قضايا

الإعتقادية المذهبية هدّمت الحضارات وأسقطت الإنسان من مثاليته السّامية

الشعوب التي تمتلك نخبة مثقفة وتعيش صراعات إيديولوجية وحروب نووية تتسبب في دمار البشرية فماذا بقي لها من حضارة؟ وهي الآن وفي هذه الفترة بالذات تبحث عن صيغة لوضع منهج تدرسه على اساس تفاعل الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي فالحديث عن الحضارات لاسيما الحضارة الغربية ومقارنتها بالحضارة العربية الإسلامية تجعل القارئ أو الباحث يقف على الميزة الفاصلة بين الحضارة المتطورة ( العقل اليوناني) والحضارة التي في تدهور بفعل الحروب الأهلية (العقل العربي) هي انها متمحورة حول السلوك والأخلاق، فإن كانت الثقافة سلوك فالحضارة تبنى على أسس ثقافية، لقد حدث جدل حول مشكلة الحضارة بين المفكرين والفلاسفة، تمخضت عنها نظريات متعددة تحدد مفهوم الحضارة وهي النظريات التي وضعها مفكرون كمالك بن نبي وأرنولد توينبي ومحمد إقبال وغيرهم عالجوا فيها مشكلة الحضارة، إلا أن هناك مفكرون لهم قاسم مشترك مع فكر مالك بن نبي، إنه المفكر السوري ندره اليازجي الذي أهمله أبناء قومه في سوريا ولم يولوا لفكره وفلسفته اهتماما، وهو الذي خص في دراسته وأبحاثه الحديث عن حضارة البؤس

شخصيتان عرفتا بتوجهاتهما الفكرية نحو البناء الحضاري، انتقد كل منهما الواقع الإستعماري وقالا أن الشعوب تراجعت في قيمها ومعاييرها، لأنها تعيش في حضارة البؤس، فهما يلتقيان في نقطة رئيسية وهي أنه لابد من تغيير الإنسان وإعادة نوجيهه الوجهة الصحيحة من خلال دراسة الأوضاع الإجتماعية السائدة، ومشاهدة الأخطاء الناتجة للوقوف على جوهر الإنسان وإعطاء صفة لوجوده الحضاري، إنه المفكر الجزائري مالك بن نبي والمفكر السوري ندره اليازجي، وكما نرى فإن الأول يرى أن تأخر الإنسان عن الركب الحضاري يعود إلى أن له القابلية للإستعمار، وهو غير قادر حتى على تغيير نفسه وتحرير عقله من عقدة النقص وهو ينظر إلى الآخر المتفوق عليه، وهذا التفوق جعله يعاني من فراغ ثقافي حضاري، فكان عاجزا عن تحقيق وجوده الحضاري، أما الثاني فقد تحدث عن حضارة البؤس ويرى أن الإنسان هو سببها لأن المادة تحاصره فوقع في صراع بينه وبين أناه مشخصا واقع الإنسان في زمن فقد فيه روحه ووجوده، وقد أكد ندره اليازجي في تحاليله أن الحضارة اليوم موبوءة لأنها حضارة ناقمة وجامدة ومتذمرة اختار فيها الإنسان العنف كسلاح لتحقيق الذات وللإنتقام، وفجأة وجد نفسه وسط الضباب ففقد الطريق وظل معزولا يعيش على هامش التاريخ.

بطاقة تعريف بالمفكرين

ندرة اليازجي

 هو باحث وفيلسوف سوري ولد في بلدة مرمريتا بمحافظة حمص السورية عام 1934. حصل على إجازة في الاقتصاد والسياسة، تتلمذ علي يده الباحث ديمتري أفييرينوس والكاتب اللاعنفي أكرم أنطاكي. وهو يعد الأب الروحي لمجلة ودار معابر السورية، اتركز اهتمامه على دراسة المؤلفات التي تبحث في القضايا السياسية والمؤلفات التي وضعها باحثون اقتصاديون إنسانيون جعلوا من الاقتصاد علما يؤدي إلى ازدهار المجتمع الإنساني ومع ذلك لم يجد ضالته المنشودة من تلك الدراسة، لأنه كان يهدف إلى تلقيح علم الاقتصاد والسياسة بالقيم الأخلاقية التي ترفع الواقع إلى مستوى المثال، أي كما يجب أن يكون، قادته دراسته للفلسفة السياسية إلى دراسة الفلسفة الأخلاقية من خلال المدارس الفلسفية المتنوعة مما مكنه من التوغل في مضامين علم النفس عامة وعلم النفس التكاملي وعلم نفس الأعماق، حيث تحول اهتمامه إلى دراسة العلوم الإنسانية متجها في ذلك إلى دراسة الأديان ومبادئ الحكمة المنتشرة في أقطار العالم، الأمر الذي ساعده على الاستزادة من معرفته بالثقافات والحضارات المتنوعة ومحاولة التوفيق بينها لكي تتآلف في كيانه على نحو تكامل أو توحيد. وفي الوقت ذاته وجه اهتمامه لدراسة الأساطير المتعددة ليكتشف القرابة القائمة بينها في هذا النطاق المعرفي.

مالك بن نبي

يعد مالك بن نبي من أبرز أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين، هو من مواليد ولد 1905 م بمدينة قسنطينة واصل دراسته في المرحلة التكميلية للحصول على رتبة كاتب عدل، كانت أول شخصية يلتقي بها من أعلام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ محمد بن العابد، اللذين اكتسب منهما العلم الشرعي، ونمَّى ثقافته الإسلامية، وفي هذه الفترة قرأ الكثير من الكتب، من أهمها كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، وكتاب (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، وارتبط بصداقة متميزة مع المرحوم (حمودة بن ساعي)، إضافةً إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي، ولم تلهه القراءة والكتابة عن ترصد حركة الاستعمار وقسوته حيث وجه مسار فكره إلى البحث عن أسباب ضعف وتخلف العالم الإسلامي، حيث حمل هموم وتيه الحضارة الإنسانية وهموم التخلف الحضاري، وظل يناضل بفكره وقلمه إلى أن وافته الوفاة في 31 أكتوبر 1973 تاركا رصيدا من الكتب الفكرية منها كتاب الظاهرة القرآنية، مشكلات الحضارة، شروط النهضة، وجهة العالم الإسلامي ومشكلة ألأفكار في العالم الإسلامية فكرة الإفريقية الآسيوية وغيرها قبل وفاته كتب مالك بن نبي مذكراته تحت عنوان: شاهد القرن العشرين

 لقد اتفق الإثنان بفكرهما على أن معالم تاسيس الحضارة مرهون بعنصر الإنسان والثقافة، وبدونهما لا يمكن بناء حضارة، والثقافة هنا لا تتوقف عند الشعر والأدب بل بالعلوم الأخرى كالهندسة والرياضيات وعلم الفلك والإقتصاد يضاف إليها الدين والمنطق (الفلسفة) وغيرها من المعارف التي تكرس الهوية، ولهذا يلاحظ أن التجربة الغربية كانت أكثر تفوقا من التجربة العربية عن طريق الثقافة، التي هي ليست ملكا لأحد وكذلك الحضارة لأنها حضارة إنسانية قبل كل شيئ والإنسان فيها عنصر أساسيٌّ وبالتالي لا يمكن لأيِّ أمّة من الأمم أن تحتكرها، لأنها في تغير دائم، فما نقرأه عن الحضارة البابلية والحضارة اليونانية والحضارة الهندية والحضارة الصينية والحضارة الإسلامية ( العربية والفارسية) لا نعثر عليها الآن، ما بقي منها سوى آثار تركها صناع هذه الحضارة من الأباطرة والملوك ورجال الدين والعلماء من مهندسين ورياضيين وأطباء وفلاسفة، نقلها مؤرخون ومستشرقون، وهذا بفعل التغيرات التي تغيرت على هذه المجتمعات التي عاشت الصراعات والثورات والحروب والحروب الأهلية، فهي عادة ما تتغير بتغير الأحداث والمعطيات، وبالتالي لا يمكن لأيّ أمة الآن أن تقف ندا للند أمام حضارات سبقتها بقرون طويلة، وهذا ما سماه اليازجي بحضارة البؤس.

فقد دفع مالك بن نبي وندره اليازجي بجهدهما الفكري إلى تحديد خصوصية المجتمعات مع تعزيز دور النخبة في وسط المفكرين والمثقفين لدرجة أن البعض يكاد أن يقتنع أنهما شقيقان ( توأم) وهو وصف معنوي روحي لمدى وجود التشابه بينهما من الناحيتين البيولوجية والفكرية رغم انهما لا ينتميان إلى إقليم واحد لكنهما يتقاسمان هموم الأمّة ويطرحان مشكلة الإنسان للتحليل والتشخيص، والمتأمل في كتابات كل منهما يقف على أنهما يتحليان بثقافة منهجية مكنتهما من أن يضع كل واحد يده على أهم قضايا العالم المتخلف، وقد حاول الإثنان أن يرفعا الإنسان إلى المثالية السامية وتجاوزها حدود الواقع السائد الذي جعل الإنسان يواجه صعوبات إثر دخوله إلى حلبة الصراع، رغم اختلاف ظروف كل منهما عن الآخر، الفرق بين مالك بن نبي واليازجي هو أن مالك بن نبي ركز اهتمامه على بناء الإنسان الحضاري، أما اليازجي فقد رسم صورة للحضارة البائسة وقال أن الإنسان هو المتسبب في انحدارها بعدما كان هو صانعها، ونجده يقول أن الحضارة البائسة جعلت المادة (المال) مقياسا لنمو الإنسان وتقدمه وقد وضع الإنسان المال تاجا على رأسه كقيمة مطلقة، إنها سخافة المرء التي نحتت تمثالا لتعبده، فمسخ نفسه حتى بات مظهرا وهكذا أصبحت الحضارة مظهرا، يريد اليازجي القول أن الإنسان الضعيف الذي لا يملك المفاهيم الإجتماعية أو العناصر التي تمكنه من بناء الحضارة لا يمكنه أن يصنع حضارةً.

القابلية للإستعمار صورة لـ: الإنهزامية

و يلاحظ أن ماك بن نبي واليازجي وكغيرهما من الفلاسفة والمفكرين اعتمدا على مشكلة الإنسان كيف ينظر إلى نفسه وإلى غيره باعتباره كائنا اجتماعيا، لكن فمالك بن نبي وضع العناصر الثلاثة لبناء الإنسان الحضاري وهي (الإنسان والزمن والتراب) إلا أن ندرة اليازدي أهمل عنصري (الزمن والمكان) الذي تحدث عنهما مالك بني في تعريفه للحضارة، حسب اليازجي فإن الإنسان الذي يمتلك المفاهيم الإجتماعية يعتبر الشخص القوي الذي يُحْترَمُ ويُطاعُ، أما الذي له قابلية للإستعمار كما يقول مالك بن نبي يظل ضعيفا وتبعيا ويعيش ذليلا منهك القوى لأنه مستعمَرٌ فكرا وثقافة واقتصادا، وقد تحدث مالك بن نبي عن نجاح التجربة اليابانية كمثال، حيث جعلت من المواطن الياباني صانعا لجميع الوقائع الإجتماعية أي صانعا لنفسه بوصفه كائنا اجتماعيا، وإن كان مالك بن نبي قد تحدث عن القابلية للإستعمار الذي جعل الإنسان مجرد شيئ من جملة أشيائه مثلما جاء في الصفحة 33 من كتابه مشكلات الحضارة، فاليازجي عبّر عنها بمفهوم آخر حيث سمّاها "الإنهزامية"، إذ يقول: إن شخصا لا يعرف شيئا عن حقيقة الخدمة والتضحية هو شخص انهزامي، وإن شخصا لا يفهم واجبه في الحياة شخص انهزامي عكس الشخص الذي يناضل لأجل الحقيقة يقارع الظلم ويقف أمام الصعوبات والعقبات والمُعَوِّقَاتِ ذلك هو الذي يستحق أن يحمل اسم إنسان.

 إلى هنا يمكن القول أن نظرة مالك بن نبي هي نفس نظرة اليازجي، ثم أن الإثنان أضافا إلى صناعة الثقافة عنصر السياسة أو كما يسميها مالك بن نبي بـ: البوليتيك، وقد اعتبرها اليازجي فن اجتماعي يهدف إلى إسعاد الآخرين، أما الواقع فهو يقدم عكس هذه الحقيقة، يقدم اليازجي مثالا بالذين ينساقون ويُقَادُون كالعُمْيَانِ ويستمعون إلى أقوال مشاهير السياسيين وقادة البلاد ومناوراتهم وأحاييلهم في أيّة أمّة فينزلقون ويُلَوِّكُونَ الكلمات يمضغونها ويعيدونها مرارا وتكرارا حتى تُغْرَسُ في ظلمات العقل البشري المنفعل ثم يعودون إلى منازلهم وكأنهم سُكَارَى لأنهم مخدرون بالكلام المزيف، حتى الصحف التي تمدح هذا دون ذاك وتصور المشكلات السطحية تصوغها مبدأ أو عقيدة، تجد نفسك تقف أمام مهزلة بشرية تسمى فن الدعاية وحسن التصوير وتخذير العقول، هؤلاء أسسوا مؤسسة سمّاها اليازجي مؤسسة الكذب وهؤلاء -حسبه- هم الإنهزاميون وتلك هي السياسات التي فتكت بالحضارة وجعلتها حضارة مريضة بائسة خضع فيها العلم للسياسة، هذا العلم الذي وجب أن يكون وسيلة للإنطلاق من عبودية الجهل ووسيلة لتحرير الإنسان من كل قيد.

فالإنسان كما يقول اليازجي قد أصبح عبدا لشر كبير هو الكذب (أنظر الأعمال الكاملة) وقد اصبح الكذب مؤسسة اجتماعية يكذب البعض ويحدثونك بأشياء كاذبة يحرفون اقوالهم ويتظاهرون بالنبل والإستقامة، وقد يتراءون لك بأنبل صورة وأعظم مثال ويتظاهرون بالخير والصلاح لكي ينالون مآربهم ويحققون مطلبهم، هذه هي الحضارة التي يتسلط عليها مفهوم واحد هو الكذل، فالكذب عامل من عوامل تقويض الحضارة، أراد اليازجي القول أن الحضارة لا ترتبط بالصناعة كما يقول مالك بن نبي وإنما بالحكم، والحضارة تقوم على الرئيس أوالحاكم الذي يمتلك شروط "الكاريزما" وشروط "القيادة" ولا تقوم على السياسة التي تؤدي إلى الإنهزامية أي تجعل الشعوب لهم قابلية للإستعمار، والإستعمار لا يعني أن يكون الفرد خاضعا لسلطة استعمارية من الخارج أي تحت نير الإحتلال، بل يكون أيضا خاضعا لدكتاتورية النظام وتابعا له، يكون خاضعا لرب العمل، وللمسؤول الذي يعمل تحت إشرافه.

الإعتقادية المذهبية هادمة للحضارات

هل يصنع العنف حضارةً؟، سؤال طرجه اليازجي، مقدما في ذلك مثالا عن ظاهرة العنف والتطرف في البلاد العربية والإسلامية وهما عنصران مهدمان للحضارة، حيث تحدث عن حضارة اللاعنف، فهو يرى أن النظام الذي يسود الكون ثابت ولا يتبدل ويُعَبِّرُ عن جوهر وحقيقة ولذا فاللاعنف هو المبدأ الروحي والعقلي الذي يسود في الكون والحياة وهو مبدأ تحقيق طاقات الإنسان الفكرية، الإبداعية وطاقاته على العطاء والخدمة والتضحية، ورفعه إلى الأعلى، وقد خاطب اليازجي الإنسان بقوله :

لا تستطيع أن تعلم وتتعلم بواسطة العنف

لا تستطيع أن تكون مثاليا يقتدى به بواسطة العنف

لا تستطيع أن تكون مرشدا بواسطة العنف

لا تستطيع أن تنادي بالمحبة والعنف معًا

لا تستطيع أن تصلح بواسطة بالعنف

لا تستطيع أن تبحث عن الحقيقة بالعنف

لا تستطيع أن تسامح وتغفر بواسطة العنف

التسامح والغفران هو لا عنف لأنه يخرج من القلب الصادق

والعقائدية كما يراها هو (أي اليازجي) تتكون من تكتل الجماعات، تقف أمام بعضها وتصارع بعضها وهكذا تؤدي العقادية إلى زيادة العنف ومن ثم الصراع، والحضارة العربية تحمل في أحشائها مرضا يسمى العقائدية وهذه الصفة الإجتماعية تحاول ان تقضي على غيرها من الصفات وبخاصة الحرية لأنها مرتبطة بالوعي، ولنقرأ معا ما يقول اليازجي: إن حضارتنا مُحَمَّلَةٌ بالعنف فالسُّجون رمز للعنف لأنها تخلق شعورا بضياع العدالة والحق والمحاكم رمز تختلط فيه العدالة بالظلم، الحقيقة بالباطل، الإنسان الذي يعيش في عالم يحمل العنف في أحشائه يسوده الخوف وتتعطل طاقاته وقد تشل فينتهي به الأمر إلى العيش على هامش الحياة والتاريخ، هكذا طغى العنف على الحرية فجمدها في مهدها ولهذه الأسباب فالحضارة اليوم مهددة بالإنفجار، وقد قيل في القديم: "من يأخذ بالسيف بالسّيف يؤخذ".

 وبعد السياسة يرى اليازجي ان الإعتقادية المذهبية هادمة للحضارات لأنها تقضي على حرية الفكر، يبسط اليازجي فكرته بالقول، أن العلماء رغم أنهم يعرفون لكنهم يجهلون كثيرا عن الحياة، لكنهم جميعا يحاولون أن يكملوا بعضهم بعضا لأنهم يعملون في عالم الحقيقة وليس في عالم تسوده الأنانية والمعتقدية المذهبية، هذه الأخيرة تقود إلى العنف وبالتالي إلى الصراع الدائم وهذا الصراع ينطلق من الإنسان الجاهل الغافل الذي لا يعرف ماذا يريد وماذا يختار فضاع في عالم اصطناعي خلقه ىمن مفاهيمه الخاصة، فالحضارة عنده لا تبنى على القيم الزائفة كالمال والجاه والمرتبة والمركز، وهذه الأمور الواهية يفتخر بها الإنسان وقد تدفعه إلى ارتكاب الجريمة من أجل تحقيقها وهكذا تصبح الحضارة حضارة بؤس، ويقدم مثالا على ذلك بالقول: إن المحرض على القتل مسؤول كالقاتل والمحرض على الكذب والنفاق مسؤول، والمحرض اكثر إجراما من الذي يرتكب الموبيقات، يلاحظ أن اليازجي في أفكاره وابحاثه متأثر بغاندي وجعله مرجعيته، حيث نجد في كامل رسائله يتحدث عن العنف واللاعنف (السلام) وهذا يعني أن اليازجي يربط الحضارة ورقيها واستكمراريتها بشرط " السلام" في حين يربطها مالك بن نبي بالثقافة باعتبارها جزء من تراث الإنسان لكن دون تحديد مضمونها، قد يعيد هذا التفاعل الحديث عن فكرة التاصيل والتحديث للدين وللإيديولوجيا وإعادة النظر في المطالب التي رفعها البعض بضرورة التخلي عن التراث وتطبيق النموذج الغربي الأوروبي بالكامل ثقافة وسياسة واقتصادا واجتماعا.

الحضارة كمفهوم كوني تتجاوز الخصوصيات الدينية

هذه الرؤى تجعل الباحثين وبخاصة العلماء والفقهاء يعيدون النظر في الخطاب الديني، والتخلي عن الخطاب المتطرف باعتباره عامل من عوامل هدم الحضارة، فنحن كما يقول محللون امام خطابين: خطاب يميني وخطاب يساري، هذا الأخير لا يزال محتفظا بجموده العقائدي الذي ساد في ألربعينيات والخمسينيات من حيث الرفض المطلق للآخر (الحداثي)، يقول المفكر السيد ياسين وهو عالم اجتماع وهو من رموز حوار الحضارات عمل مستشار بمركز الدراسات السياسية وافستراتيجية بالأهرام ارتكزت اهتماماته على العلاقة بالآخر، إذ يقول أن الحداثة مشروع حضاري يقوم على عدة اسس يتناولها عالم الإجتماع الإنجليزي جيذنز في كتاب:the consequenses of modernity يقول إن أسس الحداثة تقوم على العقلانية الإعتماد على العلم والتكنولوجيا لحل المشكلات والواقعية في إجراء البحوث وقد رفعت الحداثة الغربية شعار أن العقل هو المعيار في الحكم على الأشياء ولذا وقع الصدام بين الحضارة الغربية مع التراث العربي الإسلامي، لأن الحداثة الغربية نفت النص الديني ويدعو السيد ياسين المفكرين العرب إلى وجوب التعمق في موضوع الحداثة حتى نعرف كيف دار الحوار حولها في بداية النهضة العربية الأولى وعصر النهضة العربية الثانية عندما تحدث عن النظام الجمهوري وكيف أصبحت الأنظمة تُوَرَّثُ، حيث فشلت المجتمعات العربية في ان تقيم الحداثة السياسية وفشلت اقتصاديا وثقافيا فلا يوجد لها إجمعا ثقافي على طبيعة الدولة وطبيعة المجتمع.

يلاحظ أن الإعتقادية المذهبية عند اليازجي تقابلها الطوبائيات الإيديولوجية عند ماك بن نبي، فمالك بن نبي أكد أن الحضارة كمفهوم كوني تتجاوز الخصوصيات الدينية، من هذا المنطلق بدأ مالك بن نبي نشازا في الحقل الإسلامي معتبرا المشروع النهضوي له إيقاعه الحضاري البطيئ وزمنه الثقافي، مادفعه إلى تبني خط تحالف ثقافات (الفكرة الأفروآسياوية) لإدارة صراع دولي استراتيجي وليس صراعا دينيا، فمالك بن نبي حسب المحللين يأخذ الدين بمعناه الإنتروبولوجي الواسع أي العلاقة بالمقدس المؤسس وليس بمفهومه السياسي كما ذهبت في ذلك الجماعات الإسلامية، فليس في العقيدة خصوصية في المبدأ بل جميع الحضارات لها إمكانيات نهوض ذاتية منسجمة مع خصوصياتها العقدية والتاريخية، ويقول محللون أن الحلول التي قدمها مالك بن نبي لمشكلات النهوض الإسلامي ليست دينية وإنما تنحصر في الإصلاحات الثقافية والإجتماعية وإعادة بناء شخصية الإنسان المسلم، وهذا متوقف طبعا على الأنظمة في الإستثمار في الإنسان.

