قضايا

العقل في مواجهة الخرافة

العقل، أغلى هبة ربّانيّة وهبها الله تعالى لابن آدم، وهو أعظم نعمة ميّزه بها عن مخلوقاته الأخرى، الظاهرة والباطنة - وما أكثرها - سواء المبصَرة - بفتح الصاد - بالعين المجرّدة، أو المرئيّة بالمايكروسكوبات. ولم يكن الإنسان، ليصل، إلى ما وصل إليه، من علم وتكنولوجيا واختراعات واكتشافات باهرة، لولا العقل.

نحن، نعيش عصر العلم والتكنولوجيا، ويبدو أنّ الإنسان المعاصر ماض في أبحاثه العلميّة لاختراق الآفاق، دون حدود أو قيود، وبنوع من الشراهة، تشبه الأكول الجائع، اللهم إلاّ ما تعلّق بعجز القدرة العقليّة على كشفه أو استشرافه.

لقد خلق الله تعالى مخلوقاته كلّها؛ العاقلة وغير العاقلة، المائيّة والبرمائيّة والترابيّة والفضائيّة، لأداء (رسالتها) الكونيّة. ولا يمكن الاعتقاد - ولو جزءا من التريليون – أنّها خُلِقت عبثا. فلا مكان للعبثيّة في الوجود. كلّ مخلوق قائم لتحقيق عبوديّة خالقه، لذاته ولغيره، لأداء مهمّة التكامل الكوني. فالنحل مكلّف بصنع شهد العسل، وجعل فيه شفاء للناس. وكذا، النمل والمخلوقات المرئيّة والمجهريّة، وإن غابت عن عقل الإنسان.

وقد خلق الله الإنسان، وكرّمه بنعمة العقل، دون غيره من المخلوقات، وأمره أمرا صريحا وملزما، بعبادته من الرشد إلى اللحد، وفي السرّاء والضرّاء.

قال الإمام علي بن أبي طالب (رض):

(كل شيء يضيق بما جُعل فيه إلا وعاء العلم، فإنّه يتّسع)، ووعاء العلم هنا، هو العقل السليم، المستنير بأنوار العلم والحكمة.

وبالنظر في معاني النصوص القرآنيّة، وتأويلها وتأمّلها، نجد آيات كثيرة، تحث على التعلّم والتعقّل، بداية من أوائل نزول الوحي، في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق..)، وهو أسلوب أمريّ خاص بالإنسان العاقل، فيه إلزام بالإيمان والتصديق والطاعة والتنفيذ، ومخالفته عصيان يستوجب التوبيخ والعقوبة.

إنّ طلب العلم يستوجب وجود العقل الراشد والسليم وحضوره على مدار الوقت. ولم يأمر الله تعالى غير الإنسان بطلب العلم. وقد وردت مشتقات لفظ (عقل) ومترادفاته أكثر من خمسمائة مرة في القرآن الكريم.

ولعل ورود هذا العدد الكبير من الألفاظ، يؤكد أهمية العقل ودوره في حياة الإنسان، كما يوضح المنزلة السامية للعقل في القرآن الكريم.

لقد مرّ العقل الإنساني بمراحل بدائيّة وساذجة، كان أثناءها عاجزا عن إيجاد الحلول لعواقب الطبيعة، وقاصرا عن مواجهتها. أيّ، أنّه كان عقلا محدود التفكير والتنظير والتأويل لما يجري حوله من حوادث الليل والنهار.

استحوذت عليه الخرافة، بسب الجهل والدهشة والعجز. فعاش الإنسان عصورا، باحثا عن موقعه من الوجود، مستفهما عن مصيره بعد الموت، وعن محلّه من الطبيعة المحيطة به من كلّ الجوانب ؛ من أسفل، ومن أعلى، ويمينه وشماله. وكان سلوكه اليومي فطريّا، لا يبتعد كثيرا عن مطالب الغريزة، إلى أن أنقذته الأديان السماويّة من حيرته تلك، وأنارت له سبل الخير، وبيّنت له دروب الشرّ. كما كانت الطبيعة عونا له في حلّ بعض المعضلات الوجوديّة الحاسمة. ولعل، في قصة ولدي آدم، قابيل وهابيل، خير مثال على حاجة الإنسان للطبيعة، حين علّم الغراب (بوحي إلهيّ) كيف يواري قابيل سوأة أخيه هابيل.

(فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتي أَعَجَزْتُ أنَ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (31) - سورة المائدة).

ولكنّه، عندما بدأت حركيّة العقل المفكّر، وانفتحت عين البصيرة والتأمّل، وشرع العقل في بناء الوعي، لجأ الإنسان إلى التعلّم، والبحث عن كينونته، والملاحظة والغوص في الطبيعة المحيطة به، ومحاولة الاندماج فيها، والتساؤل عن ماهية كائناتها الجامدة والمتحرّكة والحيّة، والنظر إلى المخلوقات، الحيّة والجامدة، نظرة.

ورغم كلّ ما وصل إليه العلم من منجزات فكريّة وتكنولوجيّة في شتى الميادين، فإنّ العقل العربي المعاصر، مازال لم يستعد عافيته ممّا أصابها من أعطاب مميتة عقب سقوط بغداد عام 656 هـ. ثم سقوط غرناطة في 02 ربيع الأول، عام 897 هـ الموافق لـ 02 يناير 1492 م، ثم سقوط الخلافة الإسلاميّة عام 1924 م.

مازال العقل العربي المعاصر، يواجه تحديّات فكريّة ودينيّة واجتماعيّة شتى، منذ أفول الحضارة الإسلاميّة. ولم يستعد العقل العربي عافيته كاملة. ومازال أسير بعض العادات والتقاليد والسلوكيات السلبيّة. مثل إهدار الوقت، الانشغال بتوافه الأمور على حساب، التواكل، تقديم صغائر الأمور على عظائمها، تمجيد الروح العصبيّة، تسفيه الفلسفة، عدم الأخذ بالأسباب، التنجيم، الشعوذة، التشكيك في مخرجات العلم، العجز عن حلّ المسائل الحياتيّة اليوميّة، الاتّكال على الفكر الغربي، توظيف مسألة الغيبيّة في غير موضعها، اللجوء إلى القضاء والقدر للتنصّل من الحريّة والمسؤوليّة.

فعلى المستوى الفكري، فشل المنظومة التعليميّة، من حيث نوعيّة المناهج الدراسيّة ومادتها، وضبابيّة الطرق البيداغوجيّة المعتمدة على أساليب جامدة، وغير فعّالة، وضعف التكوين المعرفي والبيداغوجي للمعلّم. لقد ارتقت الأمم المتقدّمة وازدهرت، في الشرق والغرب، لأنّها قدّمت العلم على السياسة والصناعة والزراعة، ووضعت المعلّم في الصف الأوّل، قبل الوزير والمهندس والطبيب والضابط العسكري. وقد واجهت المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، القضاة والأطباء والمهندسين، حين طالبوها برفع رواتبهم، والمساواة قائلة: (كيف أساويكم بمن علّموكم؟). وهو سؤال وجيه، ينم عن درجة الوعي، والنظرة الثاقبة، عند المستشارة. أمّا في العالم العربي، المعلّم، هو آخر من يُلتفت إليه. ممّا ادى إلى عزوف الكفاءات العلميّة والأدبيّة والفلسفيّة عن الانخراط في المنظومة التعليميّة والتربويّة، إلاّ رغبة في الانعتاق من البطالة.

أما على المستوى الاجتماعي، فالأمر أدهى وأمرّ. مازال العقل العربي، في صراع محتدم ضد العادات والتقاليد البائدة، وانتشار البدع والخرافات والشعوذة، تحت عنوان " إحياء التراث والمحافظة عليه ". ممّا أحدث خللا في القيم الفكريّة. وظهر جيل من الأميين، يحوزون على شهادات جامعيّة وعليا، لكنّهم – بالمقابل – يتصرّفون، كما لو أنّهم أميّون يجهلون القراءة والكتابة. وإلا كيف نفسّر لجوء دكتور في العلوم أو الآداب، إلى المشعوذين والسحرة لعلاج علّة جسديّة أو نفسيّة ما، مدعيّا أنّ الطبّ عجز عن علاجها، وأنّها حالة مرضيّة لم يستطع العلم تشخيصها وعلاجها.

و قد يلجأ بعض رجال السياسة، كما نسمع هنا وهناك، إلى المشعوذين، بغية الحفاظ على مناصبهم السياسيّة، أو من أجل الفوز بها، أمام الغرماء. أليس في هذه الصورة الأخيرة، امتهان للعقل، وإلغاء له. ورحم الله الخليفة المعتصم بالله، فاتح عموريّة عام.... الذي ردّ ادّعاء المنجّمين وكذبهم في نحورهم، حين زعموا أنّ النجوم قد أخبرتهم بأن فتح عمورية لن يكون إلا في زمن نضج التين والعنب (الخريف)، وأنّ مخالفة لذلك، سيفضي إلى الهزيمة. لكنّ الخليفة المؤمن بالله والمتوكّل عليه، المستند على العقل، النابذ للخرافة والتنجيم، أصر على قهر الروم، وحسم المعركة، وانتصر العقل على الخرافة والتنجيم نصرا باهرا.. ولله درّ أبي تمام، الذي خلّد تلك المعركة الحاسمة - بين العقل والتنجيم – في بائيته، التي مطلعها:

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب

*

بيض الصفائح، لا سود الصحائف

 في متونهنّ جلاء الشكّ والريّ

*

والعلم في شهب الأرماح لامعة

 بين الخميسين، لا في السبعة الشّهب

*

أَينَ الرِوايَةُ، بَل أَينَ النُجومُ وَما

 صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

أمّا على المستوى الديني، فقد وقع العقل العربي ضحيّة الفهم الخاطئ للدين، عقيدة وشريعة. رغم أنّ موقف، الأديان السماويّة كلّها من العقل إيجابيّ، لا تشوبه شائبة. ذهب العقل العربي، منذ قرابة ثمانيّة قرون هجريّة، ضحيّة صراع لاعقلي بين فرق دينيّة ومدارس فقهيّة وبين مذهبي أهل السنة والشيعة حول قضايا عديدة ؛ دينيّة وفقهيّة وسياسيّة وأخلاقيّة وفلسفيّة. ممّا أثر سلبا على سيرورة المجتمع العربي، وعلى نمط الحياة اليومية للفرد والجماعة، وعلى تطوّر حركيّة التفكير العلمي والإبداع الأدبي والفنّي.

إنّنا نعاني – أشدّ ما تكون المعاناة -، في مجتمعنا العربي المعاصر، من سطوة الخرافة في الزوايا الأربع من حياتنا. نعاني من الحصار الخرافي. نعاني من القيود التي تحول دون التحليق، بعقولنا، في الفضاء والميتافيزيقيا، في عوالم الشعور واللاشعور. نحن – باختصار - أمام فلسفة الخرافة التي تقهقرنا إلى قاع الماضي السحيق. إنّنا عاجزون – وهذه هي الحقيقة المرّة – عن مجاراة الغرب في الاستفادة من الفرص التكنولوجيّة المتاحة، ومن المنتجات العلميّة المستوردة من الغرب. وعاجزون – أيضا - عن الإبداع والاختراع.

إنّ مواطن العقل وكشوفاته لا حدود لها زمانيّة أو مكانيّة لها، وهذا رأي صحيح ومنطقيّ. فالعقل الراشد، الحرّ، النيّر، لا تعيق فيوضاته سوى المعوقات البدائيّة، كالخرافة، والأسطورة، المقنّعة بقناع العادات والتقاليد، أو تلك المستترة وراء ستار الغيبيّات والطابوهات، وما هي بالغيبيّات ولا بالطابوهات. وإنّما هي صورة ناطقة للتخلّف والخرافة والشعوذة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم