قضايا

ماذا نفعل بالفلسفة؟

(إن الفلسفة ما زالت عندنا موضع ريبة.. وكأن الفيلسوف زنديق، وكأن التجديد بدعة، وكأن النقد تشكيك، وكأن الفكر العلمي دخيل علينا. لقد فرضوا علينا على مر الأجيال قوالب فكرية جامدة قاتلة بلغت ذروتها في سياسة الحفظ دون النقد، النقل دون التجديد، الإنحناء أمام ما هو مكتوب بدلاً من البحث العلمي المنزّه، الترتيل دون التفتح).

أنور عبد الملك من كتابه تغيير العالم

لماذا لم تعد الفلسفة اليوم مرغوبة في بلاد العرب، ولماذا أصرّ القارئ العربي أن يلقي بها خارج اهتماماته؟، حيث واجهت الفلسفة عقوقاً وإهمالاً بمثل ما واجه الملك لير قسوة بناته في مسرحية شكسبير الشهيرة.

في قديم الزمان كان رجال الفكر والأدب في هذه البلدان على استعداد أن يبذلوا أرواحهم في سبيل إعلاء شأن الفلسفة حتى أن المستشرق الروسي " ستكوفيسكي " يكتب:" حين كان يسود الجمود فلسفة أوروبا في القرون الوسطى، كان الفلاسفة العرب يعالجون كل قضايا العالم وكل شؤون الطبيعة. ولم يبدأ الكلام في أوروبا على قضايا الطبيعة ومعرفة ما هي الطبيعة، إلا بعد أن تعرفوا على مؤلفات ابن سينا. فمنذ ذلك الحين أخذوا يطرحون الاسئلة عن الحي والجامد ".

آنذاك كان رجل مثل ابن رشد على استعداد آن يخسر حياته في سبيلها، وقد آثر ابن المقفع أن يموت، على أن يعيش خائناً لمبادئها، وخاطر الفارابي أكثر من مرة ليفوز بمنصب معلم ثان ٍفي مدرستها، وعشقها الكندي وتفلسف بها، وطاردها ابن طفيل في حكاياته، وعاش ابن سينا مهموماً من أجل نيل رضاها.. كانت تلك الأيام عصر عظمة الفلسفة العربية، حين طوت في شجاعة كل معرفة تحت جناحها، كان الناس يمجدونها، إذ لم يكن شيء أهم وأسمى من معرفة الحق.

كان الفيلسوف الالماني هيغل قد جعل ظهور الفلسفة على مسرح الحضارة البشرية رهناً بتقدم الإنسان، وتزايد إحساسه بالحرية، فذلك لأنه قد فطن الى أن من خصائص الروح الفلسفية هي روح البحث المستمر، والحرية الفكرية، والتسامح العقلي، والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين. وقد كتب جون لويس في كتابه مدخل الى الفلسفة:" إن الفلسفة لا تبدأ إلا حينما يتهيأ للبشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدة، لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودة ".

ندرك جيدا ان فهم الحضارة الغربية امر مستحيل دون بدون شيء من المعرفة لتاريخ الفلسفة، يكتب ميشيل اونفري ان الفلاسفة جميعا مازالوا احياء اليوم، وما يزال لديهم ما يقولونه لنا حتى ونحن نعيش في عصر الهواتف الذكية. واعمالهم ما زالت تنطق باسم وجهات نظر عالمية تماما في زماننا هذا. وهي تطرح اجوبة حية لنفس الاسئلة التي تضغط على عقولنا وحياتنا في ايامنا هذه ولقوة. ومازلنا قادرين على تمييز روح روسو وكانط وهيغل تخفق حتى في قرننا الحالي. قرن الانجازات العلمية.

وضعت الفلسفة العربية موضع الشك للأسف، فأنكرها البعض وسَلم بها البعض الآخر، وكانت موجة الشك فيها طاغية خلال القرن التاسع عشر، حيث ظن البعض إن الفلسفة تتنافى مع ما جاء به الدين الإسلامي، فيما أصر العديد من المستشرقين على أن ما يسمى فلسفة عربية، ليس إلا مجرد محاكاة وتقليد للفلسفة الاغريقية، وإن كتب ابن رشد وابن سينا والفارابي هي تكرار لما كتبه أفلاطون وأرسطو، ونجد باحثاً مثل ارنست رينان يكتب ": إن العرب لم يصنعوا شيئاً أكثر من إنهم تلقوا دائرة المعارف اليونانية في صورتها التي كان العالم مسمّى بها في القرنين السابع والثامن "، إلا أن رينان نفسه وبعد إطلاعه على أعمال ابن رشد ونشره كتاب " ابن رشد والرشدية " يتراجع عن حكمه ويكتب إن ": العرب مثل اللاتينيين، مع تظاهرهم بشرح أرسطو ، عرفوا كيف يخلقون لأنفسهم فلسفة ملأى بالعناصر الخاصة ".

والآن لنطرح السؤال: هل هناك فلسفة عربية ؟ يؤكد معظم الباحثين إن هناك فلسفة عربية امتازت بموضوعاتها ومشاكلها، وإنها حاولت أن تقدم إجابات لبعض المسائل الفلسفية المهمة خصوصاً فيما يتعلق بالوجود، والصلة بين الله ومخلوقاته التي كانت مثار جدل كبير بين فريقين من الفلاسفة، كما إنها حاولت أن تجد توافقاً بين الحكمة والعقيدة، وأن تتناول قضايا النفس البشرية. طبعاً هذا لاينفي القول إن الفلسفة العربية تأثرت بالفلسفة اليونانية القديمة، وإن الفلاسفة العرب أخذوا عن أرسطو وأفلاطون العديد من آرائهم، وإنهم شغفوا بافلوطين كثيراً، فالثقافة العربية مثلها مثل معظم الثقافات نفذت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت، وفي هذا الإجتماع والتفاعل ما يولّد أفكاراً جديدة، فمنذ قديم الزمن والفكرة الواحدة يتناولها بالبحث أشخاص عديدون، ولا تلبث أن تظهر على أيديهم باشكال مختلفة، وللفيلسوف الحق في أن يأخذ عن آخر بعض آرائه ويطورها، فنحن نعرف إن سبينوزا تأثر كثيراً بديكارت وأخذ عنه، لكنه في النهاية أسس لنفسه منهجاً فلسفياً خاصاً به، وإن هيدغر تأثر كثيراً باستاذه ادموند هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية، لكنه في النهاية وضع لنفسه منهجاً جديداً في الفلسفة الوجودية ، لقد بحثت الفلسفة العربية لدى أفلاطون وأرسطو عن وسائل لتطوير حججها الفلسفية، وقد كان الفلاسفة العرب من الكندي ومروراً بالفارابي وابن طفيل وانتهاءً بابن رشد تحرّكهم غاية أساسية وهي جعل حقائق الفلسفة متماسكة، لقد نشأت الفلسفة العربية – الإسلامية خلال القرن الثامن الميلادي وامتدت حتى القرن الثاني عشر، ثم عادت للنهوض في القرن الرابع عشر على يد ابن خلدون، وقد انجزت خلال تاريخها هذا عملية ضخمة تمثلت أولاً في الحفاظ على التراث الفكري العالمي " البابلي – الهندي – اليوناني – المصري القديم " والسعي الى تقديمه الى الشعوب الأخرى كاملاً، أما البعد الثاني والمهم هو تطوير هذا التراث تطويراً خلاقاً، أي تجاوزه من خلال طرح أفكار ورؤى جديدة تتلاءم مع العصر الذي ظهر فيه الفلاسفة العرب، والأهم إن تأثير بعض هؤلاء الفلاسفة وخصوصاً ابن سينا وابن رشد وابن طفيل والفارابي في حقل الفكر الفلسفي العالمي، تجاوز النطاق المحلي ليمتد تأثيره على عصر التنوير والنهضة في أوروبا.

يكتب فرانتز روزنتال في كتابه مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي إن:" العلم هو أحد المفاهيم التي سادت الإسلام وأعطت للحضارة الاسلامية صورتها المميزة وتركيبها الخاص. في الواقع لايوجد مفهوم آخر على نفس درجة مفهوم العلم الذي كان فعالاً كعنصر حاسم للحضارة الإسلامية في جميع نواحيها. وهذا ينطبق أيضاً على المصطلحات الأكثر شيوعاً في الحياة الدينية الأسلامية مثل التوحيد والدين وغيرها. لايوجد فرع في الحياة الفكرية للمسلم وحياته الدينية والسياسية اليومية يفلت من مسلك تجاه المعرفة بوصفها شيئاً له قيمة سامية بالنسبة للمسلم ".

ومع أن وفاة ابن رشد سنة 1198 تمثل للأسف خاتمة النشاط الفلسفي عند العرب، إلا أن تأثير هذه الفلسفة ظل مستمراً وخصوصاً في اسبانيا وبعض البلدان الأوروبية، ولعل أعظم شهادة يقدمها لنا فيلسوف غربي عن أثر الفلسفة العربية في نهضة الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة، هي شهادة الفيلسوف الانكليزي روجر بيكون التي يقول فيها:" وقد طمست فلسفة أرسطوطاليس وانقطع خبرها في الغالب أما لضياع مضامينها أو ندرتها، أو لصعوبتها أو للغيرة منها، أو من جراء الحروب في الشرق، حتى عهد الإسلام، حين كشف ابن سينا وابن رشد وسواهما عن فلسفة أرسطو تلك وجلوها جلاءً تاماً في شروحهم، فقد ألف ابن سينا أمام مقلدي أرسطو وشراحه والمكمل لفلسفته، ثلاثة كتب فلسفية، كما يقول في مقدمة كتاب الشفاء.. وجاء بعده ابن رشد، وهو أرسخ الناس قدماً في الحكمة، فنقّح أقوال الأوائل وأضاف إليها الكثير ".

عندما ظهرت أفكار أرسطو من جديد في الغرب الأوروبي في القرن الثالث عشر الميلادي، كان ذلك عن طريق ابن رشد، وقد أخذ المفكرون الأوروبيون آنذاك ينظرون الى أرسطو بشيء من الريبة، ظناً منهم أن أفكاره لاتنسجم مع العقيدة المسيحية، ومن ثم مع الفلسفة المسيحية بمعناها الأشمل، ولعل في هذا ما يفسر العداء الذي قوبلت به أفكار أرسطو في أوروبا في القرن الثالث عشر على أنه مفكر وثني. في موسوعته تاريخ الفلسفة يكتب فردريك كوبلستون:" لابد أن نذكر في هذا السياق إن المفكر الذي قدم شروحاَ صحيحة للفكر الأرسطي هو الفيلسوف المسلم ابن رشد الذي استفاد منه كثيراً القديس توما الاكويني بوجه خاص في طرح قضايا اللاهوت بمنهج من الديالكتيك الأرسطي ".

يضع الشاعر الايطالي دانتي الليجيري ابن رشد وابن سينا في المطهر، ويخبرنا أدم ميتز في كتابه عصر النهضة في الإسلام:" إن دانتي كان مديناً بالشيء الكثير لأفكار الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وأبو العلاء المعري في كتاباته، ومن ذلك تأثره بنظرية النورانية الإلهية، ونظرية التجلي الالهي، لقد كان دانتي مديناً بالشيء الكثير للفكر الإسلامي ولابن رشد بوجه خاص، وهذا ما جعله يضع الفلاسفة المسلمين في رتب أخرى عالية، وأن يضع واحداً من أتباع ابن رشد وهو " سيجر الرشدي " في ملكوت السماء نفسها ".

اذن لم يكن موقف الفيلسوف العربي ازاء فلسفة أفلاطون وأرسطو موقف المقلد الذي يأخذ ما يصل إليه دون تفحص ودراسة وإضافة، بل كان موقفه إزاءها موقف الناقد الذي يختار ما يلائمه ويحتاج اليه، ولهذا يذهب العديد من دارسي الفلسفة العربية الى القول إن تفضيل الفلاسفة العرب لأعمال أرسطو على أعمال افلاطون، ومنحها النصيب الأكبر من الترجمة والشرح والدراسة، لأنهم وجدوا في كتب أرسطو ما يوافق ميولهم الفكرية، فأخذوا بها وحاولوا أن يعملوا على التوفيق بينها وبين العقيدة الاسلامية، وأخذوا يوضحون ما غمض من مسائل الفلسفة اليونانية، حتى بلغ الإنتاج الفلسفي العربي بفضل الكندي والفارابي وابن رشد وابن سينا درجة جعلت "أميل برهيه" يكتب في موسوعته الفلسفية:" تجلت إسهامات الفلاسفة العرب الواضحة في علم الفلسفة وتطويرها في تصحيح ما فيها من بعض الأخطاء، والربط بين ما جاء في أطرافها من معارف متناثرة وشذرات متباعدة وإضافة شروح وافية لها ".

ولعل من المؤسف والمثير للأسى أن يصاب الكثير من هؤلاء الفلاسفة بنكبات كثيرة أبرزها اتهامهم بالكفر والزندقة، وإحراق كتبهم، وسجنهم أو قتلهم حتى قال أحد الشعراء في موت ابن سينا:

رأيت ابن سينا يعادي الرجال... وبالحبس مات أخس الممات

فلم يشفَ ما ناله بالشفا  .... ولم ينجِ من موته بالنجاة

ونجد ابن جبير يكتب عن محنة ابن رشد:

نفذ القضاء بأخذ كل محوه.... متفلسف في دينه متزندق

بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة.. إن البلاء موكل بالمنطق

ولقد غالى البعض في اتهام الفلسفة بأنها نوع من الكلام الفارغ والزندقة، وهذا والي قرطبة أبو يوسف يعقوب الموحدي، الذي اتخذ لنفسه لقب المنصور ينشر منشوراً كتبه وزيره ابو عبد الله بن عياش لتحريم الفلسفة وإعدام كتبها وفيه يقول:" قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بتفوق عليهم في الإفهام، حيث لاداعي يدعو إلى الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفاً ما لها من خلاق، مسودة المعاني والاوراف، بعدها عن الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً، ويسيرون فيها شواكل وطرقاً، ذلك بان الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، إلا ما ساء مايزرون ".

وهكذا جرى استدعاء الفيلسوف ابن رشد إلى مجلس المنصور، وأُهين ولُعن أمام الحاضرين واتُهم بالكفر والزندقة، وأمر الحاكم بإخراجه في أسوأ حال، وإبعاده وإبعاد من يتكلّم بشيء من العلوم المتعلقة بالفلسفة، وأمر أن يطلب من الناس ترك هذه العلوم جميعا، وإحراق كتب الفلسفة كلها ما عدا الطب والحساب وعلوم الفلك التي تؤدي فقط إلى معرفة أوقات الليل والنهار واتجاه القبلة في الصلاة. ويُكثر المنشور الذي أمر الوالي بتوزيعه من التحريض على ابن رشد وجماعته.

وليس بعيدا عن ابن رشد ما حصل لمترجم كتب اليونان" بشر بن متي" حيث يخبرنا أبي حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" كيف تم التنكيل بالفيلسوف، في مجلس الوزير ابن الفرات، حين تعرض له أبو سعيد السيرافي، محتجاً أن العرب ليست بحاجة إلى منطق، لأن إجراء لغتها في مجراها الصحيح حرفاً وكلمة وجملة، هو المنطق بذاته. وبدأ يطرح الغاز نحوية على أبي بشر لا علاقة لها بموضوع النقاش. الشيء المثير في هذه القضية أن الوزير ابن الفرات اعتبر تصدي السيرافي للمنطق وتسفيه أفكار بشر بن متى نوعاً من "الانتصار للدّين "!

وبعد نكبة ابن رشد، نُكبت الحضارة العربية حين ضُرب طوق محكم حول الفلسفة ظلّ متواصلاً طيلة قرون، تماماً كما ضربت الأطواق على خير ما أنجزته العقول في سياق الحضارة العربية، فتراكم التراب على "مقدمة بن خلدون"، ولم يتابع أحد المنجزات التي قدمها الفلاسفة العرب في العلوم التجريبية، الطب والتشريح، وعلم الحساب والجبر والفلك.

لقد اصبحت الفلسفة مثار الشك والريبة عند المتطرفين، ورغم ان الفلاسفة العرب ايقنوا منذ البداية ان غاية الدين تتشابه مع غاية الفلسفة، من حيث ان كليهما يسعى الى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق وعمل الخير، وقد حاول الفلاسفة العرب التوفيق بين الدين والفلسفة في اسلوب ليس فيه عنف ولا نزوع الى التجريح..في المقابل كان موقف المعادين للفلسفة متشدداً يسعى الى اتهام كل من اشتغل بالفلسفة وعلومها بالزندقة، وقد بالغ بعض المتطرفين في هذا المجال حيث كانوا ينفرون من كل علم يتصل بالفلسقة او ينسب اليها، ويروي ابن الاثير في كتابه " الكامل في التاريخ " ان نساخي الكتب في بغداد عام 900 ميلادي، طلب منهم ان يقسموا صادقبن بأن لا ينسخوا كتاباً في الفلسفة.

ولعل اعجب الأراء التي طرحت بشان الفلسفة العربية هي في الخلاف على تسميتها هل هي فلسفة عربية ام فلسفة اسلامية، فالبعض يقول انها فلسفة عربية لان رجالها كانوا يكتبون مؤلفاتهم بالعربية، ومنهم من يقول انها فلسفة اسلامية لان العديد من فلاسفتها من اصول غير عربية.

يكتب الدكتور جميل صليبا في كتابه بحث في الفلسفة الإلهية عند ابن سينا: " ان الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة اسلامية، برغم كل ما نفذ اليه من العناصر الاجنبية، ظل اثرا من اثار العبقرية العربية. اما ان اكثر الفلاسفة من اصل غير عربي فلا نكران له، لكن الذي لانجد لم مستساغا هو القول بان الفلسفة التي يسميها العامة فلسفة اسلامية ليست تستند إلى الجنس العربي. نحن نتكلم عن فلسفة عربية، كما نتكلم عن دين عربي ".

لقد استطاعت الفلسفة العربية ان تؤثر فيما تلاها من حلقات، اسلمت اليها التراث القديم بعد ان هذبته وادخلت عليه ما ادخلت، وولم يبق اليوم شك أن فلاسفة العصور الوسطى في اوربا قد افادوا من الفلاسفة العرب واخذوا عنهم، مثلما تمعن رواد النهضة الاوربية بمفاهيم هذه الفلسفة، لنجد ان الحب الفلسفي الذي قال عنه سبينوزا يشبه كل الشبه نظرية السعادة عند الفارابي، وبرهان الرجل المعلق في الفضاء يقترب كل القرب من " الكوجيتو " الديكارتي، ونظرية النبوة التي قال عنها الغزالي كانت الاساس الذي بنى عليه القديس توما الاكويني مفاهيمه الفلسفية.

والآن ربما السؤال الذي يجب ان يطرح هو كيف لنا ان نتفلسف ونحن شعوب تفقد ابسط حقوقها، وتعيش في واقع عربي صدئ ؟، كيف للانسان العربي ان يناقش موضوعات مثل الهوية وهو مغترب في بلاده ؟، ان لم يفرض عليه النظام العربي ان يعيش في المنفى، كيف للمواطن العربي ان يناقش موضوعة حقوق الانسان، وهو مستلب الحرية ؟، كيف لنا ان نناقش موضوعة الحرية، والانظمة السياسية تمارس الاستبداد، كيف يمكن ان يظهر في بلداننا فيلسوف مثل كانط يطرح سؤال التنوير، ونحن ضحايا رعب المتطرفين، كيف يمكن لبلدان لاتزال تعيش عصر السقيفة ان تسمح للمواطن بان ينتج فلسفة، والفلسفة لا تنشا إلا في الامم التي تعيش من اجل المستقبل.

أن الفلسفة مهمتها ايقاظ الضمائر وتحرر العقول، لكنها بالمقابل ليست بناءً يرتكز في الفراغ، وكما قال فؤاد زكريا ان الفلسفة: " لا يمكن ان تُشيد في الهواء "، فهي تحتاج الى واقع صلب تستند اليه، ولا يمكن ان تتطور إلا اذا تطور الواقع الذي تعبر عنه، وهي لا يمكن ان تصبح قوة فاعلة ما لم تخوض معركتها الحاسمة من اجل اتاحة الفرص للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية.

في مقال بعنوان " فلسفتنا وكيف تظهر " – نشر في مجلة الفكر المعاصر عام 1966 – يكتب فؤاد زكريا أن:" من المنطق قبل ان نقول نريد فلسفة عربية " ان نقول نريد فلسفة فحسب، اي ان المطلب العام ياتي قبل المطلب الخاص.. بمعنى ان علينا ارساء دعائم الفلسفة في عمومها، حتى نطالب بفلسفة خاصة بنا ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم