قضايا

مآلات التمثيل "الرديء" للتراث الإسلامي

في موروثنا الديني، إضاءات عميقة الدلالة، لم نستفد من تمثيلاتها فيما نمرُّ به من منعطفات سياسية أو دينية أو ثقافية، وكأنّنا شئنا بملء إرادتنا أنْ نطوي كشحًا عن هذا التراث، أو نلتقط ما فيه دعوة للتناحر المذهبي، أو توسيع فجوات الاحتراب بين هذا الدين الخاتم وغيره من الديانات، بما نتدرَّعُ به من أحاديث وأحداث أبعد ما تكون عن منطق القرآن الكريم الداعي إلى الرحمة والتسامح واحترام الآخر المختلف ما لم يصدر منه الأذى واقعًا..!

والمتأمِّل في هذه الظاهرة، يجد تكالبًا على التراث الديني "الرديء" في تسويغ كلِّ فعلٍ أو موقفٍ سلبيٍّ من الآخر المختلف، من دون إنعام نظرٍ فيما تركه أثر تلك الرداءة على الصورة الكلية لذلك التراث، فكان غبار تلك الرداءة يُحيل من نقاء صورة ذلك التراث، ويُتيح الفرصةَ السانحةَ لمن تحاملَ على الدين، بإتيانه لتلك النماذج "المشوَّهة" من التراث؛ ليحكمَ على الإسلام بجرَّة قلم أنَّهُ دينٌ لا يتّسع ومفاهيم العصر، وأنّه دينٌ قد انقضت مدّة صلاحيته المحدودة بحدود الزمان والمكان..

والمُلفت للنظر، أنَّ هذا السلوك لا يقتصر على فئة معيَّنة من هذا المذهب دون غيره من المذاهب الإسلامية، بل تجده "تواصيًا جمعيًّا" عند مختلف الفئات المذهبية، فتمتح من بئر التراث "الكِدر" من دون تمحيصٍ أو مُراجعة نقديةٍ له في ضوء الصحيح من التراث المُطابق لمنطق القرآن الكريم غير المُختلف عليه عند الجميع..!

ولعلَّ واحدًا من نماذج التمثيل السيِّئ للتراث – وما أكثر النماذج السيئة لتمثيل التراث- فيما تستدعيه الجماعات المنغلقة فكريًّا في كل مذهب، بضرورة قمع الآخر المختلف وصولاً إلى التصفية الجسدية له، بادِّعاء أنَّ لهذا الفعل "مستنده الشرعي" الذي يُشرعن هذا الفعل، ويجعل ضحيّته المُستهدف "مذبوحًا على القبلة" من أحاديثٍ تعجُّ بها كتب الأحاديث التي راجتْ في العصر الأموي من وجوب طاعة السلطان برًّا كان أم فاجرًا، والنهي عن الخروج عن الجماعة حتى وإنْ أوجع السلطان ظهرك بالسياط..!  في توجيهٍ صريح عبر هذه الأحاديث "المكذوبة" بقبول الظلم والرضوخ للطاغية حين يتقلّد الحكم ويكون زعيمًا لجماعة المسلمين، وبهذا تمّ القضاء على مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ذلك المبدأ الذي أقرّهُ القرآن الكريم بصورة عامة وصريحة من دون استثناء لتطبيقه عن جهة دون أخرى، في محاولة صريحة لتجريد القرآن من أثره الواقعي في تغيير واقع الحال الذي يعيشه المسلمون لما هو أفضل. وإلا ما ورد وصفهم بأنهم "خير أمةٍ أُخرِجت إلى الناس" بقرينة تقيّد تلك الأفضلية، وهي: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" هذه القرينة العملية السابقة، لقرائن أخرى تدخل في الجانب النظري: " وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"، وحين لا تأمر الأمّةُ الإسلامية بمعروف، وتنهى عن منكرٍ أيًّا كان صاحبُ ذلك المنكر، لم يتحقّق فيها ذلك الوصف "خير أمة" بانسلاخ القرائن الضابطة لحدود ذلك الوصف..

وكما قلنا آنفًا أنَّ التمثيل السيِّئ للتراث، لم يقتصر على مذهبٍ من المذاهب الإسلامية، فقد نجده ذلك الأمر عند الشيعة، ممّن يدّعي انتماءه لنهج أئمة آل بيت الرسول قولاً وعملاً، ولكنّه من حيث التطبيق والسلوك العملي أبعد الناس عن ذلك النهج، بادِّعائهم أنَّ حبّهم لآل البيت يكفي لأن يُنجيهم من العقاب في الآخرة، متمسّكين بأحاديث أبعد ما تكون عن مضمون القرآن الكريم الذي يُفترض أنْ يكون دستور المسلمين، والمحكّ الذي يحتكم إليه المسلمون جميعًا في قبول الأحاديث الواردة عن النبي وآل بيته ورفضها، ولكن تجد تفشّي مثل تلك الأحاديث "المريبة" في فضاء التداول الشيعي، التي تُبيح للإنسان أنْ يتهاونَ في أعماله الصالحة؛ لمجرّد كونهُ يُكِنُّ الولاء لعترة آل الرسول..!! في حين أنَّ "المضادَّ النوعيَّ" لتلك الأحاديث موجودٌ في الجانب الآخر من هذا التراث، من مثل قول الباقر: "لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتُنا إلا مَن أطاعَ الله عزَّ وجل" أو قول الصادق: "إنما شيعةُ عليٍّ مَنْ عَفَّ بَطنَهُ وَفَرجَهُ، واشتَدَّ جهادُهُ، وعَمِلَ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوابَهُ، وخافَ عِقَابَهُ، فَإذا رَأيتَ أُولئكَ فَأُولئكَ شيعةُ جعفر" وغير ذلك من الأحاديث التي تنسجم ومنطقَ القرآن الكريم، ولا يخفى على كلِّ لبيبٍ أنَّ ما آل إليه حالُ التشيُّع في عالمنا اليوم، أنَّ الأعمَّ الأغلب من هذا الجمهور، لم يُدقِّق أو يحرص على تطبيق هذه المضامين الأخلاقية الرفيعة التي من شأنِها إصلاح الواقع والنهوض به من هُوَّة التردّي والانحطاط، بفعل انتخاب مُمثِّلي هذا المكوِّن – كما هو الحال في العراق بعد 2003- ممّن ادّعى ظاهرًا تمثيله للتشيّع، وأجاد العزف على مشاعر التمظهر المذهبي، وتاجرَ بهذا العنوان؛ لأجل كسب أصوات الناس، ممّن لم يُدقِّق في الموروث "الحَسِن" ويُراعي تطبيقه في أولئك المُدّعين لتمثيل هذا الخط، واكتفى بالرديء من ذلك التراث، الذي يُتيح لأمثال هؤلاء المُدّعين لهذا العنوان من سياسيين وغيرهم من المجرمين، الدخول في رحمة الله، والفوز بشفاعة النبي وآل بيته، ما جعل هؤلاء وأمثالهم، سادة الحكم لهذا المكوِّن الاجتماعي المخدوع بهم، وعلى ذلك الأساس الواهي، تربّعوا على دستَ الحكم، وما تركوا أخضر ولا يابس إلا وقضموه ومن ثم خضموه، وما زال التردّي مهيمنًا على المشهد العراقي، في كلِّ مفاصله الحيوية والمهمّة، بما لا يدعُ بصيص أملٍ لتغييره، إلا إذا تدخّلت السماء، وهذا من المحال؛ لما فيه من تغيير لواقع السنن الكونية والتاريخية التي تنطبق على جميع الأمم من دون استثناء، بمقتضى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ولأنَّ المسلمين بعامّة، لم يُراعوا الضوابط الموضوعية التي استلهمها النبيُّ وآل بيته من روح القرآن ومبادئه العظيمة، في تولية الشخص بما تتوفّرُ فيه من مؤهِّلاتٍ علميّةٍ أبعد ما تكون عن الميول العاطفية التي تدغدغ الوجدان الجمعي لعامة الناس، في مثل ما ورد عنهم من أحاديث في هذا الشأن، مثل الحديث: "ومن أمّ قوماً وفيهم أعلم منه، لم يزل أمرهم في سفالٍ إلى يوم القيامة" أو الأحاديث التي تحذِّر من طالبي المُلك أو المناصب القيادية في المجتمع، في دلالة واضحة إلى فراغهم واستقتالهم على المناصب، مثل ما وردَ في الحديث النبوي: إِنَّا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ طَلَبَهُ وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ". كان بمقتضى هذا الحديث وسابقه الحسن مضمونًا وأضرابه، أنْ نشهد مآلات الصدوف عن هذا النهج الذي دعا إليه النبي وآل بيته الكرام، في تردٍّ وانحطاط في المجال السياسي المهيمن بتأثيره على جميع مجالات الحياة من صناعة أو زراعة أو تعليم أو صحة، أو اقتصاد، أو.. الخ من مجالات، بتولّي الجهلة والأمّيين الذين عاثوا خرابًا في البلاد، وأُتخِمت خزائنهم من ثروات ليس لهم حقٌّ في احتكارها لهم، وما كان لهم هذا الموقع الذي تبّوؤا فيه لولا ذلك الفهم السطحي للتراث من دون تمحيصٍ أو إعادة نظر، الأمر الذي جرَّ إلى هذه المآلات المؤسفة من تكريسٍ للفساد وتضخّمهِ سنةً بعد أخرى..! 

***

 د. وسام حسين العبيدي

 

في المثقف اليوم