قضايا

الكتابة على الجدران الإسمنتية.. هل هي سلوك المجانين أم مرآة الواقع؟

ظاهرة الكتابة على الجدران، كما عرّفها بعض الباحثين هي: ” ترك الرسومات أو الأحرف على الجدران أو الأشياء بطريقة غير مرغوب فيها أو بدون إذن صاحب المكان، وترجع أصولها للحضارات العتيقة قدماء المصريون والإغريق والرومان وغيرهم. "

إنّ ممارسة الجرافيتي موجودة منذ قديم الزمان؛ منذ أيام الحضارة البابليّة والكتابة السومريّة، والحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية والعربية.

و مع مرور الزمن، وتعاقب الأجيال، وتواصل الحضارات الإنسانيّة وتلاقحها، تطور الجرافيتي، وصار يستخدم مواد أخرى مثل: بخاخ دهان أو قلم تعليم، لإيصال رسائل سياسية واجتماعية ودعائية. إلى أن أصبح أحد أشكال الفن الحديث المعروض في صالات العرض العالمية.

والسؤال المطروح، بإلحاح، لدى بعض الباحثين الاجتماعيين هو: هل ظاهرة الكتابة على الجدران، سلوك مجانين أم مرآة للواقع ؟

كلاّ، هي كتابات حرة، متمرّدة، وإبداعات بدون قيود أم لون من ألوان الرشد العقلي والوعي النفسي والنضج العاطفي. إنّها فضاءات جداريّة مفتوحة على العام والخاص، صفحات اسمنتية بمختلف الألوان والأشكال واللغات. لا تحدها آفاق، متمرّدة على سلطة الرقيب المستبّد، منطلقة دون قيود، معبّرة عن مكنونات سياسيّة أو ثقافيّة أو إيديولوجيّة أو إثنيّة أو دينيّة أو جنسيّة، كامنة في أعماق الشعور واللاشعور، ناطقة باسم الضمير الفردي والجمعي معا، تمارس، في الغالب، ليلا أو خفية، خوفا من عيون الرقابة.

و أنت تسير في الشوارع والأحياء الشعبيّة، والحارات العتيقة في المدن الجنوبيّة، مثل القاهرة، الجزائر، طرابلس الغرب، بيروت، بيونس ارس، وريو دي جانيرو، كاراكاس، هافانا، دمشق، بغداد، عدن، لاغوس، تونس، طنجة، وتونس وطرابلس الغرب، وكابول والخرطوم، وغيرها من مدن العالم الثالث. تلفت انتباهك كتابات ورسومات كاركاتوريّة على الجدران، أصحابها مجهولون. لكنّها معلومة الانتماء. فهي بمثابة الناطق الرسمي لشريحة معيّنة من المجتمع، تعرضت للاضطهاد النفسي والمادي. وحُرمت من حقوقها الماديّة والمعنويّة. آثرت التمرّد، وعدم السكوت والخوف والاستسلام والرضا بوضعها والخنوع.

إنّهم كتّاب ومبدعون وفنّانون مجهولون. مارسوا حقهم الفطري، في التعبير، بحريّة، وعبّرو عن مكنونات عقولهم، وأحلامهم ومواقفهم، وافصحوا عن عواطفهم دون انتظار، تحت جنح الظلام، وبعيدا عن عيون الرقباء وسيوف المستبدّين والديكتاتوريين.

و ظاهرة الكتابة على الجدران ليست وليدة عصرنا، بل بدأت الكتابة على الجدران منذ فجر التاريخ. فقد كتب الإنسان البدائي ورسم على الحجارة الملساء، والعظام المسطّحة، وعلى الصخور العملاقة، وعلى أوراق البردي، وعلى الجلود. وقد أثبتت الأبحاث الأنثروبولوجيّة والجيولوجيّة ذلك، عند السومريين والفراعنة واليونان وأمازيغ شمال إفريقيا وشعوب أمريكا اللاتينيّة.

و إذا تأملنا مضامين تلك الشعارات والرسومات، الموسومة على الجدران، خاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة، وفي المدن المكتظّة بالطبقات الدنيا، ألفيناها، في معظهما، ذات مضامين سياسيّة عميقة، يطالب أصحابها بالحريّة والديمقراطيّة، وهي شكل من أشكال الثورة على الواقع الاجتماعي المعيش، المزري، واحتجاج صارخ على غياب العدالة الاجتماعيّة، والمساواة، وتحكّم البيروقراطيّة المتوحشة والمحسوبيّة والرشوة في دواليب السلطة التنفيذيّة والقضائيّة.

إنّها كتابات نابعة من أعماق الوعي، حين يستيقظ، ومن عوالم الشعور واللاشعور، حين يبلغ القهر مداه، وتعجز النفس عن الصبر والتحمّل. وغالبا ما مهدت الكتابات على الجدران، لقيام ثورات على المحتل الأجنبي، أو على الحاكم المحلّي المستبد. وسايرت انتفاضات عارمة على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسية والاقتصادية المزرية.

و قد اعتبرها بعض الباحثين الاجتماعيين والدارسين النفسانيين ظاهرة نفسية انفعالية سلبيّة، هدفها لفت نظر الآخرين، وسلوكا لتشويه سمعتهم، أو تخليدا لمكان مزار ما، أو إضرارا بالممتلكات العامة والخاصة، أو دعاية وتعصبا لفريق معيّن من السياسيين أو الرياضيين، أو ترجمة لكيد سياسي ما، أو حقد دينيّ، أو عنصريّة إثنيّة. وهي آراء تبدو لي مسيّسة، ساذجة، ضيّقة الأفق، لا ترى من الظاهرة إلا نصفها المظلم، وتحصر في مربعها السلبي فقط.

و لم تخل انتفاضة شعبيّة، أو ثورة تحريريّة من ظاهرة الكتابة على الجدران تحت سدف ظلام اليل. وقد كتب بضعة أطفال أبرياء في مدينة درعا السوريّة، على جدران مدرسة، شعارات مضمونها يعارض النظام، ويدعو إلى سقوطه وتغييره ورحيله، مثل: (أجاك الدور يا دكتور)، أي جاء جورك يا دكتور، والمقصود الرئيس بشار الأسد. وأيضا (يسقط الرئيس بشار الأسد)."

و كانت تلك الشعارات تمهيدا لانطلاق الثورة السوريّة في 18 آذار، في خضم موجة الربيع العربي.

و لمّا اكتشف أمرهم عاقبهم النظام أشدّ العقوبة – رغم صغر سنّهم (13 سنة) -، دون رحمة أو شفقة، ودون مراعاة لأعمارهم الفتيّة.

يقول الكاتب والصحفي محمد علي في تقرير له في منصة تلفزيون سوريا التابع للمعارضة، بتاريخ 20 / 03 / 2021 م:

و " كان المحققون يسألون بشير " أي ساعة كتبت العبارات على جدار المدرسة ؟ "، فيخبرهم في الساعة 9 ليلاً، وعندما يسألون نايف يخبرهم أنهم كتبوا العبارات في الساعة الواحدة ليلاً، وبسبب عدم تطابق الأقوال تتجدد حفلات التعذيب حتى تتطابق جميع الأقوال. "

و في التحقيق سُئل الأطفال عن مَن قام بالبخ، ومَن الذي كان يراقب، وهل ذهبوا مشياً أم على الدراجات النارية، وما لون الدهان المستعمل، ومن أي دكان اشتروه، ومَن الذي دفع ثمن البخاخ ؟

و ينقل الكاتب والصحفي محمد علي، في لقائه مع بشير أبا زيد " - وهو ثاني الأطفال الذين تم اعتقالهم في درعا - كلاما على لسان بشير أبا زيد، جاء فيه:

" بعد كل الذي ذقته من عذابات في تلك الأيام، فأنا أفضل العيش في أي مكان تحت القصف والتشريد والبرد على أن أعيش في ظل النظام، ولو تريد سؤالي عن السجن فالجواب أنني أفضل الموت على أن أعيش يوماً واحداً في سجون بشار الأسد. "

إنّها تعبّر، بصدق، عن فئة اجتماعيّة مهمّشة؛ مثقفة أو متعلّمة أو شبه أميّة، رفضت السلطة السياسيّة الاستماع إلى همومها اليوميّة، وانشغالاتها، أو عجزت عن تلبيّة مطالبها الماديّة والمعنويّة.

لماذا انتشرت ظاهرة الكتابة والرسم على جدران الإسمنت بقوّة في بلدان الجنوب، دون غيرها؟

لعلّ ما يشفع لهؤلاء الكتّاب والرسّامين ممارسة إبداعاتهم في الهواء الطلق، وعلى صفحات إسمنتية، بعيدا عن الرقابة والقمع، هو غياب حريّة التعبير في مجتمعاتهم، وحرمانهم من التواصل الإعلامي مع شرائح المجتمع، وتضييق الخناق على أفكارهم، وتهميشهم، ومنعهم من استخدام الوسائل الإعلاميّة العامة والخاصة. ولم تكتف السلطة، الأحاديّة الرأي، القامعة لكل من يعارض سياستها، بالمنع فقط، بل سنّت قوانين تجرّم فيها حريّة التعبير كتابة أو رسما.

وهكذا ستزداد هذه الظاهرة اتّساعا، وستجذب لها الكثير من القراء. وستنفق السلطة أموالا معتبرة لإعادة طلاء الجدران (المتّسخة) بالطلاء الأسود والأحمر والأزرق، وبشعارات تعبّر عن معاناة الطبقات المسحوقة من انعدام العدالة الاجتماعيّة، تفضح السياسات العرجاء للحكومات المتعاقبة في المجتمعات الملكيّة والجمهوريّة على السواء.

" إذن، فالكتابة على الجدران - كما عرّفها أحد الكتاب في موقع الثورة نيوز - غدت سلوكا يمارسه الكثيرون للتعبير عما يختلجهم من أفكار ومواقف وانتماءات وغيرها فيعكسونها بكلمات وعبارات في حيطان وجدران المنازل والمدارس والمصالح والمؤسسات العامة والخاصة وفي الوقت نفسه فإن هذه الظاهرة تعبر عن الحالة النفسية لدى أصحابها "

لكن هناك فئة من الكتاب والباحثين الاجتماعيين والنفسيين، تنظر إلى هذه الظاهرة نظرة سلبية، سوداوية. وغير حضاريّة. جاء في تحقيق لميساء قاسم على موقع رصد نيوز مايلي:

" الكتابة على الجدران ظاهرة ملفتة للنظر وخصوصاً في الطرقات العامة والمدارس وجدران المنازل حيث تتضمن ألفاظا بذيئة إن دلت فإنما تدل على فكر أو خلق أو تصور يحاول كاتبه تجسيده في هذا أو ذاك الجدار "

و أردف الكاتب قائلا: " وهذا النوع من الكتابة يؤذي جمال الأحياء ويشوه الجدران وخصوصاً مع تفشيه بدرجة كبيرة، ولم تنتهي ظاهرة الكتابة فقط على جدران المنازل والطرقات العامة بل وصلت إلى المدارس حيث يتفنن الشباب في رسوماتهم من خلال استخدام وسائل عديدة منها استخدام الرش والطباشير، والأقلام، والفرش العريضة.

كما تعد هذه الظاهرة ظاهرة ذات دلالات ومعاني كونها تحولت إلى سلوك غير حضاري يتنافى مع الذوق العام عندما تحولت معانيها ومفاهيمها وأهدافها وأماكنها لشيء من التخريب، فهي تعبير نفسي يعيشه كاتب هذه العبارات ومرآة عاكسة لداخليته "

و يرى الكاتب، وجوب معالجة الظاهرة بطرق قانونيّة وتربويّة:

” لابد من قيام مؤسسات المجتمع ومؤسسات الدولة الرسمية والخاصة والمؤسسات التعليمية بتثقيف الشباب وتوضيح المضامين السلبيّة للكتابة على الجدران، أما بالنسبة لوسائل الإعلام بجميع أشكالها فعليها تثقيف المجتمع كله حول نتائج الكتابة على الجدران وتأثيرها على صحة المجتمع وتطوّره، وفي الوقت ذاته يجب على الإعلام إتاحة فرص أكبر للشّباب حتى يعبّر عن آرائه بشكل صحي ومشروع بعيداً عن السريّة وتجزّيء المجتمع الواحد وتحوّل أحيائه ومدنه إلى أشخاص لا تربطهم سوى صلات قانونيّة رسميّة بينما تتباعد عن بعضها روحياً وثقافياً وفكريا "

لكن، الحقيقة، التي تغافل عنها بعض الباحثين الاجتماعيين والنفسانيين، هي أن ظاهرة الكتابة والرسم على الجدران، ما هي إلاّ تعبير صادق عن المكبوتات والطابوهات السياسية والجنسيّة، وتنفيس عن الضغوطات الاجتماعية التي يمارسها المجتمع على الفرد، أو يفرضها الفرد النافذ على الجماعة الأهليّة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم