قضايا

سمير أمين.. ماركس بنكهة عربية

عندما فتح جيلنا عينيه على قراءة الفلسفة، ومن ثمة على الاقتصاد والسياسة والأدب، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان كارل ماركس أشبه بملك متوج، لايمكن أن يُدانيه أحد، في تلك السنوات سأٌقف مثل كثير من الشباب عند الكتب التي كانت دور النشر اللبنانية تصدرها، والتي تخصصت في تقديم الفكر الماركسي والتجارب الاشتراكية، وسأتعرف على أسماء أسمع بها للمرة الاولى، الياس مرقص، أنطوان حمصي، إلياس شاهين، فواز طرابلسي، محمد مستجير مصطفى، راشد البراري، محمد عيتاني، وأعلام كبيرة كانت تكتب في هذا المجال أبرزهم في مجال الأدب والفلسفة محمود أمين العالم وحسين مروة.

ولو كان لي ان احاكي سلامة موسى واكتب بدوري " هؤلاء علموني " لكان علي ان اعترف بان محمد عيتاني هو الذي دلني على الماركسية للمرة الاولى عندما حصلت على كتاب " هذه هي الماركسية " تاليف هنري لوفيفر وترجمة محمد عيتاني الذي كان واحدا من اعلام الثقافة العربية اليسارية، ترجم كتاب راس المال لماركس، وكتاب هنري لوفيفر عن كارل ماركس، وكتاب ماركس عن المسالة اليهودية، وفي الوقت نفسه ترجم ازهار الشر لبودلير، وترجم لجورج امادو، وكارلوس فوينتس، ونيرودا وبريخت وميشيما اضافة الى سلسلة هذه هي، ومنها هذه هي الراسمالية، وهذه هي الوجودية، وهذه هي الاشتراكية.هذه هي القومية، ما هي المادية، هذه هي الفوضوية، هذه هي اليالكتيكية. ولازلت احتفظ بالطبعات الاولى من هذه السلسلة.وكتب القصة والرواية. والمثير ان عيتاني بدأ وجوديا نشر عددا من المقالات عن الوجودية في مجلة الاديب اللبنانية ثم تحول الى الماركسية، بعدها انتمى الى الحزب الشيوعي اللبناني وعمل في مجلى الطريق التي كان يراس تحريرها المفكر حسين مروة، وللاسف الكثير من ابناء الجيل الجديد قد يبدو محمد عيتاني مجهولا لهم، اخذ محمد عيتاني بيدي ليدخلني دروب الماركسية التي كانت آنذاك وعرة بالنسبة لي. وقد كنت وانا اقرأ ترجمات عيتاني اصبوا الى اليوم الذي استطيع فيه ان اتحدث عن الماركسية.. بعد عيتاني عثرت على سمير امين الذي جمع بين الاقتصاد والفلسفة، وظلت كتبه ترافقني منذ أن عثرت على كتابه الصادر عن دار الطليعة " التطور اللامتكافئ.. دراسة في إشكاليات الرأسمالية "، لتبدأ رحلتي معه حتى كتابه الاخير الذي صدر قبل رحيله باشهر – توفي في 12 اب عام 2018 -، فيما صدر كتابه الاخير " مئتا عام على ميلاد كارل ماركس في حزيران عام 2018. ورغم تقلبات الزمن وانهيار المعسكر الاشتراكي والتحوّل الذي حصل في الأحزاب الشيوعية، إلا أن سميرأمين لم يغير بوصلته، فهو ماركسي من طراز نادر، يرفض أن تستبدل الشعوب أحلامها بالعدالة الاجتماعية بالحلم الأميركي، وسيكتب ساخراً من فرنسيس فوكوياما صاحب مقولة "نهاية التاريخ": البعض يتحدث بسذاجة تبعث على الدهشة عن نهاية التاريخ، كما في حالة فوكوياما الذي يرى إن الديمقراطية الغربية الليبرالية هي الشكل النهائي لنظام الحكم،أي كذب الإدعاء بأبدية الرأسمالية ".استقرّ في باريس قبل أكثر من نصف قرن، لكنه بقي كاتباً مهموماً بقضايا العرب والعالم الثالث وأفريقيا. في آخر كتبه يقدم التحية لماركس الذي عاش معه كما يقول أربع حيوات متواصلة، في العشرين من عمره كانت المرّة الأولى التي يقرأ بها كتاب رأس المال بحذر ومعه البيان الشيوعي، وبعد عشرة أعوام سيعود لقراءة كتب ماركس ولكن هذه المرّة وهو يؤمن بان الأشتراكية هي الحل الأفضل لمشاكل البلدان النامية، ثم يعود إليه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومطالبة البعض بان نتخلص من إرث ماركس رافعين شعار " إكرام الميت دفنه "، يكتب في "إمبراطورية الفوضى" الصادر عام 1991 عن حقبة جديدة تريد الرأسمالية تشكيلها، من شأنها أن تسفر عن عدم مساواة كبيرة، وتقليص العمالة، وتدمير الزراعة، ويحذر من مخاطر الدين السياسي الذي تريد أمريكا فرضه كنظام يؤمن بالليبرالية، ويطالب بالعودة الى ماركس، ولكن ليس ماركس الذي شوهته الأحزاب الشيوعية، وإنما ماركس الذي سيظل مفتاحاً لفهم ما يجري في العالم:" ماركس ليس نبياً أو عالماً للغيب، ولا العبقري الذي كتب رأس المال، ولكن ببساطة الرجل الوحيد الذي حللّ بجدبة الرأسمالية ومفاهيمها، لم يكن ماركس اقتصادياً فقط، ولا فيلسوفاً أو عالم اجتماع، ولكنه كان كل هذه الاشياء في نفس الوقت"، وسيعود إلى ماركس مرّة رابعة، ليكتب عام 2013 كتابه " انحلال الرأسمالية المعاصرة"، حيث سيصبح واضحاً لديه أن الرأسمالية الجديدة أصبحت مثل مصاص الدماء.

الصبي المولود في الثالث من ايلول عام 1931، في مدينة بور سعيد المصرية، لأب مصري وأم فرنسية وكان كلاهما طبيباً، قضى طفولته وسط جو عائلي يتحدث أفراده بالعدالة الأجتماعية وحقوق البسطاء، ويروي سمير أمين في مذكراته إنه وهو صبي كان يسير مع أمه في احد الأحياء الشعبية، فرأيا طفلاً فقيراً يبحث في صندوق للقمامة عن شيء يأكله، فلما سأل سمير أمه لمذا يفعل الطفل ذلك؟، قالت له الأمّ: لأن المجتمع سيئ ويفرض ذلك على الفقراء، فكانت أجابته: عندما أكبر سوف أغير هذا المجتمع.

ولعل نشأت سمير أمين هذه يمكن لها أن تلقي الضوء على الإتجاه الذي التزم به فيما بعد وأعني الماركسية، وميله الدائم الى النظرة الاشتراكية في تحليل الواقع. في المدرسة الثانوية كان زملاؤه يصغون إليه وهو يحدثهم عن لينين وماو والحركات الثورية.. لم يتعد التاسعة عشر من عمره حين قرر أن يصبح شيوعياً،:" لقد أعتبرت نفسي شيوعياً بالفعل في المدرسة الثانوية. ربما لم نكن نعرف بالضبط ما الذي تعنيه، لكننا كنا نعلم أنه يعني شيئاً واحداً مهماً: إنه يعني المساواة بين البشر وبين الأمم ". في باريس التي وصل إليها لدراسة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، ينتمي الى الحزب الشيوعي الفرنسي، عام 1957 يتخرج من السوربون ليعود الى القاهرة يعمل استشاريا في مراكز التخطيط، لكنه يضطر من جديد الى الهجرة، ففي نهاية الخمسينيات بدأت السلطات المصرية حملة شرسة في تعقب الشيوعيين وإيداعهم السجون، ولم ينجُ سمير أمين من السجن إلا بإعجوبة، اذ تصادف كما يروي في مذكراته أن ضابط الشرطة المكلف بإلقاء القبض عليه واسمه طه ربيع: "كانت له ابنة أنقذتها أمي من الموت، وكان يشعر بأن عليه رد الجميل، فوضع أمر الإعتقال في درج مكتبه وأغلقه بالمفتاح، وقال لي أن لديه عملاً طويلاً، وانه سيعود لمكتبه في المساء لفحص البريد، وفهمت المقصود".

وبناءً على نصيحة الضابط، أتفق والد سميرمع قبطان أحد سفن البضائع ليأخذ ابنه معه، وكانت النتيجة أن قضى سمير أمين أكثر من عشرين عاماً لايستطيع فيها أن يطأ بقدمه أرض مصر.

في تلك المرحلة أيضاً ستبدأ حركات التحرر الأفريقي في الظهور، فيقرر سميرأمين أن يذهب الى مالي ومن بعدها الى السنغال وغينيا وغانا، من هناك سيكتب عن التجربة التي مر بها في محاولة وضع أجندة لتنمية بعض الدول الافريقية، وكان أول كتاب لسمير أمين والذي نشر في منتصف الستينيات، يتعلق بتجربة التنمية التي قامت بها مالي وغينيا وغانا.

في كتابه الأكثر أهمية، "التراكم على الصعيد العالمي " صدرت ترجمته العربية عام 1973، والذي دفعه إلى الصفوف الأمامية بين علماء الاقتصاد في العصر الحديث يبين لنا أمين كيف تدفقت الموارد من بلدان المحيط – البلدان النامية - لإثراء بلدان النواة – أميركا والغرب - من خلال عملية أطلق عليها "الإيجار الإمبريالي".، لنجده يكتب بعد ذلك كتاباً بعنوان "فك الارتباط: نحو عالم متعدد المراكز" يدعو فيه إلى فك ارتباط بلدان الأطراف من دول المركز.

يرى أمين العالم مقسماً إلى "المركز أو النواة " و "الأطراف". وإن دور الأطراف، هو تزويد المراكز - تحديداً ثالوث أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان - بوسائل التطوير دون القدرة على تطوير نفسها.. ويرى إن الرأسمالية العالمية، تحافظ على حكمها من خلال خمسة احتكارات - السيطرة على التكنولوجيا، والوصول إلى الموارد الطبيعية، والتمويل، ووسائل الإعلام العالمية، واسلحة الدمار الشامل.

كان سمير أمين يقف بالضد من المناهج الاقتصادية الليبرالية التي تطبق في الدول النامية والتي يرى إنها دمرت هذه البلدان، وسلمتها فريسة ليد مؤسسات المال العالمية والبنوك الدولية، لتعيث فيها خراباً وتكرس تبعيتها وخضوعها لمنظومة الرأسمالية المتأخرة،، وقد اعتبر تخلّف البلدان النامية نتاج ارتباطها الشديد بتلك المنظومة الرأسمالية وتحولها مجرّد جرم تابع. ولهذا كان في معظم كتاباته يطرح فكرة فك الارتباط مع المركز- الغرب - واقامة اقتصاديات مستقلة تقوم على مساعدة القطاع العام في بناء اقتصاد محلي منتج يكفل رفع مستوى المعيشة بين السواد الأغلب من المواطنيين، والتحكم بحركة رأس المال في مواجهة المؤسسات الماليّة العالميّة، وبناء أسواق ماليّة وتجاريّة مشتركة بين دول – الاطراف - دون الحاجة للمرور عبر الغرب.

ومن جانب آخر سخر سمير أمين من التكلس الفكري كما كان يسميه والذي أصاب الماركسية الغربية، وقد وصف نفسه بأنه ماركسي حيوي، يبدأ من ماركس لكنه لا ينتهي عنده أو عند لينين أو ماو تسي تونغ، بل هو يأخذ من أدواتهم النقديّة زاداً يبني منه تصوراً محدّثاً للعالم.

أصرّ سمير أمين طول حياته أن يثير الجدل حوله، وفي كل كتاب من كتبه التي اقتربت من الخمسين كتاباً، كان يحاول أن يستعيد ذلك الصبي الذي قال لأمه: "سوف أُغير هذا العالم "، ولكن هل استطاع هذا المفكر الاقتصادي أن يذهب بنا نحن أبناء بلدان الشرق الاوسط إلى التغيير؟ ربما نجد نقاطاً مضيئة ونحن نسترجع حياة وأعمال سمير أمين الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته ينبهنا الى أن بلداننا لا تزال تعيش التبعية للمركز – الغرب واميركا – وإن انظمتها السياسية تعيش أزمة مستمرة بسبب تناقض قراراتها مع مصالح شعوبها، وإن هذه الانظمة تحمي فئة اجتماعية مرتبطة بالرأسمالية العالمية، وبالتالي تعيد إنتاج التبعية بقوة أجهزة الدولة.

أثناء صعود الإسلام السياسي في عدد من البلدان العربية كتب سمير أمين محذراً:" يهدف الإسلام السياسي الى إقامة انظمة رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طراز المماليك، اي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان، ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق أي قانون بادعاء انها لاتعترف إلا بالشريعة، وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل باسم الواقعية أن تندمج في وضع متدن، في العولمة الراسمالية لعالم اليوم، لايمكن إلا أن يربط بينها وبين تلك الأنظمة المملوكية، وينطبق نفس التقييم على نظيرتها من الأنظمة المُدعى بإسلاميتها والتي ظهرت مؤخراً ".

في "مئتا عام على ميلاد كارل ماركس " يعيد سمير امين حكايته مع ماركس الذي يقول عنه " هل كان ساحرا استطاع قراءة الطالع؟ كلا. لم يكن إلا مفكرا أدرك جوهر طابع الراسمالية الناشئة بصورة ادق واشمل من أي مفكر آخر ".

واعود انا لأطرح هذا السؤال ايضا: هل كان ماركس ساحرا استطاع ان يسيطر على ثورات القرن العشرين؟ او كما وصفه جان بول سارتر بانه فيلسوف القرن العشرين. في المقدمة التي كتبها محمد عيتاني لكتاب هذه هي الماركسية نقرأ: عرف ماركس كيف يحطم القيود والسدود، ويحرر المذاهب العلمية من قيودها ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم