قضايا

فوكوياما الهارب من نهاية التاريخ إلى سخط الليبرالية

عام 1995 وبعد ثلاثة اعوام على صدور كتابه الشهير "نهاية التاريخ"، كتب فوكوياما مقالا تنبأ فيه بمستقبل داكن للولايات المتحدة الامريكية ما لم تستعد لتحديات الدخول في تاريخ جديد. كان فوكوياما قد تنبأ في كتابه " نهاية التاريخ الصادر عام 1992 بان: " تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية ولّى مع انتهاء الحرب الباردة وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية ".

قبل اشهر عاد فوكاياما الى الظهور ليعلن إن الحكومات الاستبدادية في صعود وإن زخم الديمقراطية انتهى بوضوح. وفي مقال نشره في صحيفة الفاينانشال تايمز بعد اسبوع على الهجوم الروسي على اوكرانيا، وصف الحرب بأنها نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم مشيرا الى ان تداعيات الهجوم الروسي تتجاوز حدود اوكرانيا وان: " الأزمة الحالية، الحرب الروسية الأوكرانية، أظهرت أننا لا نستطيع أن نأخذ النظام العالمي الليبرالي الحالي بوصفه أمرا مُسلَّما به. إنه شيء يجب أن نكافح من أجله على نحو مستمر، وسيختفي بمجرد أن نخفف حذرنا ". ورغم اعترافه بالازمة التي تواجه الغرب وامريكا،  فان فوكوياما يرى أن " بوتين لن يقدر على تحقيق أهدافه القصوى "، لكن في المقابل يجد فوكوياما ان الليبرالية تعرضت خلال الاعوام الماضية الى هجمات من قوى اليمين وقوى اليسار في نفس الوقت، كما ان السنوات العشر الماضية شهدت حسب قوله " التحول نحو الشعبوية والليبرالية والقومية داخل الديمقراطيات الليبرالية القديمة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والهند ".

بعد صدور كتابه " نهاية التاريخ " اعلن فوكوياما ان انتهاء التاريخ سوف يشرع ابواب الغرب على رياح التفكك والتفتت:" اذا كان من مخرج، فلن يكون إلا بالعودة الى جذور الثقافة الغربية.. إلى افلاطون وسقراط.. ولكن بالتاكيد ليس الى هايدغر " فهو يرى ان هايدغر فكرا شاذا..

عندما نشر فرانسيس فوكوياما مقالة يعنوان  " نهاية التاريخ " في مجلة " ناشيونال انترست "عام 1989  انشغل العالم بالشاب ذو الاصول اليابانية البلغ من العمر " 37 " عاما، وبعد ثلاثة اعوام ستتحول هذه المقالة الى كتاب بعنوان  "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" – ترجمه الى العربية فؤاد شاهين وجميل قاسم -. وفيه اعلن عن نهاية عصور الاضطهاد واسدال الستار على النظم الشمولية، وانتهاء الحرب الباردة، والتبشير بعالم ليبرالي يحترم قيم الديمقراطية. كان فوكوياما يعيش نشوة تفكيك الاتحاد السوفيتي وهدم جدار برلين ليعلن ان التاريخ انتهى وان عصرا جديدا يحمل القيم والمثل الديمقراطية هو الذي ستتبدأ مسيرته، لكن بعد ما يقارب الخمسة عشر عاما سيعترف  فوكوياما بانه تسرع في اطروحته حيث اصدر عام 2006  كتاب بعنوان "أميركا على مفترق الطرق " – ترجمه الى العربية محمد محمود التوبة - أوضح فيه أن " ماكينة الديمقراطية الأمريكية قد أصبحت مصابة بنزلة برد شديدة، وأن ازدياد سطوة المال السياسي وتنامي نفوذ اللوبيات والدور المبالغ فيه للدعاية الإعلامية من العوامل التي زادت تشوهات النظام الديمقراطي الأمريكي".

