قضايا

في ذكرى رحيله.. محمد أركون واسئلة الفكر العقلاني

يركب الطائرة من العاصمة الجزائر الى باريس بحثا عن المستشرق ريجيس بلاشير، المفتون بالمتنبي، وهو يحمل كتبا لطه حسين وديوان المتنبي ونسخة فرنسية من كتاب بلاشير " القرآن نزوله تدوينه ترجمته وتأثيره ". لم يكن مقتنعا بما يقدمه اساتذة جامعة الجزائر: " لان اساتذتي كانوا هناك صفر، لم تكن اية ابنية ثقافية، كانت الصحراء " – حوار مع رون هاليبر ترجمة جمال شحيذ " –.كان محملا بشغف المعرفة يخبرنا ان قراءة التراجيديات الكلاسيكية تركت عنده اثر كبير، كان يحفظ مسرحيات كورني وراسين ومولير عن ظهر قلب، وامعن النظر بافكار فلاسفة القرن الثامن عشر. وعندما رأى كل هذه الصروح الثقافية تساءل " وماذا عن بلادي ؟ ".

في باريس التي وصلها بداية الخمسينيات حاول الفتى الجزائري القادم من منطقة القبائل أن ينطلق في الآفاق الشاسعة التي اتسعت أمامه وكان كلما تقدم في سبل المعرفة، يكتشف سعة الهوة بين عالم القناعات البليدة والراسخة وعالم العقل الذي يعمل من أجله ويصبو إليه، كما لو أن عليه أن يجتاز قرونا في سنوات معدودة، إلى أن وقع ذات يوم على أبي حيان التوحيدي: "أخي الروحي والثقافي، المهمش في الدولة البويهية"، ليجد فيه القربى والسلوى، وانصهار الفكر في الإبداع، ويكتشف أوجه المثقف المتعددة، المؤمن والملحد، والفيلسوف والمؤرخ، ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع. كلها في هيئة رجل رث الثياب عاش قبل ألف عام، وصفه ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء بأنه متفنن في جميع أنواع العلوم، فهو شيخ في الصوفية، وفيلسوف في الأدباء وأديب في الفلاسفة.

يقول انه تعلم عن الحياة في المجتمع الجزائري اكثر مما تلقى من المدارس والجامعات. الطفل المولود لعائلة أمازيغية فقيرة في الاول من شباط عام 1925، في قرية توريت ميمون الواقعة في منطقة القبائل الكبرى بالجزائر، تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة كاثوليكية حيث كانت الدراسة باللغة الفرنسية، فيما كانت اللغة التي تتداولها عائلته اللغة البربرية، في القرية سيتعرف على على الروائي والمفكر مولود معمري الذي يكبره باحد عشر عاما – ولد مولود معمري في عام 1917 - وسيكتب محمد أركون ذكرياته عن قريته ومعمري المثقف اللامع في مقال بعنوان " مع مولود معمري في توريت ميمون " – نشر المقال في كتابه الأنسنة والاسلام ترجمة محمود عزب - حيث يصف لنا أركون حالة عائلته الاجتماعية قائلاً: " وفقا للتقسيمات الجارية في القرى، كانت عائلة آل معمري ينتمون الى علية القوم. كان منزلهم ناصع البياض يرتفع فوق اعلى التل. كانت كل منازل توريت ميمون مرتبة تنازليا وفق تاريخ العائلة ومكانتها. عائلتي ينتمون الى اولئك الذين يعيشون اسفل التل ". وفق لهذا الترتيب فان عائلته كانت تعاني من الفقر، ولد محمد اركون طفلا ضئيل الحجم حتى اعتقدت والدته انه لن يعيش طويلا بسبب سوء صحته. ستنتقل العائلة الى ضواحي وهران هربا من شظف العيش وسط الجبال، يعمل مع والده في محل صغير. في المدينة الجديدة سيعيش صدمة بسبب عدم معرفته للغة العربية التي هي اللغة الرسمية في مدارس وهران، وكان لهذا التحول اثره الكبير على تكوينه الثقافي حيث يقول: " لم اكن اعرف العربية اطلاقا، ثم تعلمتها، ربما مع شيء من السهولة لأنني كنت اسمعها في الشارع. تعلمتها في الكتب. في وهران كان عليّ ان اتعلم العربية واكتشف المجتمع الجزائري الناطق بالعربية وليس البربرية. ومن جهة اخرى كان عليّ ان اكتشف المجتمع الفرنسي المستعمر " – رون هاليبر الجهود الفلسفية لمحمد اركون ترجمة جمال شحيذ -.

كان ذلك اشبه بالتحدي لكنه يقول انه تعلم الصبر من والدته التي كانت تعاني كثيرا لكن الهدوء يرتسم على ملامح وجهها، يكمل دراسته الثانوية ليلتحق في قسم اللغة العربية في كلية الاداب بالعاصمة الجزائر. في الجامعة يتعرف على كتب طه حسين ويقف طويلا عند كتابه عن الشعر الجاهلي، اعجابه بعميد الادب العربي لم يمنعه ان يقدم رسالة تخرجه من الكلية حول غياب الانسجام في مشروع طه حسين وخصوصا كتبه في الاسلاميات، كان عنوان الرسالة التي تقدم بها للجامعة عام 1953 " الجانب الإصلاحي في أعمال طه حسين ". كان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره وقد سببت له الرسالة الكثير من الانتقادات من طرف الاساتذة وزملائه الطلبة . إلا ان أركون ظل يحمل لطه حسين الكثير من الاعجاب والعرفان، حيث يرى ان طه حسين استطاع من خلال كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " ان يجسد فكرا اصلاحيا، كانت غايته ان يجعل من التعليم الطريق الوحيد للخروج من الفقر الفكري الذي كانت تعاني منه البلدان العربية: " طه حسين، هذا الذي لا يزايدنّ أحد عليه في قراءة الإسلام والمَعرفة العميقة برسالته، اعتبر المعرّي واحداً من كِبار مجددي الرؤية للدين الحنيف وإعمال النّظر العقلاني فيه. ومثل العادة قاموا عليه وطعنوا به واتّهموه بألوان الزندقة والمروق، لكن طه حسين كان أدهى منهم وأكثر هجوماً عليهم لضربهم في صلب منطقهم المغلوط، فلم يتمكنوا التشهير به كما يحلو لهم، لا لشيء إلا لأنه امتلك قمّة المعرفة بالدين وتعاليم القرآن والسنة. كما أنه انفتحَ، وبلا حدود على العِلم الذي حضَّ عليه الإسلام، وكذلك على ثقافات الأُمم، وصار في المحصلة واحداً من أبرز رموز النهضة والحداثة في مصر والعالَم العربي ".

في باريس يتتلمذ على يد عدد من المستشرقين ابرزهم شارل بيلا صاحب كتاب " الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء " – ترجمه الى العربية ابراهيم الكيلاني " وهنري لاووست التي تخصص بدراسة الغزالي وابن تيمية، وطبعا ريجيس بلاشير الذي ارشده الى الطريقة المثلى في تحقيق النصوص، والمستشرق الكبير جاك بيرك الذي اشرف على اطروحته للدكتوراه في السوربون عام 1969 " نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي " – ترجمه الى العربية هاشم صالح -، وقد اعترض بعض اعضاء لجنة المناقشة على ربط الأنسنة بالفكر العربي، حيث اعتبروا ان الأنسنة مصطلح غربي تمت صياغته في عصر النهضة الاوربي، إلا ان أركون اصر على أن النماذج التي يدرسها وهما مسكويه وابو حيان التوحيدي اشاعا مفهوم الأنسنة في القرن الرابع للهجرة وفي بغداد بالذات، حيث وجد ان التوحيدي ومسكويه استطاعا طرح مشكلة الانسان بنوع من العقلانية والاستقلالية بالرغم من هيمنة القيم اللاهوتية والدينية آنذاك. وسيرافق ابو حيان التوحيدي محمد أركون في رحلته المعرفية فهو يرى ان صاحب الامتاع والمؤانسة شخصية نادرة في تاريخ الثقافة العربية فهي الشخصية التي " انتفضت وثارت باسم الانسان ومن اجل الانسان ". فالتوحيدي كما يراه أركون هو نموذج للأنسنة في الفكر العربي الاسلامي، وهو يفضله على معظم المفكرين العرب، كان شعاره " العلم بالعمل والعمل بالعمل "، كما ان التوحيدي صاحب العبارة الشهيرة التي افتتح أركون بها كتابه نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي والتي يقول فيها " الإنسان أشكل على الانسان " وقد جاءت هذه العبارة في كتاب " الهوامل والشوامل " كتبه التوحيدي بالاشتراك مع مسكويه – حقق الكتاب احمد امين – فهذه العبارة يجد فيها محمد أركون احدى الطرائق الفلسفية التي اراد الانسان ان يصالح بها نفسه بطريقة علمية ملموسة: " اقصد بطريقة تتجسد في نظام اخلاقي معاش على ارض الواقع. كما وتتجسد في نظام اقتصادي ايضا فيه شيء من العدالة والمساواة في الفرص.. هذه هي الأنسنة والنزعة الإنسية الحقيقية والفلسفة القائمة على الانسان واحترام الانسان واعتباره اغلى واعز شيء في الوجود " - نزعة الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي -.ولهذا نجد أركون يؤكد في معظم كتاباته ان النزعة الانسانية في الثقافة العربية الاسلامية كانت سابقة على النزعة الانسانية في الغرب التي ظهرت في القرنين السادس والسابع عشر، ذلك ان العالم العربي كان قد عرف تجربة الأنسنة بشكل واضح المعالم في القرن العاشر الميلادي.ويرى اركون ان العودة الى النزعة الانسانية في الفكر الغربي والتي امتازت بها كتابات التوحيدي ومسكويه وابن رشد وابن سينا يمكن ان تخدمنا، ليس من اجل اعادة الاعتبار الى الفكر الفلسفي بين المسلمين اليوم، إنما ايضا من أجل دحض الصورة السلبيةالتي يشكلها الانسان الغربي عن الاسلام والثقافة العربية.

في معظم كتبه التي تنوعنت عناوينها بين " الانسنة، ونقد العقل، والاجتهاد، كان أركون يرى انه لا سبيل الى تحديث الدين من غير اخضاعه للعلوم الانسانية. فمهمة الباحث في الفكر الاسلامي تتلخص باخراج الاسلام من ديانة تفهم على انها مجرد طقوس موروثة حبيسة تصورات اسطورية، الى ديانة متعقلة. فهو يرى ان الاسلام وقع ضحية التصورات الشعبوية السياسية والاستثمارات الايديولوجية المشوهة. ولم يخضع لدراسته علمية من قبل العلوم الاجتماعية. ولم يكن قط موضوع تفكير نقدي. بل ان الاسلام احتكره علماء السياسة كما يسمي شيوخ الفضائيات الذين يقدمون صورة بدائية ومتحجرة عن الاسلام. تختزل الدين الاسلامي واسئلته الجوهرية بمجموعة من الفتاوى التي يصدرها اشخاص حاملين ثقافة دينية بدائية او تقليدية، يلعبون على اوتار اللغة والبلاغة والمخيلة لاستدرار عواطف البسطاء.ويرى اركون ان الفقهاء يَّدعون قدرتهم على الاجتهاد، لكنهم في الحقيقة يعكسون الواقع الاجتماعي والسياسي ولهذا تأتي اجتهاداتهم كنوع من التبرير للسلطة المهيمنة، ولهذا من الضروري جدا اخضاع الاجتهاد الى المسائلة النقدية والمراجعة الدائمة. ومن اجل تنفيذ مشروعه النقدي نجد اركون يلجا باستمرار الى النص التاسيسي لللاسلام (القرآن)، حيث يؤكد ان مفهوم العقل احتل: " مكانة خاصة في النص القرآني، ولا مثيل له في كل النصوص الاسلامية التي جاءت بعده.. فالعقل السائد في القرآن هو عقل عملي تجريبي.. إنه عقل جياش يغلي كما الحياة. وليس عقلا تأمليا او استدلاليا برهانيا " - أركون قضايا في نقد العقل الديني نرجمة هاشم صالح -. ويضيف:  "كم من مرة تكررت (أفلا تتدبرون) و(أفلا تعقلون) في القرآن؟ لكن هذا النوع من التفكير المتوسع تم تهميشه وضيقت مجالاته ".

على مدى اعوامه التي بلغت الت " 82 " عاما – توفي في الرابع عشر من ايلول عام 2010 – وكتبه التي تجاوزت الـ " 30 " كتابا كانت المهمة التي اضطلع بها محمد أركون هي تحمل عب ء كشف الظلام في واقعنا والسعي إلى تحويل الكتابة الى تمرد فكري، وفتح آفاق جديدة للتفكير، وسلك طرق لم يسلكها احد قبله. يكتب نيتشه: " نحن نروم ونستهدف ارضا بكرا لا احد وضع حدودها، انه ما وراء كل الاراضي والخبايا المعروفة الى حدود الآن، عالم يفيض باشياء جميلة، غريبة، مرعبة ـ اشكالية، وهناك الكثير من الاراضي البكر التي يجب اكتشافها، لقد حان الوقت ايها الفلاسفة فلترضعوا مدادكم ". انهم يمتلكون نظرة نقدية، ولا تبصر عيونهم سوى كومة من الاسئلة التي تحتاج الى اجابات. انهم يبصرون ما يحاول البعض ان لايشاهده، انهم يفنون انفسهم في خدمة سؤال الحقيقة. بهذا المعنى كان محمد أركون واحدا من هؤلاء المفكرين الذين قرروا خوض المغامرة ليقدم للقراء حصيلة فكرية مغايرة: " اقف متسائلا واقول: التراث موجود، والتراث غني من حيث الثقافة والحياة العقلية، ولكن لا بد من التساؤل " - التراث والموقف الفكري مجلة الكرمل -

في مقدمة كتابه الشهير " الفكر العربي" - ترجمة عادل العوا - يكتب محمد اركون إن "جميع المثقفين العرب يبحثون عن مساحات حرة، ولو كانت ضيقة ومؤقتة، يحملون في نفوسهم تاريخا شديد الوجع، وهم يعرفون أن الخلاص غير وشيك، هذا المثقف العربي لا يفهمه أهله في غالب الأحيان، مهمش، أو منبوذ، ". وكان يرى ان وظيفة المثقف ان ينتقد ما هو عزيز جدا على قلبه، ولا يترك جانبا أي شيء حتى لو دفع الثمن غاليا.

يقف محمد اركون في مفترق طرق المفكرين المهتمين بالتنوع والتعدد، فهو الى جانب عمله في تتبع الفكر الاسلامي بالدرس والنظر، كان يمتلك معرفة موسوعية بهذا الفكر، اضافة الى ادوات اقترنت بهذه المعرفة وهي فرادة الفهم والنقد. فهم التراث الاسلامي والعربي فهما علميا ونقده نقدا جذريا باسترايجية فكرية تمتاز بموسوعة معرفية بالتراث والحداثة معا، الموروث الديني والثقافي وتيارات الفكر الحديث والمعاصر، فهو الى جانب معرفته الواسعة بالتراث الاسلامي، كان يمتلك تكوينا فلسفيا وحصيلة معرفية بالعلوم الانسانية وبنظرياتها وحقولها ومناهجها. وفي دراساته للفكر الاسلامي نراه يتحرك يثقة العارف بين الفلسفة واللسانيات والتحليل النفسي والتاريخ وعلم الاجتماع، يتنقل بينها ليصنع لنا كتبا مصاغة بطريقة تحمل الكثير من مفاهيم المعرفة الانسانية، التي تحمل في داخلها جراءة معرفية واقتحام شجاع لمناطق ممنوعة ومغلقة امام البحث النقدي العلمي للدين، فقد كان يؤمن ان المعرفة بتاريخ وفكر الاسلام لا تستقيم إلا متى استطعنا ان نفكر ونحلل المنسي والهامشي والممنوع التفكير فيه، ونحرره من سلطة التابوات وسدنة التراث الذي يصرون على ان العقل قاصر على الوصول الى الحقيقة.

يكتب ميشيل فوكو الذي كان له تاثير كبير على منهج محمد اركون في دراسة النصوص: " إحدى مزايا المفكر هي أنه لا خيار له سوى المزيد من المعرفة"، هذه المعرفة هي التي قادت أركون لان يحدث ثورة في الفكر الإسلامي والعربي طارحا السؤال الكبير: لماذا تخلى العرب والمسلمون عن سؤال العقل؟. ولهذا نجد ان معظم كتابات محمد اركون موصولة بفكرة مركزية تمثل عماد مشروعه النقدي والمعرفي، انها فكرة نقد العقل الاسلامي وتفكيكه، وأركون عندما يعود الى التراث، يدرك أن هناك أشياء لم يفكر فيها في الماضي، وبفعل عامل الزمن تحولت الى أشياء أصبح مستحيلاً التفكير فيها، كمسألة تاريخية النص القرآني ومسألة الوحي، ومسألة خلق القرآن، ثم مسألة الشخص المواطن، ومسألة العلمنة وحقوق المرأة، ومسألة المعتقد. فكيف، إذاً، يمكن التعامل مع هذه القضايا في ضوء متطلبات الحداثة؟، وقد وجد اراكون ان هناك اتجاهين في دراسة الظاهرة الدينية، الاتجاه الاول يرى في الاسلام دين وعقيدة فوق التاريخ، وهذا الاتجاه مشبع بالمتخيل الجماعي عن الدين الذي يبني صورة مثلى للعقيدة. اما الاتجاه الثاني والذي سار عليه محمد اركون فهو الذي يسعى الى تاسيس نظرة تحليلية ونقدية وتساؤلية للظاهرة الدينية وهو يقول بهذا الخصوص: " الواقع ان العقل الدوغمائي اغلق ما كان مفتوحا ومنفتحا وحَّول ما كان يمكن التفكير فيه، بل ويجب التفكير فيه اثناء قرون طويلة على ما يجب التفكير والابداع فيه.. يمكن القول بان نزعة التقليد للمذاهب الارثوذكسية وتكرارها قد تغلبت على اعادة التقييم لجميع المذاهب الموروثة والمسلمات التعسفية التي انبتت عليها ".- محمد اركون قضايا في نقد العقل الديني –. ولهذا سعى أركون الى العمل على تحرير العقل الاسلامي من الاعاقات التي علقت به وسعت الى تعطيل وظائفه، مطالبا بتحويل التراث الى قوة تحريرية: " وبدلا من أن نلهو، كما نفعل غالبا، في الحديث عن العروبة والاسلام اللذين يُطالب بهما على أنهما هوية قديمة ومقدسة في آن، فمن الافضل التساؤل حول الاسباب التي جعلت المرجعيات الثابتة المتعلقة بماضٍ ثقافي قديم تتحول الى عائق أمام التجديد السياسي والابداع الثقافي على غرار ما طالعنا في المجتمعات والشعوب الاوربية منذ القرن الثامن عشر " – محمد اركون الهوية وحرية الفكر والعمل مجلة مواقف –. ولهذا نجد اركون ينبهنا الى ان تاريخ الفكر العربي الاسلامي خضع لقطيعتين حاسمتين مازالتا تهيمنان عليه، القطيعة الاولى تلك التي انقطع فيها الفكر الاسلامي في المرحلة العثمانية عن افضل ما انتجه الفكر الاسلامي ذاته في مراحل تطوره على يد مفكريه الكبار ابن سينا وابن رشد والرازي وابن خلدون. اما الثانية فهي مع الخارج أي مع الغرب، فقد نام الفكر العربي وجمد ولم يعد يعرف ماذا يحصل حوله من اكتشافات علمية وتطورات فلسفية.ولهذا يرى أركون ان نقد العقل الديني التراثي لن يتم دون فهمه، موضحا ان هذا العقل التراثي: " يقبع تحت كل اشكال التراث او يقف وراءها. وهو في الوقت ذاته يمثل نتيجتها او محصلتها. والحقيقة، بالنسبة إلى هذا العقل، هي واحدة لا تتجزأ، ولا يمكن ردها إلى شيء آخر أو إلى أية حقيقة أخرى " – قضايا في نقد العقل الديني ترجمة هاشم صالح -.

في كل قضية تتعلق باشكالية فهمنا للتراث الاسلامي نتطلع إلى مؤلفات محمد ونسأل: هل كان يريد أن يقول لنا انه عاش مهموما بقضية هذا التراث ومحاولة تحديثه ؟.هل كان يريد أن يدلنا على نفسه ؟ أليس هو الذي كتب عن كل شيء في الفكر العربي والإسلامي، ما هي المسألة الفكرية أو الاجتماعية أو المنهجية التي لم يمخر أركون عبابها؟ وكم فيه من خصال التوحيدي وحبه للعلم ثم الشقاء في سبيل الفضول والمعرفة؟: " ارى الاسلام مكانا مفتوحا. اعتبر نفسي مسلما وإنسانويا في آن. لقد اكتشفت ذلك مع التوحيدي ومسكويه "

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم