قضايا

مفهوم العنف الاجتماعي.. دلالاته وأشكال تجليه (7): ما هو القمع؟!

قد يلاحظ القارئ إن هناك تكرار لبعض الصيغ والعبارات التي نستخدمها في هذا المضمار السوسيو – سايكولوجي، وهو ما لا يمكن تجنب مثالبه أو الإفلات من عيوبه، خصوصا"ونحن نطرح ونحلل هنا ظواهر (اجتماعية) و(إنسانية) تتعلق بحياة الأفراد والجماعات والمجتمعات، والتي من أبرز سماتها وخصائصها التبدل الدائم والتحول المستمر وفقا"للسياقات التاريخية والحضارية الخاصة والعامة . ولهذا نلاحظ إن مفهوم (القمع) بالمعنى الذي نستخدمه في هذه الحلقة، يخترق مجالات الحياة الاجتماعية اعتبارا"من (الأسرة) وانتهاء ب(الدولة)، مرورا"(بالمدرسة) و(المجتمع) . وبالتالي فهو يتخذ معنى (الكبح) و(النصح) في الحالة الأولى، ومعنى (الردع) و(القمع) في الحالة الثانية، و(التوجيه) و(الإرشاد) في الحالة الثالثة، و(الضغط) و(الضبط) في الحالة الرابعة .

ولعل هذا الاتساع والتمدد في دلالات المفهوم في حقول الاجتماع السياسي والمدني، حمل الباحثة (نجاح محمد) على تعريف (القمع) تعريفا "يتسم بالعمومية معتبرة انه (كل نظرة دونية لأي إنسان وكل تعصب قبلي أو عائلي أو ديني أو قومي أو طائفي أو مذهبي أو سياسي، وكل تزوير وتضليل في كل الميادين الحياتية وكل نقد تجريبي غير موضوعي، وكل رفض للحوار والتعاون والتنسيق والتوحيد وكل استهتار بالأخلاق والحريات والقوانين، الخادمة للإنسان)(1) .

وعلى أية حال، ولأغراض هذه الحلقة يمكننا تصنيف مفهوم (القمع) إلى نوعين رئيسيين غالبا"ما يرتبطان ببعضهما ويكملان أحدهما الآخر؛ الأول مادي مباشر يستهدف الإضرار بالكيان الجسدي للضحية (أفراد وجماعات)، في حين إن الثاني معنوي غير مباشر يروم إلحاق الأذى بالكيان النفسي لذات الضحية . بحيث انه في اللحظة التي يقع عليها فعل الأول (الجسدي)، لا تلبث أن تعاني من أعراض الثاني (النفسي) . وبقدر ما يكون زخم الأول شديد الوطأة على كيان الضحية، بقدر ما يكون الثاني عميق التأثير في نفسيتها وطويل المدى في وعيها . أي بمعنى انه كلما ارتفعت وتيرة (القمع) في مضمار العلاقات الاجتماعية والسياسية، كلما ازدادت معدلات التأزم في مضمار تطور الإدراك ونضوج الوعي وتوازن الشخصية.

والجدير بالملاحظة انه إذا كان القمع (المادي) غالبا"ما يقترن بالقمع (النفسي) ويفضي إليه، فان هذا الأخير لا يستلزم بالضرورة حصول اقتران بينه وبين الأول في جميع المواقف والحالات . بمعنى آخر، انه قلما يترك القمع النفسي أثرا"ملحوظا"على جسد الضحية ليدلل على تعرضها للأذى والألم، اللهم إلاّ في بعض الحالات التي يكون فيها القمع النفسي شديد الوطأة ومستمر التأثير، بحيث تنجم عنه أمراض عضوية مستديمة نتيجة للضغوط المسلطة على الضحية . لاسيما حين يتم الإفراط بالقساوة والتمادي بالفظاظة من جانب الجماعة الغالبة أو السلطة المسيطرة، الأمر الذي يترك آثاره مخفية بصيغة جروح وشروخ نفسية غائرة تكون في العادة صعبة الاندمال وعصية على النسيان .

ولعل مظاهر (القمع) تبدو أكثر انتشارا"وأشدّ وضوحا"في الحالات التي تتفاقم خلالها الاضطرابات السياسية والتوترات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية، على العكس من الحالات الأخرى التي يشهد خلالها المجتمع نوعا"من الاستقرار والتوافق والانسجام . وكما هو معروف ومألوف، فان ظواهر اجتماعية معينة من مثل؛ (الحروب) الخارجية و(الصراعات) الداخلية) هي من أشد العوامل استدعاءا"وتحفيزا"لاستشراء مظاهر (القمع) في المجتمع، على خلفية استنفار (الدولة) لكل أجهزتها الأمنية وجميع مؤسساتها الضبطية، التي تعتقد أنها تحول دون انفلات العقد الاجتماعي بما يؤدي إلى شيوع الفوضى وحصول الاضطراب من جهة، وبما يضمن أمن سلطة الدولة وسلامة وحدة المجتمع من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يضطر هذا الأخير للعيش تحت وطأة الظروف الاستثنائية والأحكام العرفية، حيث يكون لمظاهر (القمع) و(الردع) القول الفصل في مثل هذه الحالات الطارئة والاستثنائية .

***

ثامر عباس

...............

الهوامش

1. نجاح محمد؛ العقل العربي والقمع، بحث منشور ضمن مجلة المعرفة، السنة 33، العدد 366 (آذار / مارس 1994)، ص46 – 50 .

 

في المثقف اليوم