ولد يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما يوم 27  تشرين الأول عام 1952 في حي هايد بارك بمدينة شيكاغو، لأسرة من أصول يابانية، نشأ في بيئة محافظة. هرب جده من الحرب الروسية اليابانية عام 1905 إلى الولايات المتحدة، ليفتتح متجراً لبيع الملابس في لوس إنجليس، وقد تم اعتقاله اثناء الحرب العالمية الثانية ضمن اجراءات الاعتقال الإداري الذي استهدف الأميركيين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية خوفا من ولائهم لليابان التي كانت آنذاك تخوض حربا ضد امريكا. أما والده فلم يطله الاعتقال لأنه حصل على بعثة دراسية. حصل والده على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة شيكاغو حيث قام بتدريس الدراسات الدينية، أما والدته توشيكو كواتا فولدت في كيوتو باليابان وهي ابنة  عالم الاقتصاد الياباني شيرو كواتا، قدمت أمه إلى الولايات المتحدة وتعرفت على يوشيو فوكوياما خلال الدراسة الجامعية، انتقلت العائلة لاحقا إلى مانهاتن بمدينة نيويورك حيث عاش فرانسيس فوكوياما سنواته الأولى قبل الانتقال إلى بنسلفانيا عام 1967. ساعدت فوكوياما طبيعة عمل والده في التعرف على النخب الفكرية في امريكا، وحددت هذه المعارف  مساره الأكاديمي، فتخرج من قسم الدراسات الكلاسيكية في جامعة كورنيل، حيث درس الفلسفة السياسية على يد ألن بلووم. وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد في العلوم السياسية، وكان موضوع رسالته عن السياسة الخارجية السوفياتية.

في كتابه " نهاية التاريخ " أراد فوكوياما أن يخبرنا أنّ عصر الآيديولوجيات قد انتهى، وأننا سنعيش في ظلّ نظام لبيرالي في السياسة والاقتصاد، وأن الليبرالية هي تتويج للتطور الطبيعي للبشرية: "ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو، هذه نقطة النهاية للتطور الآيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية " بعد أربع سنوات خرج علينا صامويل هنتنغتون بكتابه " صدام الحضارات " – ترجمه الى العربية صلاح قنصوة - ليوبّخ تلميذه فوكوياما ويقول له إن الصراع القادم ليس صراعاً بين الدول المختلفة اقتصادياً وسياسياً، وإنما ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيس للنزاعات الدموية بين سكان هذا الكوكب.

كنا نحن في هذا الجزء من العالم وانا واحدا منهم، نحلم بكتاب فوكوياما نسمع عنه ونقرا المقالات، لكننا لم نحظ بنسخة واحدة، حتى فاجأني ذات يوم من عام 1993 الكتبي الشهير " ابو طه "، وهو يلوح بكتاب صادرعن دار الهلال المصرية بعنوان " نهاية التاريخ وخاتم البشر "  المؤلف فرنسيس فوكوياما، والمترجم  حسين احمد امين،  و كان  هذا الاسم اقصد المترجم  معروفا لدي، فسبق ان قرأت له كتابه الممتع " في بيت احمد امين "، يتحدث فيه عن والده الأديب والمترجم الشهير احمد امين، وعن حواراته وهو صبي مع طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود، اخذت الكتاب وذهبت به مسرعا اريد ان اعرف ما الذي يريد ان يقوله هذا المفكر الذي اثار كل هذه الضجة ؟  بعدها حصلت على نسخة ثانية من الكتاب وهذه المرة بعنوان " نهاية التاريخ والانسان الاخير " بترجمة أشرف عليها مطاع صفدي الذي كان يصدر مجلة لن تنسى بعنوان " الفكر العربي المعاصر "، ثم الحقها باخرى بعنوان " العرب والفكر العالمي " ومن خلال هذه المجلات، كنا نتعرف على احدث تيارات الفكر العالمي المعاصر.

اعود لفوكوياما الذي عرفنا من سيرته الذاتية انه تتلمذ على يد الفيلسوف الاميركي " آلان بلوم " صاحب الكتاب الشهير " انسداد العقل الأمريكي " والذي صدر قبل كتاب فوكوياما بعام واحد، ويذهب البعض الى ان التلميذ تاثر كثيرا بافكار استاذه الذي أدان في كتابه الجامعات  الاميركية لانها لا تُعلم شيئا. وان العقل الاميركي اخذ يهتم بقشور الثقافة وليس بأصولها. يخبرنا فوكوياما ان التاريخ الذي اعلن عن نهايته هو تاريخ الافكار والايدلوجيات الكبرى، وليس التاريخ الذي يعيشه البشر، وهو يؤكد ان الدافع لكتابه كانت: " جملة كتبها كسينجر منذ سنوات بعيدة قال فيها ان الشيوعية حقيقة مطلقة  غير قابلة للزوال "، ويذهب فوكويا ليؤكد ان افكار كسينجر هي جزء من المشكلة التي يعاني منها العقل الاميركي المعاصر، الذي يرى انه يعيش ازمة كبرى لا يريد الساسة الإعتراف بها، ويرى فوكوياما ان اميركا استطاعت ان تدحر الشيوعية وتحقق الإنتصارات، لكنها أخفقت في تحقيق السعادة للمواطن الاميركي، فمشكلة المواطن الاميركي والأوربي الذي يعيش الديمقراطية الليبرالية، انه بات أسير ماكينة المجتمع الإستهلاكي الذي تسحقه وتستنزفه في كل لحظة وبكل وحشية.. ومثل استاذه بلوم يرى فوكوياما ان نهاية التاريخ سوف يشرع ابواب الغرب على رياح التفكك والتفتت، ويرى ان المخرج من هذه الازمة  هو بالعودة الى جذور الثقافة  الغربية الى افلاطون وسقراط، ونجده  يرد على الذين يتهمونه  بالدعوة الى إسترجاع العقل المحافظ بالقول:" لست بصدد الدفاع عن الماضي، بقدر ما اسعى الى البحث عن مازق تلوح معالمه افق الحاضر "

فوكوياما يجد ان الليبرالية الغربية ومعها الديمقراطية الاميركية عجزتا عن ان تكونا حلاً، وانهما ستعجزان في المستقبل. ان المشكلة الكبرى التي يراها فوكوياما، انه ليس هناك اي نظام  او اية ايديلوجيا قادرة على حل جميع مشكلات الشعوب.. وهذا ما يجعله  يصر على نهاية التاريخ،  ليؤكد ان البشرية امام تحديات الدخول في تاريخ جديد... ما هو هذا التاريخ الجديد ؟.. يعلن فوكوياما ان لا أحد يستطيع ان يعرف سره، ولا يمكن قراءته إلا بعد حصوله.. ولانه لم يحصل بعد، فنحن حسب قول فوكوياما  لا نزال في مدار نهايات تاريخنا الأول.

في مقابلة معه بعد صدور كتابه بعامين قال فوكوياما:" لدي حدس قوي بانني ساصبح شيئا مهما في التاريخ الاميركي الجديد الذي لا اعتقد انه سيتاخر كثيرا ".

فوكوياما يؤكد في معظم كتاباته انه سار على منهج هيغل وماركس في اعتقادهما بان تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لانهاية،  بل انه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من اشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الاساسية، فنهاية التاريخ عند هيغل هي في الدولة الليبرالية، وعند ماركس في المجتمع الشيوعي.

في عام 1999 تطلب مجلة ناشيونال جغرافيك من فوكوياما ان يكتب مقالاً يستعرض فيه العشر سنوات التي مضت منذ ظهور مقاله " نهاية التاريخ "، ويبدا فوكوياما بكتابة سلسلة مقالات ستظهر فيما بعد بكتاب بعنوان " نهاية الانسان " – ترجمه الى العربية احمد مستجير - يقدمه بالعبارة التالية التي يقتبسها من الروائي الدوس هكسلي:" نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئا واحداً لا يمكنه ان يعرفه: انه لا يستطيع ان يعرف ما اذا كانت المعرفة ستقتله ام سُيقتل، نعم، أنه لا يستطيع ان يعرف ما اذا كان قد قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها ام بسبب المعرفة التي لم يكتسبها، والتي كانت لتنقذه لو انه عرفها ".

