قضايا

النّباهة والاستحمار من الثّورة إلى الإحياء

إذا ذكر "النّباهة والاستحمار" ينصرف الذّهن مباشرة إلى المفكر الإيرانيّ عليّ شريعتي [ت 1977م]، وحول كتابه "النّباهة والاستحمار"، وكنتُ قبل أيام في لقاء مع مجموعة قيم، وكان الحديث حول نهضة الأمم من خلال هذا الكتاب، ومن يقرأه في ظرفيّته يجد البعد الثّوريّ حاضرا فيه، فهو يبدو لمن يقرأه – مع أهميّته – إلا أنّ أفكاره متناثرة، وليست متحدة، وبعضها يحتاج إلى شيء من التّفصيل، إلا أنّ الّذي يغفر له أنّ هذا الكتاب عبارة عن خطب في جمعيّة أو حسينيّة الإرشاد بطهران، وهي ذات الجمعيّة الّتي كان يشاركه فيها مرتضى مطهريّ [ت 1979م]، وقد طبع الكتاب بعد وفاة شريعتيّ عام 1984م.

الأمر الثّاني لمن يقرأ الكتاب يجد النّهضة في بعدها الثّوريّ، وذلك للحالة الظّرفيّة الّتي يعيشها المجتمع الإيرانيّ آنذاك ما قبل الثّورة أي في أيام الشّاه الابن، والسّؤال المفتوح دائما لماذا الحديث عن نهضة الأمّة، وهل النّهضة مرتبطة دائما بالثّورة، ولمّا نتحدّث عن مصطلح الأمّة فقد يراد بها المعنى العرقيّ، كالأمّة العربيّة أو الفارسيّة أو التّركيّة، وقد يراد بها المعنى القطريّ، وقد يراد بها المعنى الدّينيّ كالأمّة الإسلاميّة، ولكن قد تستخدم اليوم بمعنى أمّة الإنسان.

ولا شك أنّ هذا السّؤال طرح في بدايات القرن التّاسع عشر الميلاديّ، مع بعثات وإصلاحات محمّد عليّ باشا [ت 1849م] في مصر، إلا أنّه ظلّ ملازما للعقل العربيّ والإسلاميّ إلى اليوم، كما سبق طرحه في أوروبا في عصر الأنوار، ولأنّ المراحل والظّرفيّات تختلف؛ لهذا سنجد اختلافا أيضا في الجواب عن هذه المراحل والظّرفيّات، حيث أفاق المجتمع العربيّ والإسلاميّ في بدايات القرن التّاسع عشر الميلاديّ على حضارة وعالم تقدّمهم معرفيّا وفلسفيّا وصناعيّا، في حين العقل العربيّ والإسلاميّ حينها غارق في ماضيّته، لم يتجاوز نتاج القرون الوسطى، فانبهر بالحضارة الأروبيّة، لكنّه لم يلبث حينا من الدّهر إلا ووجد ذاته في فراغ شموليّ بعد سقوط الدّولة العثمانيّة، وتفرق أقطاره على دول إستعماريّة، تقدّمته حضاريّا وصناعيّا، لكنّها لم تتعامل معه من ذات الإحياء، بقدر ما سخرت قوّتها وأسلحتها في أكل خيراته، ونهب مقدراته، ليعيش في ثالوث الجهل والمرض والفقر، ومع بدايات الاستقلال، والنّهوض العربيّ والإسلاميّ عموما، فقد وحدهم الاستعمار، وجعلهم أمّة واحدة، ليجد العديد منهم في الاشتراكيّة بمفهومها الثّوريّ والاستقلاليّ خير بديل على الاستعمار الغربيّ، وما إن بدأت الدّول استقلالها إلا وتحوّلت الاشتراكيّة إلى إلحاد وكفر، ليبدأ البديل الإسلاميّ، ودخول مرحلة الصّحوة، فيحدث الانشطار الآخر المتمثل في الطّائفيّة وإحياء الخلافات الكلاميّة، والتّشبث بالشّكليات على الجوهريّات، لينهض العالم العربيّ والإسلاميّ اليوم على عالم ما بعد "الفيديو والكاسيت" أي عالم الفضائيّات والشّبكات العالميّة، في نزعة فرديّة واستقلاليّة، واستلهام ما بقي من الحداثة، في عالم يعيش فيما بعد الحداثة، ليدخل عالما جديدا بقرن جديد – أي القرن الحادي والعشرين -، في تشكلات هويّاتيّة وفكريّة، ذات نزعة فرديّة ذاتيّة ووجوديّة.

جميع هذه المراحل حاول أن يكتب فيها العقل العربيّ والإسلاميّ، محاولا الإجابة عن سؤال النّهضة، بدءا من عبد الرّحمن الكواكبيّ [ت 1902م] وكتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" حيث رأى أنّ النّهضة تبدأ من القضاء على الاستبداد المتمثل في استبداد الفرد المطلق أو الحكومة المطلقة، ليفقد المجتمع طاقات أكثر خبرة ونفعا، ثمّ يأتي بعده شكيب أرسلان [ت 1946م]، ليجيب على أسئلة أهل جاوة بأندونيسيا، حيث أرسلوا إليه أسئلة عن طريق محمّد رشيد رضا [ت 1935م] في مجلّة المنار، ومدار أسئلتهم: "لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم؟" ليكون عنوان كتاب يرى فيه أرسلان من أسباب تخلّف المسلمين هو الجهل، وعدم مواكبة نهضة الأمم، ثمّ يأتي بعدهم مالك بن نبيّ [ت 1973م] ويضع كتابا صريحا بعنوان "شروط النّهضة"، وكتبه بالفرنسيّة عام 1948م، فكان أوسع هذه الكتب تأصيلا وشموليّة في الإنسان والثّقافة والفنون والوقت والأخلاق والاستعمار، مع وجود كتابات أخرى لها متعلّقات جانبيّة أو تجيب عن السّؤال ذاته.

في هذه المرحلة قدّم عليّ شريعتي أجوبته أيضا حول سؤال النّهضة، وقد عاش في فرنسا، وخبر الثّقافة الغربيّة بحسناتها وسيئاتها، ليشتغل على الوعي، والعودة إلى الذّات ليس بالمعنى الفلسفيّ المحض، وإنّما بالمعنى الشّموليّ والنّهضويّ، لهذا انتقد المثقف والفكر الدّينيّ والتّشيّع الصّفويّ.

ويرى شريعتي أنّ النّباهة هي الوعي وحضور الذّات، كانت النّباهة ذاتيّة، أم اجتماعيّة، أم سياسيّة ليس بالمعنى الأفلاطونيّ، أم كانت عصريّة واعية بالزّمن ونهضة الأمم، إلا أنّ المؤثر الأكبر هي النّباهة الذّاتيّة والاجتماعيّة، لهذا النّباهة مدارها الذّات، فعلينا كشف الذّات، وأن يكون تعاملنا مع الآخر من خلال الذّات نفسها، فنباهة الذّات يعلوها نباهة الفكر، وهذا يعلوه نباهة الوجود، وعدم نباهة الذّات يعني أن نكون مستهلكين للآخر وعيا وثقافة وإنتاجا، لهذا لا يمكن أن نفهم الحضارة والحريّة والآدميّة والخطيئة بعيدا عن إدراك الذّات، وإدراك الذّات يربطنا بالنّباهة الاجتماعيّة، حتّى لا نكون عبيدا وأسرى لآخرين فكريّا وعمليّا.

فعدم الوعي وحضور الذّات ينقلنا – كما يرى شريعتي – من النّباهة إلى الاستحمار، والاستحمار إنحراف الإنسان وعيا وشعورا عن النّباهة الذّاتيّة والاجتماعيّة، وقد يكون الاستحمار من مخلّفات الماضي، وقد يكون منتجا عصريّا جديدا، وقد يكون مباشرا كالإكراه المباشر على الجهل وتقبل الواقع، أو غير مباشر عن طريق إشغاله بالتّوافه.

وقد يكون الاستحمار باسم الدّين، وهو الغالب في واقعنا الإنسانيّ عموما، وفي عالمنا الإسلاميّ خصوصا، ويفهم من كلام شريعتي أنّ الاستحمار عن طريق الدّين يتمثل في ثلاثة جوانب: الأول التّحريف، أي تحريق قيم الدّين الدّاعية إلى النّباهة إمّا بسبب التّأويل لأغراض سياسيّة، أم دينيّة مصلحيّة، أم اجتماعيّة نفعيّة، وإمّا بسبب إضافة نصوص روائيّة وتأريخيّة تحرّف هذه القيم، أو لأسباب تأريخيّة سياسيّة نراها مقياسا للدّين ذاته، والجانب الثّاني سببه الاغتراب، حيث نعيش مع النّص لا من خلال قيمه الرّامية إلى النّباهة، بل من خلال الصّراعات الكلاميّة والنّفعيّة الذّاتيّة والسّياسيّة حول قيم النّصّ، بمعنى إبعاد النّصّ عن الإنسان وثقافة الإحياء الّتي يراها شريعتي في الثّورة، والجانب الثّالث الإرجاء، فعدد سبحات الصّباح أو المساء تغفر للإنسان ظلمه للآخر، أو تجعله مغتربا عن واقعه وعالمه.

ومن الاستحمار عند شريعتي الزّهد الّذي به يتخلى المرء عن حقوقه الإنسانيّة، كعمليّة تسكين يقابله الشّكر والقناعة المزيفة، ليماثل أيضا باغترابات ثلاث كوسائل للاستحمار، أولهما عبادة الماضي أو التّراث، ليكون أساسا في ترويض الاستحمار وتقبّله، والثّاني الأدب والشّعر، ليكون أداة غائيّة للاستحمار، والثّالث إشغاله بالعرق أو القوميّة وخصوصيّاتها المؤديّة إلى الاستحمار.

ويذكر شريعتي في آخر الكتاب نماذج للاستحمار الحديث، ومنه مثلا التّخصّص والعلم لأجل العلم، أي ينفصل الإنسان عن واقعه، والرّقيّ بذاته ومجتمعه، كما قد يفهم الحضارة عن طريق التّسكين المادي، فتكون غايته ما يملكه من قصر وسيارة فارهة، وماديّات شكليّة، ليكون دائما في موضع التّقليد لا الإنتاج، كما يشغل بحريّاته الفرديّة والجنسيّة وقضيّة المرأة عن المجتمع ونهضته، ولا يعني أنّ شريعتي ضدّ هذا، ولكن يتحقّق ذلك عن طريق النّباهة لا الاستحمار.

هذا المدار العام لكتاب "النّباهة والاستحمار" لابدّ أن يقرأ بتأمل، كما لابدّ أن يقرأ بحذر من خلال تراث شريعتي ذاته، ومن خلال المرحلة الّتي يعيشها، والظّرفيّة الّتي يحملها، فالّذي يقرأ الكتاب في جوّه المطلق من جهة، ومن خلال حرفيّته من جهة ثانية؛ يجعله يعيش في تناقضات ثلاثة: الحضارة والمؤامرة والثّورة، وأمّا الحضارة فكثيرا ما يوجد خلط في الكتاب بين الحضارة والثّقافة، ومع أنّ نشأة شريعتي العلميّة كانت فرنسيّة، ولكن قد يكون الخلط بسبب تدوين الخُطَب من الشّفويّ إلى المكتوب، أو بسبب التّرجمة، فيتصوّر بعضهم سوءات الحضارة الغربيّة بالجملة، في حين أنّ أكبر المشاكل الّتي نعانيها في الثّقافة وليس الحضارة، لهذا عدم التّفريق بينهما يفهم من غالب الكتاب شيوع نظريّة المؤامرة، وكأنّ الغرب لا يهمه إلا إسقاطنا وتخلّفنا، في حين أن أكبر أسباب ذلك هو ذاتنا، واستحمارنا لذواتنا وواقعنا، وعليه ندرك عموم مفهوم الثّورة، وهي الثّورة المنطلقة من الذّات والمجتمع، أي الثّورة على الجهل والمرض والفقر والتّخلف والعيش في الماضي، مع التّقليد لثقافة الآخر وعدم الانتاج والظّلم الاجتماعيّ والسّياسيّ، أي الثّورة المنطلقة من الوعي والذّات، وليس بالمعنى الكلاسيكيّ، فإذا لم نثر على ذواتنا بالوعي، وعلى مجتمعنا بالعدالة والحضارة والعلم والانتاج وعدم الاستبداد؛ فلا معنى لأي ثورة أخرى، إلا ما سيجنيه المجتمع من دمار وخراب، ومصداق هذا قوله تعالى:  {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد: 11].

ونحن في بدايات العشر الثّالثة من القرن الحادي والعشرين لا زال سؤال: ما النّهضة باقيا، وسيضل كذلك، إلا أننا اليوم أمام تحدّيات تجاوزت تحدّيات القرن العشرين، وأمام قراءات واغترابات ونظريّات أعمق بكثير، فأصبحنا نشترك مع العالم في حضارته الإنسانيّة الواحدة، وفي قراءاته الفلسفيّة والحداثويّة، وأصبحت أجيالنا تقرأ وتكتب وتنتج وتخترع، إلا أنّه لا زالت العديد من أجزاء هذه الأمّة ينتشلها الفقر والحروب والطّائفيّة والصّراع السّياسيّ والاغتراب الماضويّ، فهل فكرنا في نباهة الإحياء حتّى لا نعيش أبدا وهم الاستحمار والمؤامرة؟!!

***

محبّكم بدر العبريّ

مسقط/ عمان

في المثقف اليوم