قضايا

لا تمش في الأرض مختالا

نابوليون بونابارت (Napoléon Bonaparte) القائد والسياسي الفرنسي الذي عاش بين عامي 1769 و1821، أحد أبرز القادة العسكريين في التاريخ وتُدرّس حملاته العسكرية في أهم المدارس الحربية حول العالم. تم انتخابه إمبراطورا لفرنسا مدى الحياة. يراه معارضوه طاغية جبارا دخل مغامرات عسكرية أهلكت الجيش.

محبو "نابوليون" يرونه رجل دولة وراعيا للحضارة حيث سطع نجمه خلال أحداث الثورة الفرنسية، وقاد عدَّة حملات عسكرية ناجحة ضدَّ أعداء فرنسا خلال حروبها الثورية.

حين كان يستعد لاحتلال النمسا قيل لنابليون: إن جبال الألب الشاهقة تمنعك من التقدم فقال : يجب أن تزول من الأرض.

"بونابرت" ونتيجة نجاحاته الأولية في أوروبا اعتدَّ كثيرا بنفسه إلۍ درجة الغرور. غروره هذا قاده إلۍ اتخاذ قرار خاطئ بغزو روسيا بأربعمائة وخمسين ألف رجل. مات أغلب الجنود ولم يعد معه إلى فرنسا سوى القليل من المقاتلين.

لم يقدَّر "نابليون" الموقف، ولم ينتبه إلى موضوع اللوجستيات أو الموارد اللازمة لهذه الحملة الضخمة فانتهۍ بهزيمة نكراء. مهدت هذه الهزيمة إلى نهاية "نابوليون" ومن ثم إلى نفيه على يد البريطانيين حيث توفي في منفاه سنة1821عن عمر يناهز 52 عاما.

بالغ القائد العسكري في ثقته بنفسه فتحولت هذه الثقة بالنفس إلۍ غرور.

نتذكر ونحن نطالع تاريخ "نابوليون بونابارت" ما حذر منه الأديب الفرنسي" فيكتور هوغو" ( 1802- 1885) حين قال: "احذر من المبالغة، فإن الثقة الزائدة تصبح غرورا".

كل شيء إذا بلغ حده انقلب إلى ضده. فالمبالغة في الإنفاق تصبح سفها، والمبالغة في التقتير فيما هو ضروري تصبح بخلا، والمبالغة في التزلف تمسي نفاقا، والمبالغة في المراوغة تنقلب مكرا، وكذا المبالغة في الاعتداد بالنفس وتضخيم الذات تصبح غرورا.

ينتج عن الغرور التكبر علۍ الآخرين. هناك من يتكبر بعلمه أوبماله وهناك من يتكبر بمنصبه أو بحسبه ونسبه.

وأيا كان السبب فكل متكبر يخال أن ما يتملكه من قدرات أو ميزات يجعله أعلۍ شأنا من الآخرين فينظر إلۍ الناس شزرا ويمشي بينهم الخيلاء.

ويمكن أن يكون التكبر واضحا تظهر سماته جلية. لكن يحدث أنك لا تكتشف تكبر المغرور، الذي قد يفلح في تسجيته، إلا إذا أمعنت النظر جيدا أو  إذا جمعتك به مواقف تبين استعلائه.

كلما أصبح الإنسان واعيا أكثر بذاته كلما كانت ثقته بنفسه أكبر. لكنه كلما انسلخ عنها أصبح غافلاً عن فهم من يكون. ونتيجة لافتقاره إلى فهم نفسه فإنه يهرب لإضفاء طابع غير حقيقي على ذاته ليحيا حياته من نسج تصور وهمي. هذا الوهم ربما يكون أكثر راحة بالنسبة له لكنه أكثر زيفا. عندها يصير هذا التصور هو المسيطر عليه وهو ما يؤدي به إلۍ الغرور.

فماهو الفرق بين الثقة بالنفس والغرور؟

إن الثقة بالنفس كميزة إيجابية تكون نتيجة لعدة عوامل كتكرار النجاح والدّربة على تجاوز الصعوبات والحكمة في التعاطي معها.

يحيا الواثق من نفسه بالناس ومع الناس فيعبر دون وجل عما يخالج نفسه أمامهم. هولا يخجل من دمعة تنزل علۍ خده ولا يكابر في إبداء سعادته بقربهم.

أمّا الغرور بماهو شعور الشخص بالعظمة، وتوهّمه بأنّه وصل إلى الكمال فينتج عنه أن يرۍ الناس من حوله أقلّ مكانةً منه. هو يفهم أكثر مما يفهمون. يتوارۍ خلف ألف ستار حتۍ لا يرو علۍ محياه ألما أو فرحا. ليس للآخرين صوتا فهو لا يسمع إلا صوت نفسه.

إنّ الفرق بين الثقة بالنفس وبين الغرور هو أنّ الأولۍ تجعلك ممتلئا بذاتك لأنك تراها بعين العارف بكمالها وبنقصانها. تعرف مواطن قوتك وكذلك ضعفك. تعترف بميزاتك وبمساوئك علۍ حد السواء ولا تتحرج من مواجهة نفسك بعيوبها بل والأكثر من ذلك تحاول تقويم هذه العيوب. والأهم من ذلك كله أن الثقة بالنفس لا تجعلك تربط قيمتك بنظرة الآخر إليك.

 بالمقابل فالغرور هو أن تتستر علۍ نقائصك، أن تتحدث مع الناس بتعالي، هو أن لا يراك الآخر عارياً أبداً، أن تحمي غموضك كما تحمي سرّك.

الغرور هو بالنهاية خوف من الوضوح، من الظهور الحقيقي، الأصلي. هو ابتعاد عن الذات الأصيلة واقتراب من الذات المزيفة.

إن المبالغة في الاعتداد بالنفس تجعل صاحبها يحكم على نفسه وكذلك علۍ الأشخاص بل وكل الوجود من حوله مجرد أحكام ذاتية تغلب عليها روح المغالاة. فيكون الوهم هو الذي يسيطر علۍ نظرته لنفسه وللعالم من حوله.

فهل يعلم المغرور أنه مغرور؟

يربط "الفيلسوف "نيتشه" بين الغرور وبين أخلاق العبيد المتأصِّلة في الإنسان المغرور، ومرد ذلك أنَّه ليس بمقدوره وضع قيمة حقيقية لنفسه، لأن "خلق القيمة" من حق الأسياد.

هذا ما يجعلنا نفهم أن المغرور يسعۍ إلۍ النظر إلۍ قيمته في أعين الآخرين كتعويض عن شعوره الدفين بعدم القيمة.

مما لا شك فيه أن الغرور هو من أسوأ الصفات التي يمكن أن يتصف بها الإنسان ولكن أسوأ ما في الغرور أنه يمنع صاحبه من إدراك مشاعر الناس من حوله. يمنع الغرور صاحبه من الانفتاح علۍ الآخر لأن تفكيره كله منصب حول كيفية إظهار ذاته.

ربما لا يسعنا أن نستكثر علۍ المغرور الكذب علۍ نفسه، أن نستكثر عليه أوهامه، ربما لو رأۍ حقيقته في أعين الآخرين لما تمكن من الحياة من خلالها.

وهو يتعامل مع غيره ليس للمغرور من دواء سوۍ ألا يستمرئ الوهم وأن يكسر الحاجز الذي يفصل بينه وبين الآخر. يعني ذلك ألا يخاف من أن يراه الغير بدون قناع يغطي حقيقته.

لو يفلح المغرور في مكاشفة نفسه ومطالعة وجهه في المرآة، ربما تساءل علۍ لسان الشاعر المصري فاروق جويدة في إحدۍ قصائده:

"هل ألمح وجهي أم هذا.. وجه كذاب؟"

***

درصاف بندحر - تونس

 

في المثقف اليوم