ويؤكد فوكوياما انه اثناء تفكيره فيما ظهر من ردود على كتابه نهاية التاريخ، بدا له ان الجدل الوحيد الذي لايمكن انكاره، هو ان التاريخ لا يمكن ان تكون له نهاية إلا اذا كانت للعلم نهاية.. اننا اليوم نعيش في بيئة جديدة تماما لم تكن موجودة منذ قرن مضى، فهل علينا ان نتحور لنلائمها.في " نهاية الانسان " يصر فوكوياما ان العلم والتكنلوجيا يمثلان موطن الهشاشة في الحضارة الغربية، لأن كل رموز الحضارة تحولت الى اسلحة شريرة، مثل ظهور السلاح البيلوجي، الذي يدعونا الى تحكم سياسي اكبر في استخدامات العلم.

في السنوات الاخيرة يعلن فوكوياما عن ما اسماه المازق الامريكي. فهو يرى ان الديمقراطية الليبرالية لن تواجه باية معارضة. من هنا الى زمن طويل. لكنها لن تستطيع، بالرغم من ذلك تامين السعادة للمواطن الامريكي الذي بات اسير ماكينة المجتمع الاستهلاكي التي تسحقه وتستنزفه في كل لحظة وبكل وحشية.

في الاشهر الاخيرة وضعت روسيا، فرنسيس فوكوياما على قائمة الممنوعين من دخول اراضيها، وفي حوار معه اجرته قناة دويتشه فيله الالمانية قبل اسابيع، حذر فوكوياما من عودة دونالد ترامب الى السلطة عام 2024 لان ذلك حسب رأيه سيحل كل مشاكل روسيا:" ترامب ما يبدو ملتزم بانسحاب الولايات المتحدة من الناتو. ستكون روسيا قد حققت أهدافها الرئيسية ببساطة من خلال هذا التغير في السياسة الأمريكية. ولهذا السبب أعتقد أنه من المهم حقاً أن تحرز أوكرانيا بعض التقدم وتستعيد الزخم العسكري، لأن الوحدة في الغرب تعتمد حقاً على اعتقاد الناس بوجود حل عسكري للمشكلة على المدى القريب. إذا شعروا أننا ببساطة نواجه مأزقاً طويلاً سيستمر إلى الأبد، فأعتقد أن الوحدة ستبدأ في الانهيار، وستكون هناك المزيد من الدعوات لأوكرانيا للتخلي عن الأراضي من أجل وقف الحرب

فوكوياما الذي سيحتفل بعد اقل من ثلاثة اشهر بعيد ميلاده الت " 70 " يدرك جيدا ان افكاره تعرضت افكار فالى كثير من الهزات والهزائم بعد  حروب القاعدة وعودة روسيا الى لاعب قوي، ورغم اصراره على ان حركة التاريخ تسير للامام، فان الاحداث اثبتت ان التاريخ يمكن ان يرجع الى الخلف او يسير بطرق ملتوية، إلا ان فوكوياما لا يزال يؤمن بأن المشروع الليبرالى هو الأفضل حتى لو تعرض لبعض للخسائر والانكسار، فاليبرالية  كما يقول تحتاج دوما الى رعاية واهتمام وتصحيح مسارات.. وقد اصدر قبل اشهر كتابا جديدا بعنوان "الليبرالية وسخطها"  يدافع فيه عن تصوراته للنظم الليبرالية، والتي يرى انها مهددة من داخلها بسبب صعود الافكار الشعبوية، حيث يرى ان النظام الليبرالي يواجه الكثير من التحديات وايضا الكثير من الاستياء، وان أفضل طريقة للسيطرة على هذه التحديات هي أن  ان تصحح مسارات الليبرالية وان نقدم للعالم نموذج سياسي لبيرالي يحترم الحقوق الفردية، وينمي الفرص الاقتصادية ويساعد على دفع المجتمعات المتنوعة الى الامام.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

في المثقف اليوم