قضايا

أخلاقيات الصحة الرقمية في ندوة فلسفية.. وسؤال عن عودة الخرافة والسحر والشعوذة؟

البارحة حرصت على حضور الندوة المكرس عن  (أخلاقيات الصحة الرقمية) محاضرة قدمها الأستاذ الدكتور بهاء درويش، استاذ الفلسفة بكلية الآداب، جامعة المنيا وعضو لجنة أخلاقيات البيولوجياiBc اليونسكو باريس. ندوة  نضمها المجمع الفلسفي العربي، وادارها الدكتور إحسان الحيدري، أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد ورئيس المجمع الفلسفي العربي. كانت ندوة افتراضية عبر الزوم حضرها عدد واسع من الأكاديميين والأكاديميات والمهتمين العرب من مختلف الأقطار. عرض فيها الدكتور بهاء درويش خلاصة ما بلغته الثورة الطبية واخلاقياتها الرقمية من منظور فلسفة الأخلاق التطبيقية الذي طالما وقد شغلته منذ مدة طويلة واصدر فيها عدد من الكتب التخصصية.

قدم المحاضر ببليوجرافيا وصفية زاخرة بالمعلومات الدقيقة عن التقدم الرقمي في المجال الطبي في الكثير من البلدان الغربية والشرقية من الولايات المتحدة الامريكية شمالا إلى الصين واليابان شرقا وما بينهما. ولما كنت مهتما في التحولات المعاصرة بهندسة الجسد والصحة الاجتماعية وتحول السلطة بين الطبيب والمريض بحسب اولفين توفلر في كتابه تحول (السلطة؛ بين العنف والثروة والمعرفة) فقد حفزتني المحاضرة للتأمل في الأسس الفلسفية العميقة في خطاب الصحة الاجتماعية. إذ شهد المجال الصحي اهتماما منقطع النظير، لا سيما منذ منتصف القرن العشرين بما جعلنا نتوافر اليوم على خطاب غني بالدوال والدلالات وبالفاعلين والأفعال والقوى والعلاقات والمؤسسات والممارسات (الصحة والمجتمع، الصحة العامة،الصحة والمرض، الوقاية والعلاج الصحي، الوعي الصحي، الثقافة الصحية، الحياة الصحية، صحة المرأة، الصحة الإنجابية، صحة الطفل، التغذية الصحية، الصحة المدرسية، صحة العائلة، السياسة الصحية، التأمين الصحي، الاقتصاد  الصحي، الإدارة الصحية، العلوم الطبية، الطب الشعبي، الطب البديل، الطب الحديث، حقوق الإنسان الصحية، علم اجتماع الصحة، الديمغرافيا الصحية، الصحة الرقمية، أخلاقيات الطب الرقمي، السكان والصحة، علم اجتماع الجسد، علم الأوبئة، فلسفة الصحة، علم النفس الصحي، الانثروبولوجيا الصحية، علم التربية الصحية، الصحة المدرسية، الخدمة الاجتماعية الصحية، سوسيولوجيا المؤسسة الطبية، علم الاجتماع الطبي، علم اجتماع الجريمة، علم اجتماع الإدمان، والانحراف.  فضلا عن مجالات التطبيب والعلاج والأدوية والأدوات والأجهزة والتشريعات الصحية والمؤسسات الرسمية و المدنية (منظمة الصحة العالمية، والهلال الأحمر، وأطباء بلا حدود، ووزارات الصحة، والنقابات الصحية، والإعلام الصحي المكتوب والمسموع والمرئي .. الخ)على هذا النحو أضحت الصحة وخطابها تتخلل مختلف مجالات حياة الإنسان المعاصرة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والأخلاقية والجمالية والدينية..الخ)  فعلى الصعيد الإبستيمولوجي غدت الصحة ومشكلاتها لأول مرة في تاريخها موضوعاً للعدد واسع من العلوم الاجتماعية والإنسانية ولم تعد حكرا على العلوم الطبية كما كانت في الماضي. وهكذا بدأ الأمر وكأننا بإزاء اكتشاف جديد للكائن الإنساني وحياته وصحته بوصفه كائنا جديرا بالحياة الصحية الطيبة كحق من حقوقه الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية. والسؤال هو: كيف يمكن فهم وتفسير هذا التحول الثوري في خطاب الصحة الاجتماعية والطب المعاصر؟ وما هي الأسس الثقافية التي مهدت السبيل لنموه وتبلوره وازدهاره في الحضارة الحديثة والمعاصرة؟ وما معايير قياس صحة الفرد والمجتمع؟ وكيف هو حال صحة مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم؟

في الواقع لم تكن التحولات الجذرية في خطاب الصحة الفردية والاجتماعية الا حصيلة متغيرات ثقافية وتاريخية عميقة شهدتها الحضارة الحديثة منذ عصر النهضة الأوروبية في النظر إلى الإنسان وجسده وكرامته وحقوقه وذلك انطلاقا من قانون الحياة الجوهري (الحفاظ على البقاء ومقامة الفناء) حلم الإنسان منذ اقدم العصور بالعثور على وصفة سحرية للخلود وديمومة الشباب والصحة والعافية  والقوة فيما عرف ب (أكسير الحياة) أو حجر الفلاسفة، وهذا ما حملته لنا اقدم اساطير حضارات بلاد الرافدين وحضارة مصر القديمة. ورغم التاريخ الطويل لحياة الإنسان على كوكب الارض وصراعه مع الأوبة والإمراض والموت المبكر إلا انه ظل يجهل الاسباب المحتملة للصحة والمرض وتكشف الأنثروبولوجيا التقليدية إن التوقف من أجل تعيين الكائن الإنساني في ماهيته قد أنساها مسألة كينونته إذ اعتبرت هذه الكينونة بمثابة تحصيل حاصل؛ فالإنسان وفقاً للتصور التقليدي ينقسم في كينونته الى شطرين لا يلتقيان (روح وجسد) جسد ينتمي إلى (عالم ما تحت فلك القمر)، عالم  دنيوي حسي زائل يعتريه الكون والفساد، وروح، أو نفس أو عقل، ينتمي إلى (عالم ما فوق فلك القمر) عالم متعالى الهي أزلي خالد ثابت لا يعتريه التغيير والكون والفساد، هذا (الباراديم ) أو التصور اللاهوتي الميتافيزيقي الكلي للإنسان المشطور، هو الذي ساد الفكر ما قبل الحديث إذ "اعتبر الجسد في مختلف التصورات الميتافيزيقية موطنًا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة، لهذا تمت معاملته باحتقار كبير وتم السعي فيما بعد إلى ستر عيوبه، ولازال الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات المجتمعية" ولما كانت الروح ذات طبيعة غير حسية وغير متاح مشاهدتها واختبارها في الواقع ظلت مثار دهشة الانسان وحيرته وحظيت  باهتمام العلوم والأديان والفلسفات، في حين أن الجسد لم يحظ إلا بالقليل القليل من الاهتمام والقيمة والأهمية "إذا لم يكن في الإمكان التعرف على شيء بصورة واضحة فلن يحدث آنذاك إلا أحد أمرين: إما ألا نصل أبدا إلى المعرفة، وإما إلا نصل إليها إلا بعد الموت" وهنا تتجلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات الثقافية التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك أو " هابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، يقول عالم النفس التربوي الأمريكي " أرثر كوفر" في كتابه " خرافات في التربية" "يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون..وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا  كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتعرقل صيرورته ، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر"3، ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره،  فحينما اعتقدت الحضارات القديمة ان الروح أو العقل هي الجوهر الخالد في الإنسان الذي يبقى بعد موت الجسد الفاني الفاسد الملوث بالآثم والخطيئة والرغبة والشهوة والطمع كان من شأن هذا الاعتقاد؛ أن عمق الهوة بين الإنسان وجسده، بين روح الإنسان وجسمه، فحينما اعتقد الصينيون القداماء أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة، اليانج يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والروح والحياة، والـيين يرمز إلى الأنوثة العنصر الحسي،الأرضي السلبي المنفعل، عنصر الظلمة والبرودة والعجز والموت،  وحينما اعتقد قدماء الهنود أن الجسد وشهواته الحسية هو مصدر كل الالام والخطايا ازدهرت لديهم ثقافة (النيرفانا) البوذية الجاينية، بمعنى بلوغ الروح اقصى حالات الصحة والسعادة بعد انطفاء الرغبات الجسدية. وحينما اعتقد اهل اليونان أن العقل يحكم الكون وانه من عالم المُثل، وان الرجل هو الكائن العاقل الوحيد وان المرأة كائنا حسيا غير عاقل لم يكتفوا بترير النظرة الدونية للمرأة والعبيد وكل ما يتصل بالجسدية العضوية بل ذهبوا إلى تأسيس منظومة فلسفية ثقافية متكاملة لشرعنة هذا الاعتقاد والنظر اليه بوصفه حقيقة بديهية ومسلمة طبيعية لا تحتمل الشك والتساؤل، ومن هذه الاسطورة الافلاطونية التي تحتقر الجسد تناسلت فيما بعد مختلف المدارس والاتجاهات الفلسفية واللاهوتية الابقورية والرواقية والمسيحية والافلوطونية والقنوصية والإسلامية التي نظرت إلى الإنسان وحياته وصحته من زاوية احتقار الجسد وتعظيم الروح، بما يعني أيلى كل الاهتمام لعالم الموت وما بعد الموت والخلود السرمدي وإهمال عالم الحياة الدنيوي السريع الزوال. تلك النظرة العامة هي التي هيمنت في فضاء الثقافة والفكر الإنساني حتى مطلع العصور الحديثة. وهكذا يتضح أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها، من المنطلقات الاعتقادية الايديولوجية والفكرية أو بكلمة واحدة  (الثقافة السائدة) إذ أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى  وسياقات اجتماعية وسياسية وثقافية نشاءت وترسخت عبر مسار طويل من الممارسات والخبرات والتجارب في أنماط سلوك وعادات وتقاليد أو على حسب بورديو (هابتوسات)  بمعنى عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية الثقافية الانثربولوجية التي تبقى بعد نسيان كل شيء . فكيف كانت النظرة الحديثة للإنسان وحياته وصحته. ولم يكن الطب في أغلب الثقافات عبارة عن ممارسة علمية منضبطة، ولم يكن، كما يكتب فوكو في »الانهمام بالذات«، مفهوما فقط كتقنية تدخلية تستعين، في الحالات المرضية بالعلاجات والعمليات الجراحية« بل كان شبكة من المعارف المختلفة التي تشمل علوم الجسد والنفس والفلك والأخلاق والنباتات والفلسفة والمعارف الدينية والسحر والكيمياء وحالات البيئة (برودة، حرارة..) وحتى الهندسة والخطابة.  لقد لخص ميشل فوكو وضع الانسان في العصور الحديثة بعبارة ذات دلالة عميقة حينما كتب ان الانسان اكتشاف حديث العهد إذ انه  لأول مرة في التاريخ يجد نفسه بازاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجيه عن ذاته الانسانية المتناهيه، اذ ذاك كان على قوى الانسان ان تتصدى للتناهي خارج ذاتها، ومن تم لتجعل منه في مرحلة ثانية، تناهيها هي، فتعيه حتماً كمتاه خاص بها. وحينئذ كما يقول فوكو، يركب معها الشكل – الانسان (وليس الشكل الله) وتلك بداية الإنسان.أن مسألة نمو وازدهار خطاب الطب والصحة ليست مسألة علمية فنية خاصة بالمجال الصحي بل تتعين في تلك المجالات التاريخية الحضارية والمدنية والثقافية الواقعة خارج النسق الطبي  حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة  في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها" كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء" فكيف يمكن تفسير شيوع ظاهرة السحر والخرافة والشعوذة في المجال الطبي العربي اليوم في العديد من البلدان ومنها اليمن والعراق؟ إذ اكدت الدراسة الميدانية للحالة الطبية في مناطق السيطرة الحوثية "وجود أكثر من 200 مركز للعلاج بالشعوذة ظهرت في العاصمة صنعاء وحدها خلال السنوات الاخيرة بعضها تديرها قيادات حوثية وأن ما يقارب 300 ألف مواطن ومواطنة في اليمن اضطروا إلى العلاج بالسحر والشعوذة، 70 في المئة منهم من النساء، وهناك حوالى 15 ألف شخص يمارسون أنشطة الدجل والشعوذة في اليمن وأن 56 ألف امرأة يمنية تنفق سنويًا نحو 140 مليون ريال يمني (ما يزيد على 250 ألف دولار أميركي) على الدجل والشعوذة، حسب تقرير سابق لصحيفة الثورة اليمنية. فكيف نفهم شيوع هذه الظاهرة النكوصية في المؤسسة الطبية اليمنية إلى تدهورت إلى اللحظة البدائية في قاع البشرية بالقياس إلى ما حققته الحضارة المعاصرة من ثورة طبية جعلت من حياة الإنسان وصحته وسعادته غاية الغايات ومعيار نجاعة السياسات. إذ لا تعني الصحة كما هو شائع انتفى المرض العضوي أو العقلي فحسب بل تعني الاشباع الكامل لكل حاجات الانسان الاساسية الجسدية والنفسية والعقلية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والجمالية وكل ما يتصل بحياة الانسان ونموه وتمكينه وتنميته تنمية صحية مستدامة بما يحقق له السعادة والرفاه والقدرة على التمتع بالحياة الطيبة إنها تعني "حالة من العافية الكاملة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية.

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم