قضايا

لغة ضيقة

أريد هنا تسليطَ الضوء على مشكلة، ظننتها معيقاً للنقاش في قضايا الثقافة العامة، بل كل قضية تطرح للنقاش العام.

لديَّ مثالٌ من تجربة واقعية، توضح واحداً من أبعاد المسألة؛ لنفترض أنَّك – مثلي – تعارض عقوبة الإعدام في هذا الزمن، لأسباب علمية وتجريبية. ولنفترض أنَّك صرحت بهذا في مجلس فعلي أو افتراضي («تويتر» أو «فيسبوك» مثلاً). فماذا تتوقع من ردود فعل؟

لو كنت رجلَ دين شهيراً، فسوف يدعمك 20 في المائة من القراء ويعارضك 50 في المائة، بينما يلتزم البقية الصمتَ انتظاراً لنتيجة الجدل. أما لو كنت شخصاً عادياً، فسوف يدعمك 10 في المائة ويعارضك 60 في المائة. بعض المعارضين سيقول؛ كيف يتبنَّى مسلمٌ رأياً كهذا... لا بدَّ أنَّه علمانيٌّ أو مأجور، أو باحث عن الشهرة! أي أنَّهم لا يضعون في اعتبارهم احتمالَ كونِك صاحبَ رأي أو استدلال مختلف.

عدا هذا، ستحظى بـ5 أشخاص أو 10، يناقشون الفكرة ويسألونك عن الدليل، وعن الفوائد المحتملة لتطبيق الفكرة أو العكس. وهؤلاء القلة هم زبدة المجتمع كما نعلم.

لماذا تزيد مساحة القبول حين يكون المتحدث رجل دين؟

الجواب معروف. لكني سأطرق زاوية أخرى، هي محور هذه الكتابة. وخلاصتها أنَّ اللغة تسمح بمستويات متعددة للمعنى، وقد تنصرف أحياناً إلى معانٍ غير مألوفة. دعنا نمثل بكلمة «عين» التي تعني بئر الماء وأداة الإبصار والوجيه في قومه وقلب الشيء أو ذاته. ولها تصريفات كثيرة، جمعها ابن منظور صاحب «لسان العرب» في نحو 3 صحائف. وهكذا كلمة «ضرب» و«قصاص» و«قتل» و«ردع» وأمثالها. لكل من هذه الألفاظ طبقات ومستويات من المعنى، تذهب أحياناً إلى معانٍ غير مطروقة.

اللغة - مثل أي عنصر ثقافي أو أداة تواصل - تتطور عبر الزمن، بتأثير التحولات الاقتصادية والسياسية في المجتمع الذي يستعملها، وارتفاع مستوى الثقافة والعلم، إضافة إلى التواصل مع الأقوام والثقافات المباينة.

تمتاز اللغة العربية بأنَّ لديها خزاناً مرجعياً، هو القرآن والسنة والعلوم التي نشأت حولهما. هذا تراثٌ متنوعٌ. (أسميه تراثاً أو موروثاً، لأنَّه غير مصطنع حديثاً، بل انتقل إلينا من الأسلاف، بنصّه وفصّه وقضّه وقضيضه). لكن رغم تنوع العلوم فيه، فإنَّ لعلم الفقه والكلام (العقيدة) هيمنةً لا تنازع. أما سائر العلوم التراثية فخادمة للفقه والكلام. ومنذ البدء قرَّر حملة علم الدين أنه علم للعمل، فغايته توضيح التكاليف للمؤمنين. وتبعاً لهذا اجتهدوا في تحديد «معنى وحيد» لكل لفظ في النص أو حوله. وتعرفنا على قواعد جديدة لهذا الغرض، مثل تمييزهم بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، ومرادهم تحديد مراتب وأنساق تحدد معاني الألفاظ.

بعبارة أخرى، فإنَّ علوم الدين تدور في محيط لغوي ضيق نسبياً. وحين يأتي عالم أو مبتكر أو فيلسوف، فيشير إلى معانٍ محتملة، غير ما ورد في «التراث الكبير»، فسوف يرفض اقتراحه بدعوى كونه «خارج دائرة الدين» لأنه - ببساطة - غير مألوف عند حملة العلم الديني وقرائهم.

يظهر ضيق المحيط اللغوي لعلم الدين، في محدودية النقاشات التي تدور حول أي قضية. في النقاش حول إلغاء عقوبة الإعدام مثلاً، سيردُّ عليك جميعُ المعارضين تقريباً بالآية نفسها والحديث نفسه والقول الفقهي نفسه (المتعلق بعقوبة القتل). أي أنَّ النقاش سينحصر بكليته في نطاق محدود، لا جديد فيه، بل كله منقول ويمكن أن يقالَ في أي عصر.

لقد اتَّضح الآن لماذا يقبل الناس من رجل الدين وليس من غيره. وخلاصته أنَّ رجل الدين يكرر عليهم ما يعرفونه فعلاً وما كان يعرفه آباؤهم، وهو محدد المعنى لا يحتمل النقاش والتفسير. لكن حين تأتي باستدلالات من خارج هذا النسق، أو حين تستعمل لغة غير لغة التراث، فسوف تبدو كمن «يؤذن في مالطا».

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم