قضايا

شروط التقدم

ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق، وهي أن التطور والتقدم الاجتماعي، هو وليد تراكم تاريخي وإنساني، يوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لعملية التطور والتقدم. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن هذه العملية بعيدة عن الإرادة الإنسانية، وإنما هي تتكامل مع الإرادة الإنسانية التي تنشد التطور وتتطلع إلى التقدم. بمعنى أن إرادة التطور والتغيير، تتجه إلى إنضاج عملية التراكم، بحيث يبقى التقدم حاجة موضوعية ملحة.

فالإرادة الإنسانية مطلوبة، ولكنها ليس من أجل استخدام العنف والقوة الغاشمة للوصول إلى التقدم والتطور، وإنما بمعنى العمل على إنضاج الشروط الذاتية للتطور والتغيير. فالتقدم والتحديث لا يفرض على الناس بالقوة، ينبغي أن يقتنعوا به، أي بالفكرة التي تعبر عنه، وبالطريق والوسائل والأدوات لتحقيقه. والتقدم في كل مستوياته، يكون حقيقيا بقدر ما يكون نتيجة تراكم يرتقي مع ارتقاء وعي الناس بضروراته، وعندما تنضج الشروط الاجتماعية والمادية لحصول التقدم. والتراكم المطلوب لا يحصل من دون العمل والسعي إليه. لذلك فإن الجهد الإنساني بكل عناوينه، ينبغي أن يتجه لاستنفار الوعي وإنجازه الشامل والقادر على إنجاز مفهوم التغيير والتقدم بوسائل سلمية وحضارية.

وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن القوة (بالمعنى المادي الغاشم) والعنف لا يفضيان إلى التقدم المطلوب، بل يؤديان إلى تحريف الوعي الاجتماعي وتنمية دور الغريزة في المجتمع. وذلك لأن عقلية العنف، تؤدي إلى الانخراط في مشاريع حروب وتقسيم وإلغاء للآخر، وكلها عناوين وحقائق ومسلكيات تفاقم من المشاكل والأزمات، ولا تحمي الاستقرار والأمن، وتدمر كل المكتسبات، وتنهي كل مشروعات التنمية. إضافة إلى الآثار النفسية المدمرة ليس فقط على صعيد الأفراد، وإنما على صعيد المجتمع كله أيضا.

وجولات الحروب الداخلية في العديد من البلدان والمناطق، تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، إلى أن العنف ثقافة وأدوات، تزيد من أوار الحروب وتعمق منطقها الاستئصالي في ل الاتجاهات. لذلك فإن الاستقرار الاجتماعي القائم على التراضي والمدعوم بمبادئ العيش المشترك والحوارات الوطنية المتواصلة والعميقة، وتكريس حالة الشفافية في كل الحقول، كلها هي التي تضمن الأمن والاستقرار.

وإن العنف مهما كانت مبررات ومسوغات استخدامه، لايفضي إلى الاستقرار، وإنما يؤدي إلى الحروب التي تتوالد باستمرار لأتفه الأسباب.

من هنا من الأهمية بمكان، التأكيد على ثقافة الحوار والتواصل، والعمل على تفعيل الجوامع المشتركة والكفاح الدائم لنبذ كل الثقافات التي تبرر لصاحبها إقصاء الآخر أو الاستعلاء عليه أو إخراجه من الدائرة المشتركة. وذلك لأن هذه الثقافة، لا تنتج مشاريع أمن واستقرار، بل تسقط مشاريع، ولا تنتج مشاريع بديلة وحقيقية. وهذه مسؤولية الجميع. إذ لا يمكن أن يأمن أي مجتمع، وهو يحتضن ثقافة وفكرا يبرر لصاحبه قتل الآخرين أو إقصائهم.

إننا مطالبون، أن ننزع من نفوسنا وعقولنا كل أسباب الحرب والانقسام والتفتت، حتى نتمكن على المستوى الواقعي، من بناء السلم الأهلي والاجتماعي.

وفي هذا السياق من المهم التأكيد على المسائل التالية:

1. من المهم إعادة النظر في مفهوم الوحدة، الذي يصل حد التطابق التام، ونفي الخصوصيات، كما نعيد النظر في مفهوم العدو ومتوالياته من التناحر والتقاتل والعداء المفتوح.

حيث إننا بحاجة أن نحدد (من نحن) و(من هم أعداؤنا)، وذلك حتى يتسنى لنا صياغة ذاتنا الوطنية، وتحديد أولوياتها، ومشروعات عملها.

وننطلق في تطوير مفهوم التعاون والتضامن الذي يصل إلى مستوى التكامل. فبقدر ما تنمو حالات التعاون والتضامن في المجتمع الواحد، بقدر ما يتعزز خيار الوحدة والاندماج. فالعلاقة مع الآخر، لا يمكن تحديد معالمها ومواصفاتها، بدون تحديد معنى الذات. فهو الذي يحدد الآخرين وعلاقتك معهم.

لذلك فإن الذات الثقافية والوطنية، ليست ذاتا آحادية وبسيطة. وإنما هي ذات مركبة.. بمعنى أنها تحتضن العديد من الخصوصيات والحالات المتنوعة، التي تتعامل معها باعتبارها جزءاً أصيلا من هذه الذات. وإن هذا التنوع الذي تحتضنه، يوفر خصوبة كبيرة للعطاء والإبداع. وإذا أحسنا التعامل معه، يكون أحد الروافد المهمة للاستقرار والأمن الاجتماعي. فحق التنوع لا ينافي ولا يناقض واجب الوحدة.

فالطريق إلى الوحدة، يمر عبر الاعتراف بكل الخصوصيات المتوفرة، والعمل معا لصياغة رؤية أو ميثاق مشترك، يوفر حاجات الخصوصيات كما يلبي متطلبات الوحدة والعيش المشترك. وإن تهميش حالات التنوع، لا يفضي إلى استقرار وتقدم على المستوى المجتمعي. لذلك فنحن بحاجة إلى إعادة تأسيس مفهوم الوحدة الذي لا يعني التطابق والاندماج المطلق. كما أن حق الجميع في الاختلاف والتنوع الفكري والسياسي ينبغي أن لا يقود إلى حالة العداء والتقاتل، وإنما إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم.

وإن دائرة التعاون، كلما توسعت وتعمقت، تقدمنا باتجاه الوحدة الاجتماعية والوطنية المطلوبة. لذلك ينبغي أن نشجع كل مبادرات التعاون وحالات التضامن، لأنها طريقنا إلى البناءالحقيقي للذات. وأن نفهم بعضنا البعض بشكل مباشر وصريح، وبعيدا عن المسبقات.. كل هذا هو الخطوة الأولى في مشروع التعاون المفتوح على التحديات والآفاق كلها.

2. إن السلم الأهلي، أضحى اليوم في ظل التطورات والتحولات الهائلة والمذهلة، التي تطال كل شيء، وتهدد العديد من الثوابت، ضرورة وطنية قصوى. لذلك من الأهمية العمل اليوم على تعزيز خيار السلم الأهلي الوطني، والابتعاد عن كل ما يسبب خرقا أو اختراقا لضرورات وموجبات السلم الأهلي.

والعنف واستخدام القوة، ليس سبيلا لتحصيل الحقوق أو الدفاع عن الأفكار والآراء. فالإنسان الذي يستخدم القهر والسلطة للدفاع عن آراءه وأفكاره، لاريب أنه يهدد السلم الأهلي، لأنه يخترق مبادئ التداول السلمي للأفكار والسلطات.

فالفرض والقسر، يوجد في النفوس الإحن والأحقاد، ويغرس في الذات تصلبا وتشددا، يحول دون التعامل الحضاري مع المختلف والمغاير. والإنزلاقات الوطنية والحروب الأهلية، التي حدثت في العديد من البلدان والمناطق، بدايتها والنواة التأسيسية لكل أشكال الحروب والتدمير، هو محاولة الأطراف والتعبيرات الفكرية والسياسية على قسر وقهر الآخرين. وإخضاعهم لشروطهم السياسية أو قناعاتهم الفكرية. فتتسلح الأفكار بالعنف، ويسود التشدد والتطرف الحياة الاجتماعية، فتتراكم أشكال الإقصاء والنبذ والقهر، وتفضي في المحصلة الأخيرة إلى الحروب الأهلية والداخلية التي يخسر فيها الجميع، وتدخلهم في أتون الحروب العبثية التي لا رابح فيها. لذلك كله على مستوى أوطاننا وبلداننا، من الأهمية أن نفك الارتباط بين الفكر والإكراه، والسياسة والعنف، والرأي والقهر. ونؤسس لثقافة سياسية ومجتمعية جديدة قوامها إرساء دعائم السلم الأهلي، والابتعاد عن كل أشكال النبذ والإقصاء والتهميش، والعمل على تجاوز كل موروثات الماضي التي تبقي الحقد والضغينة، واعتبار السلم الأهلي من الفرائض الاجتماعية والسياسية التي ينبغي أن نحافظ عليها من مواقعنا المختلفة.

وإن العنف ليس هو رهان الأفكار الحضارية، لأن الدفاع بالقهر والعنف عن الأفكار والقناعات، يزيد من ابتعاد الناس عنها، ومؤشر من مؤشرات ضعف هذه الأفكار، التي لا يمكن تثبيتها في الواقع الاجتماعي إلا بالقهر والإكراه.

إن مفهوم السلم الأهلي، يتطلب على الصعيد المجتمعي والوطني، نبذ العنف والإكراه، والقبول بالتنوع، والتعامل السلمي والحضاري مع المختلفين والمغايرين. وإن تنمية الرابطة الوطنية الحديثة، يتطلب جهودا حثيثة صوب صياغة الواقع الوطني بعيدا عن العصبويات التقليدية، وإلغاء كل أشكال العنف والنبذ والتهميش من حقل السياسة والفكر والاجتماع.

وهناك علاقة طردية بين مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي ومفهوم السلم الأهلي.. فالسلم الأهلي الوطني، هو الذي يجذر مفهوم الاستقرار السياسي، كما أن طريق الاستقرار يمر عبر إرساء دعائم السلم الأهلي. بينما في لحظات العنف، يغيب الاستقرار، وتتدمر أسس السلم الأهلي.

3. إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية، ويوظف كل إمكانات الوطن ويصبها في خدمة المشروع، وينفتح على كل الخصوصيات الثقافية، ويتفاعل ويستفيد من كل القوى والوسائط الثقافية والاجتماعية المتوفرة، ويتواصل مع منابع الفعل الثقافي بتنوعه ومستوياته ومجالاته وآلياته القائمة والممكنة.

وبكلمة: إن تحصين الوطن من المخاطر، يتطلب بلورة حياة ثقافية جديدة، تتجاوز سيئات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد التواصل والحوار والانفتاح على كل مكونات الفعل الثقافي والإبداعي الوطني.

فالتحصين لا يتأتى بالمنع وزيادة قائمة الممنوعات، بل بغرس أسباب الحياة والحيوية فحياتنا الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع الراكد، هو أقرب المجتمعات إلى الاختراق على المستويات كافة.

أما المجتمع الحي، والحيوي، فإنه يمتلك الدينامية الكافية التي تؤهله إلى مقاومة كل الأخطار ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد أمنه الاجتماعي والوطني.. فوجود الحياة الثقافية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية فإرساء دعائم الأمن الاجتماعي والوطني. فحيوية المجتمع وديناميته، هو رهاننا لمجابهة كل التحديات والمخاطر.

لذلك فإن مفهوم الأمن الشامل، يتطلب منا جميعا، تنمية الاستعدادات والإمكانات الثقافية الوطنية، التي تأخذ على عاتقها معالجة الظواهر المجتمعية واستيعاب أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم في أطر ومؤسسات تنمي كفاءتهم، وتصقل مواهبهم، وترفع من مستوياتهم وتشاركهم في صياغة غدهم ومستقبلهم.

***

أ. محمد محفوظ

 

 

في المثقف اليوم