قضايا

آلية الإسقاط.. هجوم يستبطن الدفاع

"لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" هذا ما قاله توفيق الحكيم. لكن في مقابل ذلك هناك من يسحقه الألم فيهلكه ويصغر من شأنه حد الضآلة.

حتى يبرئ نفسه من تحمل مسؤولية أفكاره أو أفعاله، يستعمل البعض حيلا دفاعية كأن ينسب عيوبه إلى الآخرين. هذه الآلية اللاشعورية هي بمثابة الحماية للنفس يستعملها الشخص لتحميل نقائصه للآخرين و من ثم لومهم على فشله و تقصيره. ويعبر عن هذه الآلية، التي هي حيلة نفسية، بالإسقاط.

"الإسقاط" - La Projection من المفاهيم المهمة في علم النفس الحديث.

مؤسس علم النفس التحليلي "سيجموند فرويد" يعرفه ليقول أن "الإسقاط هو حيلة لا شعورية، تلجأ إليها الذات «الأنا»، وتتمثل في أن ينسب شخص ما ميوله وأفكاره إلى غيره، كحيلة من حيل الدفاع."

تكون تلك الأفكار التي ينسبها الإنسان إلى الآخر مستمدة من تجاربه الشخصية، لكنه يرفض في ذات الوقت الاعتراف بها لما تسببه له من ألم، وما تثيره لديه من مشاعر الذنب.

نفهم من خلال هذا أن الإسقاط هو إتجاه لكبت المشاعر الخاصة والميول الذاتية. هذا الكبت يمكن من إزاحة العناصر الشعورية والنفسية المؤلمة عن حيز الشعور بتحويلها للغير.

يكون الإسقاط عادةً غير واع ويمكن أن يشوه الواقع أو يغيره أو يؤثر فيه كما يؤدي أيضا إلى اتهامات كاذبة للغير تكون عارية عن الصحة.

يوفر الإسقاط مستوى من الحماية ضد المشاعر التي لا يرغب الشخص في التعامل معها. هذا ما يجعله مرتاحا من حمل ثقل المسؤولية عن أفعاله ويمكنه من إزاحة الشعور بتأنيب الضمير.

كثيرا ما نكون عرضة للإساءة المجانية أو الظلم لكننا نجد أنفسنا، دون وجه حق، نتهم بأننا الفاعلون.. بأننا المسيئون.. بأننا نحن من لم نحسن التعامل مع الآخر.

في هذه الحالة، يمكن أن نصاب بالذهول لأننا وبصورة مباغتة نجد أنفسنا في موقع الجلاد في حين أننا الضحية.

إن فهم آلية الإسقاط بما هي عدم تقبل الانسان لحقيقة ضعفه واعترافه بخطئه يجعلنا نتعاطف مع من يستعمل هذه الآلية. هو بالنهاية ضحية. صحيح أنه ضحية نفسه لكنه في الأصل هو شخص يطمح إلى الهروب من الألم. ألمه نابع من شعوره بأنه أخطأ أو قصر في التفكير أو السلوك.

إن اللجوء إلى اسقاط هذا الفشل أوالخطأ على الاخرين ظلما يُرَدُّ إلى أن الشخص لا يقبل الاعتراف بمشاعره والتعامل مع أخطائه. بدلا من ذلك هو يلجأ إلى كبتها والهروب منها.

فكيف يمكن تلافي هذه الحيلة النفسية التي قد تستعمل بدون وعي منا؟

عوضا عن المداراة يحتاج الواحد منا أن يعترف بخطئه بصوت عال.. إلى أن يحرر نفسه من عبء التخفي وراء الإنكار.

إن مواجهة حقيقة الذات وتقبل خطئها أو تقصيرها هو خير وسيلة للتعاطف معها. أن تتعاطف مع ذاتك هو أن تتقبلها بكل عيوبها. إن بلوغ درجة قبول الذات هو ما يمكنك من أن ترحمها.

أن ترحم ذاتك يعني ان لا تجلدها لأنها قصرت أو أخطأت. عندما تتقبل فكرة أنك فعلا أخطأت، وهو ليس بالطامة الكبرى، يكون منطلقك للإصلاح..للتغيير.

إن الجرح لا تنفع تغطيته وعدم النظر إليه.. مداواة الجروح لا تكون إلا بمعاينتها..بتفقدها..بالسعي إلى معالجتها.

ليس من الهين على الإنسان أن ينظر إلى وجهه في المرآة .. أن يتحدث إلى نفسه. ليس من السهل عليه أيضا أن يظهر أمام القريبين منه بكل عيوبه وأخطائه ونقاط ضعفه.

 ذاك الذي يجد الجرأة في ألا يخجل من الاعتراف.. في أن يكون شجاعا وصادقا في التعبير عن ذاته، هو من يتحمل مسؤولية كل ما يصدر عنه من خطأ أو صواب.

إن بلوغ هذا المستوى من الصراحة في التعامل مع الذات يحسن نظرة الإنسان إلى نفسه. هو بذلك لن يحتاج إلى استبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز شعوره وتحميل غيره وزر عيوبه وتقصيره.

نستحضر هنا قول أرسطو في أن "أفضل وأقصر طريق يكفل لك أن تعيش في هذه الدنيا موفور الكرامة، هو أن يكون ما تبطنه في نفسك كالذي يظهر منك للناس".

الاعتراف بالخطأ ليس انحناءً بل هو شموخ من نوع آخر، ينبع من معين الامتلاء بالنفس. شموخ لا يعرفه الجبان.. سمو لا يدركه إلا الثَبِيتٌ الذي لا يهرب ولا يختبئ ولا يتوارى.

إن الحيل النفسية التي يستعملها البعض والتي منها الإسقاط تعكر صفو العلاقات الإنسانية.

يحدث أن يتسبب الإسقاط في إنهاء علاقات مهمة في حياتنا. علاقات كنا نخالها لن تنتهي أبدا طالما نحن على قيد الحياة.

إن الخلاص من الألم لا يكون إلا بمصارحة النفس والغوص في أعماق الذات بدل البحث عن ضحايا لتحميلهم المسؤولية دون وجه حق.. هؤلاء الضحايا قد يكونون من أقرب الناس.

إذا اعتبرنا أن الذي يستعمل حيلة " الإسقاط" يمارس سلطة على من يسقط عليهم أخطائه فإن على كل من يدعي، خلاف ما يقدمه "صاحب السلطة" من أحكام، أن يثبت بالحجة والبرهان ما يدحضها.

فما هي الآليات التي تمكن من مجابهة المتضلعين في حيلة نفسية كالإسقاط حتى نثبت براءتنا في مشهد مشوه أُلْبِسَ فيه الحق رداء الباطل؟

***

درصاف بندحر - تونس

 

في المثقف اليوم