قضايا

الانهار الانبوبية وحفظ الثروة المائية في البصرة

حسن خليل حسنمن جديد عادت مشكلة تردي توعية المياه في البصرة في هذا الصيف من العام الجاري 2022، وزادت حدة المشكلة مع ظهور المد الطحلبي الاحمر المرتبط بتوغل المياه البحرية في المجرى الاوسط من شط العرب (مركز المدينة البصرة) تكرر ظهورها في صيف وخريف الاعوام 2015 و2016 و2018، وكانت في هذا العام اضخم تأثيرا واوسع وابعد انتشارا حيث وصلت الى قرية الهارثة شمال البصرة وهذا مؤشر خطير وتداعيات فمن المؤكد انها سوف تتغلغل في مياه هور الحمّار الغربي، وهي تهدد سكان البصرة والتنوع الاحيائي داخل الاهوار، وهذه الظاهرة المرتبطة بالسواحل الخليج العربي لم يسبق تسجيلها منذ بداية ظهور حالات التلوث الشديد المرتبط بنقص التصريف وتردي نوعية المياه في البصرة التي بدأت بوادرها في خريف العام 2009 اذ حدث انخفاض حاد في الامدادات المائية وتوغل المد الملحي وضعف قابلية الانهار على المعالجة الذاتية للملوثات في البصرة، والخطير في ظاهرة المد الطحلبي هو ارتباط ذلك بظهور إصابات بأمراض المياه المنقولة وظهور انواع بحرية من الطحالب والبكتريا الزرقاء التي نعتقد انها مسؤولة عن حالات الاصابة بالتسمم التي حدثت في العام 2018 والتي طالت 4 من بين كل 10 اشخاص كانت اكبر المؤشرات خطورة على تدهور الوضع المائي في البصرة.

وفي العام كان متوقعا ان تشتد حالات النقص في امداد المياه صيفا، تشير التقارير الحكومية الرسمية ان الايرادات المائية من تركيا وايران انخفضت الى 50% منذ العام 2020 بالتزامن مع التشغيل الاولي لسد اليسو، وبحسب تصريح وزير الموارد المائية الحالي مهدي الحمداني فإن الوزارة تعمل على استراتيجية تقييم تقييم ملف المياه في العراق لغاية عام 2035، حيث سيصل عدد السكان أكثر من 50 مليونا ووضعت فيها اسوأ الاحتمالات، وتركز الاستراتيجية على تأمين مياه الشرب على الأقل..!! هنا نشير الى حصة البصرة الحالية من المياه من نهر دجلة عبر شط العرب والبدعة لا تتجاوز 3.5-7% من مجمل ايراد نهر دجلة مع ضغوطات الصناعات النفطية والهجرة من اجل العمل التي تأتي من المحافظات الاخرى.

ومما فاقم من مشكلة هذا العام ما حدث في نهاية العام الماضي2021  حيث حدّثت تركيا من استراتيجياتها في استثمار سد  اليسو  الذي يعد اهم  جزء في مشروع (GAP) التركي  في جنوب شرق الاناضول الذي كان مخططا له منذ الخمسينات وقد اصبح يطفو على السطح  منذ التسعينيات واقعاً، ومن يجري من تسارع في تشغيل سد اليسو التوربيني وتسارع انجاز سد جزرة الاروائي وهو اكثر نهماً وخطراً من سد اليسو لانه سيبتلع 60% مما تبقى من ايراد نهر دجلة وتحويلها لارواء مساحات واسعة من مشروغ غربب الاناضول،  وقد تحققت نسب كبيرة من انجازه مؤخرا وسوف يصبح جاهزا للتشغيل قريباً.

كان اول تشغيل لسد اليسو في  حزيران 2018 وتسبب بحدوث نقص حاد ومفاجئ  في مناسيب نهر دجلة خصوصا في جنوبي العراق ، وعلى اثر ذلك تم الاتفاق بين الحكومتين العراقية والتركية على تأجيل الاملاء الى موسم هطول الامطار والثلوج،  واستأنف الاملاء خلال 2019 ووقد ساعدت ظروف الامطار الغزيرة والفيضانات الاستثنائية خلال فصل الربيع من ذلك العام على مرونة املاء السد لأول مرة والتي قدرت فترتها الزمنية بما لا تقل عن عامين كاملين، سد اليسو التركي هو المصيدة الكبرى لقضم مياه دجلة قبل دخوله العراقق فهو أكبر سد تبنيه تركيا على نهر دجلة، وواحد من 22 سدا تم بناؤها كجزء من مشروع الغاب الضخم في تركيا، وعند تنفيذ جميع مشاريع السدود سوف يصل التخزين في نهر دجلة إلى 17.6 مليار متر مكعب وهذا يعني سيطرة كاملة على المياه العراقية!

وفي ظل ضعف الاستثمار في البنى التحتية لاستدامة المياه في العراق وتعثر خطط المعالجة الطويلة والمتوسطة والقصيرة التي تصطدم بالتأجيل وانعدام التخصيصات وضعف الاهتمام بالتصورات المستقبلية اللازم، وغياب التنظيم والتسويف في تمويل وتنفيذ المشاريع الحيوية في قطاع المياه وعدم الأخذ وجهة نظر المختصين والاكتفاء بمواقف فمن المتوقع ظهور انخفاض مناسيب خطر يحرم البصرة من شط العرب كمصدر لمياه الاسالة، مع تمدد ملحي واسع وزيادة في تركيز الملوثات مع غياب إجراءات الاصحاح البيئي للانهار وفي حال الاعتماد  على مياه الإسالة من شط العرب سوف تظهر امراض وحالات التسمم وامراض منقولة في المياه في السنوات القادمة ومن المؤكد وفق هذا السيناريو ظهور اصابات بالكوليرا في المواسم الجافة سيما وان نفوس العراق في تزايد والثروة المائية في تناقص مطرد، وهنا نشير الى توقعنا باعتماد البصرة كلياً على قناه البدعة للأغراض الضرورة واهمها مياه الاسالة ومعامل تحلية المياه حالياً تعتمد على مياه الاسالة، يذكر ان قناة البدعة لا تغطي سوى 20 % من احتياجات سكان البصرة المنزلية من المياه، ومياهها عرضة للفقد بسبب نظام الجريان المكشوف غير كفو ايضا فيها الكثير الحشائش المائية والسحب المائي غير المرخص، ناهيك عن ضياع قسم كبير منها في الاجزاء غير مبطنة وبعض جوانبها مهدمة، ومن الآثار الهامة الأخرى هي تلوث المياه ، وتدهور نوعية المياه ، وفقدان الأراضي الزراعية. سيخسر العراق ما يصل إلى 47٪ من دخله المائي السنوي وحوالي 40٪ من أراضيه الزراعية ، وبالتالي سيقلل من إنتاجه الزراعي مما يتسبب في البطالة وما يتبعها من نزوح للمزارعين العراقيين.

ان ما تقدم يستدعي ذلك وضع خطط ادارة الجفاف للموارد المائية في ضوء التغيرات المتسارعة في نوعية المياه للحفاظ على كمية المياه المتاحة ونوعيتها ومحاولة النهوض، ووضع خطط انية ومستقبلية لمعالجة النقص والتغير في نوعيه مياه محافظة البصرة مع تعزيز الدراسات الخاصة بكمية المياه الواردة الى شط العرب ونوعيتها بشكل دائم، ووضع نواظم هيدروليكية على بعض مداخل شط العرب، واجراء خطط تقييمية بين فترة واخرى.

ولعل من اهم الاجراءات التي تحدثنا عنها في مناسبات علمية عديدة منذ العام 2017 لأنشاء الانهار الانبوبية كتطبيق بديل للأنهار الحالية في العراق ومحافظة البصرة ، اذ شهد العالم المعاصر نماذج ناجحة وواعدة في الدول العالمية والاقليمية، وهي من ضمن المشاريع الهادفة لنقل المياه بين الأحواض لإعادة توزيع المياه بشكل متكافئ، هناك 4 مشاريع لنقل المياه بين الأحواض في إفريقيا و 7 في أمريكا و 9 في آسيا و 2 في أستراليا و2 في أوروبا للتخفيف من ندرة المياه، وهناك بعض مشاريع تحويل المياه بين الأحواض قيد الإنشاء وهناك العشرات من المشاريع المخطط لها في العالم، فعلى سبيل المثال باشرت الصين بنقل 45 مليار متر مكعب من المياه من نهر اليانغتسي إلى سهل شمال الصين(Gurung, 2015)، ولعل اقرب الامثلة لنقل المياه –لمسافات طويلة كالنهر الصحراوي في صحراء مصر ونهر خليفة في الامارات، ومن امثلة نجاح الأنهار الانبوبية هو النهر الصناعي في ليبيا، وانابيب تحويل المياه من غرب ايران نحو اواسط وشرق ايران، وفيما يخص امكانية استخدام تطبيق الانهار الانبوبية لحل مشاكل تدهور نوعية المياه في شط العرب، وهنالك سيناريوهات عديدة لخطط مد الانهار الانبوبية الناقلة للمياه العذبة من شمال محافظة البصرة وبالمقابل مد نهر بحري موازي لنقل المياه البحرية نحو البصرة والمحافظات الشمالية بهدف التحلية، وهذا المشروع يهدف للربط المائي بين جنوب العراق وشماله ( وهذه الافكار موضحة بالتفصيل في كتابنا الموارد المائية في البصرة ومشكلاتها المعاصرة المنشور في العام 2019) وهو متاح على شبكة الانترنيت.

اما في المرحلة الراهنة فمن الضروري جدا الاسراع بالاجراءات التالية في البصرة: وهي الحلول العاجلة:

. عند ظهور المد الطحلبي في الجزء الاوسط من شط العرب يجب ايقاف جميع اشكال السحب من محطات الاسالة والاهم محطات التحلية الواقعة على شط العرب بين الهارثة بالاتجاه جنوبا الى حين انتهاء هذا ظاهرة المد الاحمر التي يرتبط فيها حالات التسمم كما حدث في الاعوام ٢٠١٥ و٢٠١٦ واخطرها 2018 .

.  تحويل اعتماد اسالة جميع احياء محافظة البصرة على قناة البدعة، ولأنها لا تكفي فعلى دائرة المجاري اعتماد المراشنة ولو لساعات قليلة ولكن المهم ان تكون المباه امنة

. استنفار طاقات محافظة البصرة والجهد التطوعي لتنظيف احواض الار زيرو واصلاح المضخات العاطلة

. اعتماد الشفافية في اخبار سكان البصرة بتلوث المياه واحتمال سميتها حتى تتجنب الناس السباحة والغسل في المياه خلال هذه الفترة.

.  الاسراع بمد انبوب مياه من دجلة شمال القرنة الى محطات الاسالة ورصد موازنة حكومية عاجلة لذلك .

.  تهيئة طوارئ المستشفيات لاستقبال محتمل لحالات تسمم ورصد علاجات كافية وفتح ردهات لذلك لا قدر الله تعالى..

.  البدء بتوزيع حبوب التعقيم على المنازل من قبل دوائر الصحة او عن طريق المجالس البلدية ٨.. مخاطبة شركات النفط ومنعها من سحب اي قطرة مياه من الانهار العذبة وتحويل استهلاكها الى المياه البحرية والاخوار والمبازل.

اما الحلول التي يجب التخطيط لها: وهي الحلول متوسطة المدى فهي كما يلي:

1. تحويل جميع اعتماد مياه الاسالة في البصرة الى مياه البدعة بتصريف كافي يبلغ 15م3⁄ ثا ، حسب مقترح شركة بارتنرز في العام1992 اذ اقترح استشاريو الشركة أنشاء محطة إسالة كبيرة في منطقة البدعة(حدود محافظة الناصرية) وضخ مياه الشرب الى البصرة عن طريق أنبوب ناقل مباشرة من منطقة البدعة الى البصرة للحفاظ على مياه الشرب من التجاوز وتوصيل الكمية الكافية التي تأخرت منذ تشغيل مشروع R.Zero في  شهر كانون الأول من عام 1997 في ظل ظروف الحصار الاقتصادي على العراق آنذاك، لذا  تم  الغاء مقترح محطة الإسالة في منطقة البدعة واستعيض عنها باستخدام محطات الإسالة القديمة المقامة في البصرة على شط العرب، كما ألغت فكرة الأنبوب الناقل واستُبدلت بقناة مفتوحة ثلثاها مبطن والثلث الأخير ترابي.

2. الاستعداد الفعلي لإنشاء مشروع (النهر البحري) وهو خط انبوبي ناقل للمياه البحرية الى محطات الاسالة التي ستحول الى محطات تحلية وتصرف مياه المتخلفة عن التحلية الى القنوات الاسنة لغسلها وتصريفها الى شط البصرة.

3. تشكيل فرق بحثية متخصصة خلال ازمات المياه تتفرغ لمتابعة ظروف وتداعيات الازمة، ومن المهم ان تعمل خلايا استباقية في كل صيف لرصد وتقييم ملف المياه في البصرة.

4.  ادخال تقنيات الري الموفرّة للمياه ولسيطرة على نوع المحصول وتكثيف الزراعة الشتوية، وفرض انواع الزراعة الصيفية الاقل هدرا للمياه تحويل جزء من المزارع الى المحاصيل الرعوية

5. برمجة الاطلاقات المائية من النواظم على دجلة ومحطات الضخ في قناة البدعة وقناة كتيبان الاروائية حسب الاحتياجات الفعلية للاستخدامات المائية في البصرة، وادخال نظام التحكم الأوتوماتيكي للقنوات.

6. تقديم الدعم الحكومي في توزيع ادوات ترشيد المياه المستخدمة في الارواء والصناعات وادوات الاستهلاك المنزلي(غسالات – صنابير ماء) وعزل تجهيز مياه السقي والتنظيف عن مياه الغسل في المنازل.

7. تأسيس جمعيات مستخدمي المياه في البصرة لتضم المزارعين والصناعين والتركيز على استهلاك الصناعات النفطية والاستخراجية وتحميلها جزء كبير من اضرار الاستهلاك المفرط والتلويث الذي تسبب به في نهر كرمة على.

8. تحسين اداء محطات الاسالة وانشاء محطات تحلية رديفة لها، زيادة محطات معالجة مياه الصرف الصحي، واعادة استخدام مياه الصرف الصحي الخفيف واستخدامها في الري، حسب الجودة فالأقل جودة تروي للمحاصيل الزراعية، والاكثر جودة تستخدم في ري الخضروات أو تغذيـة مـستودعات المياه الجوفية.

***

ا.د. حسن خليل حسن

 

في المثقف اليوم