قضايا

التخصص أم سلطة المتخصص؟

موضوع هذا المقال سؤال يتردد كثيراً في هذه الأيام، ولا يحظى بالجواب المناسب. فحوى هذا السؤال: هل يصح لكل شخص أن يناقش في أمور الدين.. أليس علم الدين مجالاً تخصصياً، مثل الهندسة والطب والأدب والتاريخ؟ هذا سؤال يتردد عادة على ألسنة الدعاة، الذين يصعب عليهم رؤية مجالهم الخاص مستباحاً لكل عارف ونصف عارف.

ما الذي يجري على وجه الدقة.. لماذا يرغب أهل هذا الزمان في نقد المواقف والأفكار التي تنسب للدين. وما الذي يثير القلق تجاه هذا النقد.

أعتقد أن فكرة التخصص قناع يخفي مشكلة أخرى هي المرادة بالكلام. ونستطيع فهم هذا المراد إذا تجاوزنا ظاهر القول إلى ما وراءه. ليس المقصود البحث عن «نية القائل» بل تأويل القول. وخطوتنا الأولى هي التحرر من قيد اللفظ، والتفكير في الشواغل المحتملة للقائل، أي: ما هو الباعث على السؤال وما الذي يبحث عنه السائل؟

والذي أرى أن الباعث هو عدم القدرة على تجسير الهوة بين زمنين أو نسقين من التفكير: يمكن أن نسمي الأول زمن التلقين، أي الزمن الذي كانت المعرفة محصورة بمجملها تقريباً بين المشتغلين بالعلم الديني، والقليل ممن يدور حولهم، بينما كان بقية الناس أميين أو شبه أميين. يومها كانت المعرفة تمنح صاحبها نوعاً من النفوذ أو السلطة. وكان بوسعه الإيحاء بالتطابق بين كلامه وكلام الله والأنبياء والأئمة، فلا يعارضه أحد. كان العرف الجاري يومذاك أن يتقبل الناس ما يقال لهم، لأنه كان النافذة الوحيدة لمن أراد المعرفة.

ثم مر الزمان وتوفرت المدارس ومصادر المعرفة لعامة الناس، فبات في وسعهم مجادلة المعارف الدينية رجوعاً إلى مصادرها، أو محاكمتها رجوعاً إلى قواعد علمية أخرى. كان يمكن لأحد الفقهاء في الماضي، أن يقول مثلاً إن الله أقام الأرض «على حوت في البحر، ووضع البحر على صخرة يحملها قرن ثور أملس»، فيستمع إليه الناس مندهشين، وربما هزوا رؤوسهم إعجاباً بعلمه. أما اليوم فالمرجح أن بعضهم سينكر هذا القول أو يسخر منه. وسيضطر الفقيه إلى وضع شروح واحتمالات، لكن أحداً لن يحمل قوله على محمل الجد.

نحن إذن ننتقل من زمن التلقين، إلى زمن المجادلة.

لكن الأمر لا يقتصر على طريقة انتقال المعرفة. فلدينا أيضاً الفارق في تقدير الذات والمسافة بينها وبين السلطات الاجتماعية (أو الشخصيات المرجعية). كان انحصار المعرفة يسمح بحصر النفوذ أو السلطة الاجتماعية. فلما انتشرت المعرفة، لم يعد ثمة فارق يسمح بقيام سلطة أو نفوذ. بات بوسع عامة الناس أن يختاروا نوع المعرفة التي تناسبهم، وطبيعة العلاقة التي تربطهم بالآخرين. نحن إذن نتحدث عن زمن جديد، تتسم علاقات الناس فيه بأنها أقرب للتعاقدية الاختيارية (ربما المؤقتة في غالب الأحيان).

أظن أن الصورة قد اتضحت الآن. فالكلام عن التخصص، مجرد قناع لمشكل آخر، ربما كان غير واضح لطرفي النقاش. هذا المشكل هو انهيار علاقة السلطة التي قامت في إطار التلقين، لأن الزمن تغير، فانتهى الظرف الثقافي الذي استوجبها. الذي يتحدث عن التخصص يطالب -في حقيقة الأمر- بالعلاقة القديمة التي كانت تعطيه نوعاً من السلطة. والذي يجادل إنما يرفض هذا التراتب، ويطالب بأن يكون نداً وشريكاً في صناعة الفكرة، أي مساوياً للطرف الثاني في العلاقة.

لو أخذنا التحليل إلى نهاياته المنطقية، فقد يسعنا القول إن الذين يمارسون النقد في الإطار الديني، أو الذين يسخرون من الأفكار والممارسات غير العقلانية، إنما يعبرون عن رفض للتبرير الديني أو الثقافي، الذي أنشأ سلطة اجتماعية مغلقة أو غير مرنة. الموضوع إذن ليس المعرفة بذاتها بل تجلياتها في التراتب الاجتماعي.

***

توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم