قضايا

مجتمع النصف ومجتمع الكل

كثيرا ما تردّد، ومازال يتردّد، على ألسنة المثقفين والمفكّرين، وحتى أشباههم، وبعض الدهماء من مجتمعنا العربي الإسلامي، السؤال التالي: لماذا تقدّم الغرب في مجالات العلوم الإنسانيّة والدقيقة، بينا تأخرنا نحن في شتى ميادين الحياة؟ ما هي الأسباب الظاهرة والباطنة، المباشرة وغير المباشرة، التي سمت بالغرب إلى ذروة الحضارة والمدنيّة،؟ وما العوامل التي هوت بنا إلى قاع التخلّف الفكري والتكنولوجي؟

لا أحد ينكر مدى التأثير السلبي، الذي أحدثته الظروف التاريخيّة الحالكة والمناطحات الإيديولوجيّة، والصراعات السيّاسيّة والإثنيّة ذات الطابعين العلماني من جهة والديني، في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، منذ القرن الأول الهجري وبداية القرن الهجري الثاني .

و ها هي النخبة الدينيّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة في المجتمع العربي المسلم، تقع في المحظور، منذ بدء سلسلة اغتيال الخلفاء الراشدين ؛ الفاروق عمر بن الخطّاب، ثم الخليفة عثمان بن عفّان ثم الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعا. ثم قامت الدولة الأموية، التي أسقطتها الدولة العبّاسيّة، وبعد سقوط بغداد عام 656ه / 1258 م، فشا في جسد الأمّة العربيّة الإسلاميّة داء الضعف والانحطاط، ثم سقطت الخلافة الإسلاميّة عام 1924 م، بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في النصف الأول من القرن 19.

و هكذا تعرّضت المنظومة الفكريّة والفلسفيّة والأخلاقيّة لشرخ كبير، نتج عنها ظهر "مجتمع النصف" في الشرق، مقابل "مجتمع الكل" في الغرب. وظهرت ملامح مجتمع النصف وسلوكات أفراده في النشاطات اليوميّة ؛ في العبادة، في البيت، في المسجد، في المدرسة، في الجامعة، في المزرعة، في المصنع، في الثكنة، في الدكان، في الشارع، الملعب الرياضي. وفي كل مناجي الحياة اليوميّة للفرد والجماعة، ممّا نتج عنه ميلاد " إنسان النصف "، كما سمّاه المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي.

ومن صفات "مجتمع النصف" الظاهرة منها والباطنة، الاتّكاء على الأفكار الغيبيّة والميتافيزيقيّة لمواجهة أعباء الحياة الماديّة، ومحاولة تجاوزها، والبحث عن حلول لمسائلها خارج نطاق العقل والوعي والحكمة.

ومنها أيضا، إهمال العقل المفكّر، والانقيّاد نحو التفسيرات الغيبيّة والنسبيّة والتقريبيّة للمسائل العلميّة الخالصة، دون النظر بعين البصيرة إلى عواقبها على حياة الفرد والجماعة.

إنّ " مجتمع النصف "، هو مجتمع ذكوري بحت. فهو ينظر إلى الأنثى نظرة العدم، أي أنّه مجتمع مبنيّ على فكرة، إقصاء الأنثى من النشاط اليومي وإلغاء مكانتها ودورها في بناء المجتمع.

بالرغم من أنّ الله قد خلق الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوبا وقبائل للتكامل والتعاون والتعارف والتراحم.

مجتمع النصف، مجتمع متردّد في إنجاز الأعمال، مجتمع مقصّر في إتمامها، ينظر إلى الحياة من زاوية تحقيق اللذة الفرديّة، لا المنفعة العامة. فأنت ترى الفلاح يتوجّه إلى المزرعة، متأخرا، متردّدا، منقوص العزيمة والإرادة، ويكب على عمله الزراعي دون روح، هدفه تحقيق معاشه اليومي بين جيرانه، لا رفاهيّة وطنه بين الأمم. فإذا اتّجهت صوب الجامعة، وجدت الأستاذ يلقّن دروسه، وغايته تحصيل أجره الشهري، والطالب يتعلّم لنيل شهادة، ولو بالغش أو بوسائل أخرى غير شرعيّة، من أجل الحصول على وظيفة حكوميّة، تتيح جمع المال لأجل الزواج وشراء سكن أو كرائه. وكذلك يفعل الطبيب والمهندس والتاجر والإمام والرياضيّ، وحتى رجل السياسة الذي يتبوّأ منصبا هاما في هرم السلطة، جلّهم، بل كلّهم، أنانيّون، نصفيّون، يسعون إلى تحقيق الرفاهيّة الذاتيّة والفرديّة، على حساب رفاهيّة المجتمع.

مجتمع النصف، مجتمع " سلحفاتيّ " في تعامله مع عنصر الزمن. لا يؤدي أفراده أعمالهم كاملة، فهم مقصّرون في الغالب، مهملون، مؤجّلون، يبدّدون أثمن الأوقات في اللغو والتراخي والتردّد والشكّ . إذا أنجزوا مشاريع عموميّة، أخرجوها منقوصة الجودة، غير ملتزمين بمواعيد الإنجاز، فاقدون لعنصري التخطيط والاستشراف.

من الذي صنع "مجتمع النصف"، هو "إنسان النصف"، لا شك في ذلك. نصف متعلّم ونصف أميّ، نصف غنيّ ونصف فقير، نصف وطنيّ أصيل، ونصف أجنبيّ دخيل، نصف حيّ ونصف ميّت، نصف قاتل ونصف مقتول، نصف متديّن ونصف غير متديّن، نصف سيّد ونصف عبد، نصف متحكّم ونصف خاضع، نصف منتج ونصف مستهلك، نصف يملك ونصف مملوك، نصف ذكر معصوم ويمتلك العصمة ونصف أنثى ملغاة وعوراء ومسلوبة الحقّ في الحياة .

هذا المجتمع النصفيّ في كل سلوكاته النفسيّة وحركاته الجسديّة، في مكوّناته الماديّة، في نواياه وأهدافه، وضعه إنسان نصفيّ التفكير، نصفيّ العواطف، نصفيّ الإرادة، نصفيّ الغاية، نصفيّ الإيمان بكنه وجوده. نصفيّ الشخصيّة والهويّة، متردّد الخطى، متعدّد المواقف إلى حدّ التناقض، يعامل الأشياء بسذاجة الإنسان البدائيّ، دون إعمال العقل، دون تمييز بينها، ودون تقييمها، وتقدير حجمها وآثارها البائنة أو الخفيّة.

لقد بنى الأسلاف في العصر الذهبي، في المشرق والمغرب والأندلس، حضارة راقيّة، لأنهم لم يكونوا " أنصاف أناس " في حياتهم العلميّة والعمليّة. كان الإنسان في بغداد قبل 1258 م، وفي الأندلس قبل السقوط المرّ، إنسانا كاملا، يحيا حياة الكل، لا حياة النصف. لأنّه ادرك كنه رسالته الوجوديّة. كان يحيا بروحه المتوثّبة، المجنّحة، المتطلّعة إلى العلا، لا بجسده الملتصق بالتراب، الساعي إلى إشباعه بلذائذ الماء والخبز والراحة والنوم فقط.

أما مجتمع الكلّ، فهو صورة معاكسة، تماما، لمجتمع النصف. فهو صورة الإنسان الفرد الذي يعمل لصالح الجماعة التي تحترم فرديّته، تحمي خصوصيّته، وترفع من شأنه، وتمجّد نجاحه، وتنقذه من عثرته، وتدفع عنه نوائب الدهر وتقلباته المهلكة.

مجتمع الكلّ، هو الذي يبني الحضارة، ويشيّد صروح المدنيّة، ويولّد الأفكار الحيّة، ويجتنب الأفكار الميّتة، ويحارب المميتة بالحجة والحكمة والصبر. موضع الفرد فيه كموضع الرأس في الجسد، ودوره كدور الفؤاد دقات القلب في انتظام سريان الدم في الأوردة والشرايين. فإذا نظرت فيه إلى الموظّف أو العامل أو المتقاعد أو المزارع أو المعلّم أو الصانع أو التاجر أو السياسيّ أو المهندس أو الطالب، ألفيت كل واحد منهم مجدّا في عمله، متطلّعا إلى خدمة مجتمعه والارتقاء به إلى المعالي، لمنافسة المجتمعات الأخرى. فهو حريص على أن يكون، دائما، هو الأول، وغيره الثاني. يعشق بعقله المقدّمة، ويمقت البعديّة..

و أخوف ما يخافه عقلاء مجتمعنا المعاصر، أن يزداد مجتمعنا العربي انحدارا وتقهقرا نحو " مجتمع الربع " أو " مجتمع الثمن " أو " مجتمع العُشر " أو مجتمع " الجزء من العُشر "، في ظلّ ميلاد جيل مترهّل العقل ومسلوب الفؤاد. جيل " مولوع " باتبّاع الغرب في سفاسف الأمور وتوافهها .

إنّنا مطالبون – قبل فوات الأوان - بالبحث عن العلاج المناسب، انطلاقا من بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا السيّاسية ؛ التشريعيّة والتنفيذيّة. لا بد من إعادة النظر في نمط التربيّة اليوميّة ؛ البيتيّة والمدرسيّة، والتركيز على التربيّة العمليّة كبديل لطغيان التربيّة النظريّة. فما الفائدة من تعليم الطفل معاني الصدق، ومحيطه يمارس الكذب جهارا، نهارا؟ وما الفائدة من نهي الفرد عن اقتراف الحرام، ومحيطه عامر بالحرام؟ إذ، نجد، أنّ النصوص الدينيّة والقوانين التشريعيّة، تحرّم وتجرّم وتعاقب من يخالفها، بينا نجد، بالمقابل من نعتبرهم حماتها ينتهكونها دون رادع معنوي او مادي، ودون عقاب.. فقد تحوّلت الربا عند ممارسيها إلى فائدة تجاريّة، والرشوة إلى منحة خدميّة، والسرقة إلى ضرب من الكسب لسدّ الحاجة، واتُّخِذ الكذب والخيانة والنفاق والمجاملة، من أجل قضاء مصلحة ذاتيّة، وهلّم جرّا...

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم