنولوجيا في تيسير التعلم لدى الطفل.

4161 تدريس الفلسفة للاطفالفلسفة تحت شعار " نفكر عالميا ونطبّق محليا:

وعن حركة تدريس الفلسفة للأطفال استعرض الدكتوربعض الدّول التي اعتمدت تدريسها رسميا كبقية المواد، والدول الرائدة على رأسها أستراليا والنرويج وأشاد ببرنامج "ماثيوليبمان "الذي اعتبره الأساس في تدريس الفلسفة للاطفال وقد عمم عبر اكثر من ستين دولة في العالم، ولعلّ ما يساعد في تعميمها وتيسيرها هو تعزيز تكوين معلمين يمتهنون تدريس الفلسفة. كما اهتمت بعض الدول في خلق مراكز لتدريسها كمعهد ترقية الفسلفة للأطفال ومركز تدريس الفلسفة للاطفال بماليزيا واسبانيا، لكنه أكد أن المجتمع العربي أقل المجتمعات حظا في تدريس الفلسفة للاطفال عدا بعض التجارب التي أشاد بها والتي خاضتها المملكة العربية السعودية بتصميم منهج قائم بذاته للتفكير الناقد لدى الطفل. أشار الدكتور إلى عامل الهوية وضرورة صياغة برامج تتفق ومقومات وهوية وثقافة كل أمة بدل استهلاكها من الخارج على سبيل الشعارالقائل " نفكر عالميا ونطبّق محليا ". انتقل الدكتور إلى آلية إقحام الفلسفة في المناهج الدراسية وذلك عبر مدخلين أحدهما مباشر يعتمد على منهج قائم بذاته لتدريس الفلسفة للأطفال، ومنهج غير مباشر تكاملي اندماجي يعتمد أساسا على إدماج التفلسف في باقي المواد التعليمية او ما يعرف بالتقاطع والكفاءات العرضية، فتظهر الفلسفة في كل نشاط يمارس على سبيل التكامل والبيموادية. وإن أردنا تعضيد كلام الدكتور فقد يظهر مشكل كفاءة المدرسين، فليس الكل قادر على ممارسة التدريس وتعليم التفلسف، لذا بات من الضروري تكوين المعلّمين بعناية فائقة. مع مراعاة زمن التدريس والأداءات التدريسية والخطط الدراسية والتكاليف المادية واستغلال نتائج الأبحاث والدراسات. مع اعتماد منهج الاستقصاء الفلسفي من خلال خلق بيئة تربوية آمنة تساعد على قيام المناقشات الجماعية بين الأطفال حيث يتاح للطفل التعبير عن أفكاره وميوله ومعتقداته وطموحاته بكل حرية وديمقراطية وامان، وان يعدّل ويغيّر من تلك الافكار إذا ثبت ان افكاره فاسدة أو غير ملائمة أو غير دقيقة مع الالتزام بأداب الحوار. إذ يقابل هذا الإجراء ما يعرف بورشات التفكير التشاركي واعتماد استراتيجية العصف الذهني. يتم تصميم الجلسات على هيأة دائرة يتقابل فيها الأطفال حتى يرى كل طفل بقية أقرانه تحت إشراف وإدارة المعلم المنشط، الذي يضع بدوره شروط الجلسة وقواعد النظام وآداب الحوار وتطبيق مهارات النّقد والتمحيص والتسامح واحترام رأي الآخر. حتى تنجح الجلسة الاستقصائية، اقترح الدكتور ان يثار الحوار بمثير مشترك يثير تفكير الأطفال، كأن يعتمد المعلّم قصة فلسفية أو قصيدة شعرية أو مقالا في صحيفة أو صورة ذات دلالة او حادثة او موقف معين، ثمّ يعمد المنشط إلى توجيه الدعوة إلى طرح الأسئلة ويحفزهم هو بدوره ويتيح لهم الوقت الكافي للتفكير وطرح الأسئلة.

تدريس الفلسفة وأد لبراءة الطفل:

تحفّظ بعض المتداخلين ـ من المشتغلين في الحقل الفلسفي ومفكرين في الوطن العربي ـ على مقترح الدكتور الهاشمي لتأسيس مناهج مباشرة لتدريس الفلسفة للاطفال، واقترحوا ان يلقن الطفل آليات التفكير السليم وطرق التأمل الموجه مع استبعاد تدريس الفلسفة كنظريات ولعلّ الاعتراض لدى البعض أساسا، قائم على عدم قبول ممارسة الفلسفة من طرف الأطفال، بحجّة أن لديهم نقصا معرفيا وذهنيا يحتاج إلى الوقت كي ينضج، فهم عاجزون على القيام باستدلالات منطقية صورية ومجردة وثبت أن المنطق الارسطي منطق عقيم يوقع الطفل في الآلية والخطأ، وأنّ عدم صلاحية الفلسفة للأطفال مبرّره أن تدريسها فيه خطر نفسي عليهم، فزج الطفل مبكرا في مشكلات الحياة الكبرى هو إجهاض لنموه الطبيعي، إضافة إلى أن الفلسفة تحتاج إلى ما يسمى "أشكلة القضايا " وهو مستوى عال من التفكير يجعل المتفلسف يضع القضايا في مفارقات غير محسومة. ورأى بعضهم أن ّالتعامل مع عالم المفاهيم والمعاني والمحاججة ـ وهو لم يبلغ بعد إدراك عالم التجريد ـ ضرب من الصعوبة ووالوأد الصريح لبراءة الطفل، وتناقض مع بساطته الباحثة عن الاطمئنان والسكينة. كما راح البعض من المعقبين إلى إلقاء اللّوم على المناهج المستهلكة التي يغلب عليها الطابع البنكي، ونقد النظم التربوية العربية العاجزة عن رسم فلسفة تربية واضحة تستند إلى مرجعيات وهوية كل مجتمع غاياتها الأسمى هي تنشئة الفرد الصالح وتحسين جودة التعليم الممنوح. رغم محاولات دول المغرب العربي (تونس ـ الجزائرـ المغرب) في اعتماد المقاربات البنائية التي تكرّس نمط التدريس بالكفاءات وتركّز على النهوض بفكر الطفل من خلال أشكلة التعلّم.

الطفل فيلسوف بالفطرة:

يولد الطفل بذات إبداعية عالية، وبعقل لمّاح شجاع، وبفضول بريء ملحّ على التساؤل في قضايا غامضة والخوض في اللانهايات بكلّ ما أوتي من براءة وسذاجة وذكاء، يقول الفيلسوف وعالم النفس الألماني " كارل ياسبيرز ":" عادة ما يكون للأطفال نوع من العبقرية التي تضيع عندما يصبحون كبارا.... "، فلا سبيل لإنكار أحدنا الفيلسوف الذي كان بداخله وهو طفل، فكلّ منا تساءل الأسئلة الأنطولوجية الميتافيزيقية والأخلاقية المألوفة والملحّة " من خلق الكون؟ "... " أين يوجد الله؟ " ماهي السعادة؟"، فكل طفل هو بالأساس متحرر، ويمتلك خيالا واسعا منفلتا من سطوة المألوف وقيوده، لكن وبقصد وبغير قصد قد يلاقي الصدّ والتجاهل في الإجابات وقد يلاقي الاهتمام والتحفيز. وهذا الموقف هو الذي يصنع الفارق في ابداعه المستقبلي، فإمّا أن يعززه وإمّا أن يكبحه.

يتنبّه الطفل بعفويته إلى ظواهر طبيعية بحكم حبّه للطبيعة، فيسأل أسئلة في غاية الدّقة والأهمية، يلاحظ الجبل من بعيد، فيسأل بفضول جامح: لماذا يبدو الجبل صغيرا بحجم يده الصغيرة؟، كما يلاحظ الطائرة في السماء ويعرف مسبقا انّها تقل المسافرين لكن صغر حجمها يذهله ويحيره.. أليس ما يطفح به كيل حواس الطفل هو أساس قيام المذهب العقلي؟ وهو منطلق بناء النظرية العقلية في المعرفة ؟ فسؤال الطفل هو الذي يكشف اللثام عن عجز الحواس منفردة في المعرفة وضرورة مزاوجتها بالعقل الممحص والمترجم. سؤال الطفل فينا برّره فيلسوف العقلانية " ديكارت ". فالطفل يتفلسف والراشد يثبت ويتستدل ويأخذ بيد الطفل إلى بر الأمان. الطفل يسأل ويثيرو الفيلسوف ينظّر. إنّ المنطق يقتضي على الأقل أن نجعل أنفسنا في أحجام أطفالنا ومستوياتهم النفسية والعقلية طالما كان التقزيم البيولوجي مستحيلا، وذلك كلما انبرينا نحن الكبار لمخاطبتهم ولمحاورتهم. إن الطفل أوسع إبداعا وإمكانا مما تقدّمه التنشئة الاجتماعية التي تعمل على خفضه إلى مستواها وهو ما يهدر طاقته الهائلة التي من المفروض أن تستغل في فتح آفاق أكثر رحابة. أما الحل، فيكمن في إعادة النظر في الطرق والبرامج التربوية، سواء في الأسرة أو المدرسة أو الإعلام كي تتوافق وأسئلة الطفل، أو بعبارة أخرى ينبغي العمل على عكس الآية، فعوضا عن أن تسير التنشئة نحو قولبة الأطفال وفق نماذج جاهزة معدّة مسبقا على النّحو الذي يريدونه، ينبغي تكييفها كي تتلاءم والطفل وإمكاناته الهائلة.. ومن هنا بات لزاما علينا تشجيع التفلسف لدى الطفل على النّحو الي يبعدنا عن زجّه في دروس فلسفية منظمة كما في الجامعات، أي دراسة نصوص فلسفية وتلقي محاضرات في القضايا الفلسفية، وأن نعيد الفلسفة إلى بعض غاياتها الأولى وخاصّة تلك المتصلة منها بالحياة في معناها النبيل عبر الأسئلة النيّرة المنبجسة من يفاعة جمهورها من الأطفال والمراهقين. وتذكية الملكة النقديّة لدى النّاشئة لانتشالها من براثن خطر أكيد. أن نحبّب الفلسفة والتّفلسف لدى الكبار والصغار ونستحضر كلاما جميلا عنها للفيلسوف الفرنسي " ميشيل دي مونتين " "Michel de Montaigne ": "إنّنا نجانب الصّواب إذا صوّرنا الفلسفة مجالا متعذّرا يستحيل على الأطفال ولوجه، وذات وجه عبوس عاقد الحاجبين رهيب. فمن يا ترى ألبسها هذا القناع الشّاحب المخيف؟ والحال أنّها ذات وجه وادع فرح منتش…إنّ الفلسفة ليست إلا مدعاة للاحتفاء والوقت الرّائق. والسّحنة الحزينة الكئيبة ليست في شيء منها..... "

***

بقلم الأستاذة: ليلى تبّاني

......................

* ملخص وإثراء لندوة المجمع الفلسفي العربي.

في المثقف اليوم