 لقد اهتم مالك بن نبي بالإنسان العربي المسلم بصفة عامة والإنسان الجزائري بصفة خاصة عندما تحدث عن القابلية للإستعمار من باب أن الشخصية العربية الإسلامية هي في آن واحد شعور هوية وإيديولوجية وانتماء، شكلت قوة نضالية في فترات المقاومة ضد الإستعمار لكنها ظلت طوبائية، ولذا ظلت الشخصية الإسلامية في مواجهة مع ثورة الذهنيات والتحرر الحضاري كما تواجه حربا أهلية بكل معنى الكلمة مواجهة فكرية وروحية وحضارية في الوقت ذاته، والهدف هو مصالحة الإنسان مع نفسه ومع الآخر والتعامل مع الواقع بعيدا عن التحامل والتشويش والتشويه والتهديد والترهيب والتكفير والذاتية الضيقة التي تشكل قاعدة مرجعية ثابتة مستقرة للأمة، فلا يمكن بناء نهضة عربية على مرجعية أجنبية، أما اليازجي فقد تحدث عن الإنسان كإنسان وباعتباره كائن اجتماعي بغض النظر عن عقيدذته وثقافته وتاريخه وإيديولوجيته.

من خلال قراءة أفكار الرجلين يقف القارئ على أن منهج بن نبي واليازجي يقوم على المقاربة الإجتماعية كونه يشكل محورا أساسيا في المشروع الإصلاحي النهضوي الحضاري، الفارق بينهما فقط هو أن بن نبي ركز على الإنسان المسلم وخص في بحوثه رجل المدينة ورجل الفطرة (البادية) ومحترف الثقافة فمالك بن نبي يرى أن العلاقات بين الناس تعتبر علاقات ثقافية أي انها خاضعة لأصول ثقافة معينة، وهذا يعني أن الثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد، إذن لا يمكن الحديث عن حضارة أمّة من الأمم في حالة انحدارها حتى أصبحت توصف بحضارة البؤس دون التعرض للأرضية الثقافية والإيديولوجية العميقة للشعوب المتحورة حول الدين، لاسيما الذين رفعوا شعار : " الإسلام هو الحل" دون تقديم برنامج مفصل أو 'الماركسية هي الحل' دون تقديم رؤية مخططة ودون مناقشة الهويات بشكل واضح، فأحداث 11 سبتمبر كان هناك حديث عى الفشل العربي الإسلامي وتردد الكلام بأن المجتمعات العربية الإسلامية تقوم بتربية التيارات المتطرفة وتربي الإرهاب لتحقيق مشروع الدولة الإسلامية ولو بالقوة باسم الجهاد وقالت أن الحل هو العودة إلى الخلافة الراشدة وتجاهلت ان الإسلام دين تسامح ودين حضارة وليس دين عنف وتطرف وهذا ما ادى إلى فشل حوار الحضارات الذي يستدعي وجود دعامتين وهما النقد الذاتي ونقد الآخر وتحليل خطاب الآخر، فالقصور إذن كما يقول محللون ليس في النصوص ولكن في السلوكيات.

ما يعاب على الباحثين الأكاديميين والمؤرخين أنهم أهملوا فكر هذان الرجلان وبالأخص اليازجي، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في كتاب أعلام الفكر العربي للدكتور السيد ولد أباه جمع فيه اسماء شخصيات فكرية من تيارات الفكر المعاصر واتجاهاتهم وأبرز أسماء أعلام عربية من تونس، المغرب، لبنان، مصر، الجزائر (مالك بن نبي ومحمد أركون)، الأردن، العراق والبحرين وسوريا،عندما ذكر المفكر السوري برهان غليون وصادق جلال العظم وطيب تيزيني ومطاع صفدي مؤسس مركز الإنماء القومي وتجاهل اسم ندره اليازجي كمفكر وفيلسوف سوري، وكانت له دراسات عميقة ارتكزت كلها على بناء الإنسان الحضاري، وله مؤلفات أهمها رسائل في حضارة البؤس.

***

علجية عيش بتصرف

في المثقف اليوم