قضايا

الأدب والحرب

أثلج صدري ما كتبه محمد عبد الرحيم في القدس العربي عن الأثر الإيجابي لحرب أكتوبر، نحن نسميها في المشرق حرب تشرين، وهو اختصار لاسمها الصحيح والكامل وهو حرب السادس من تشرين الأول. وحسب ما ورد في المقالة: نظر الأدب العبري لتلك المحنة من موقع اليائس المتعالي، ومن اعتاد أن يكون النصر حليفه، ولكنه واجه جدارا عربيا وضع حدا لحالة التكبر والوهم، تبعته صدمة حقائق التاريخ المعاصر واكتشاف أباطيل الصهيونية السياسية. أو بتعبير عبد الرحيم: الدخول في حالة من الخوف الوجودي المتواصل الذي له نهاية واحدة وهي الفناء، ثم العودة إلى أزمة الشتات اليهودي لأنه أكثر أمنا من الحياة في دولة إسرائيل. وأعتقد أنه يقصد رغبة عدد كبير من يهود إسرائيل بالهجرة إلى أمريكا. أوكما ذكرت لي الصديقة الشاعرة خاغيت غروسمان في حوار أدبي مفتوح: الرغبة بالهجرة إلى مكان يوفر قدرا أوسع من الجمال والرخاء والثقافة والحضارة.

ولكن أود الإشارة إلى ظواهر جانبية تفاقمت بعد حرب تشرين.

أولا مشكلة التفريغ الديموغرافي. وهي ليست وقفا على يهود إسرائيل، فكل شعوب الشرق الأوسط تأمل بالهجرة، حتى الشعوب الأكثر استقرارا وأمنا مثل دول الخليج العربي. فأبناؤها يوزعون وقتهم بين أوطانهم والغرب. بينما دخل البقية في موجات هجرة تشبه النزوح. وقد أصبح أدب المهحر جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا، ونحن مدينون له بتوسيع رقعة التنوير والتحديث. ولا أحد يمكنه أن لا يتذكر جبران ونعيمة والرابطة القلمية. وحتى الروس تورطوا في هذه الدوامة، وأضافوا للعقل الغربي إنجازات ملحوظة ومنها تثوير فهمه للغة، وحلقة براغ أبسط مثال على ذلك.  وإذا وافقنا أن الهجرة ظاهرة حقيقية في إسرائيل وترقى لمستوى ما نسميه "نزيف الأدمغة" لا يسعنا إنكار تعويض ذلك عن طريق الهجرات الجانبية. وتشمل يهود روسيا (فقد تدفقوا على إسرائيل بعشرات الألوف بعد البيروسترويكا). أضف لهم يهود سوريا الذين استغلوا فرصة إصلاحات عام 2000 وغادروا حلب ودمشق بالمئات إما إلى أمريكا الشمالية (وكان قوامهم يهود حلب، وعلى وجه الخصوص الإناث الشابات - طالبات مدرسة السموأل)، أو إلى تل أبيب (وقوامهم كبار السن وتم إجلاؤهم بعمليات سرية خاصة عن طريق قبرص وتركيا).

ولم يتوقف هذا النزوح على اليهود بل اتسع ليشمل الأرمن - فقد هاجروا بالألوف إلى كندا ثم أرمينيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي). وتبعهم السريان - وكانت محطتهم الأساسية أمريكا. وترتب على ذلك نقص في المهارات الفنية في حلب ودمشق، وتسريع وتيرة التعليم المهني، على حساب الدراسات النظرية في الجامعة، وهي سياسة اتبعها السوريون ابتداء من عام 2001، بينما كان التعليم المهني في الألفية الثانية مختصرا ومحدودا.

ثانيا نقص المرونة والموضوعية في أساليب التعبير الأدبي لدينا. فالبروباغاندا هي السائدة في ثقافة الأزمات، وهذا يدل على قصور نظر أدباء الدولة. وإن أجريت مسحا سريعا لأدب حرب الخليج الأولى - بين العراق وإيران ستلاحظ عنتريات ليس هناك ما يبررها على أرض الواقع، وانعكست الصورة بعد حرب الخليج الثالثة - الغزو الأمريكي لبغداد والسقوط. فقد جاءت الصورة كالحة ومرعبة ويتخللها إحساس يدل على خيبة الأمل والتذمر. وأجد نفسي مضطرا لذكر أمثلة. منها روايات حميد العقابي، لكن لم يكن يجاريه أحد قبل سقوط النظام. ومن الأمثلة القليلة والنادرة "أيام من أعوام الانتظار" 1983 لموسى السيد. و"أشجار قليلة عند المنحنى" 2000 لنعمات البحيري. والأول من أكراد العراق، وطبع روايته في اللاذقية بسوريا، أما الثانية فهي مصرية ونشرت روايتها في القاهرة.

وهذا يقودنا للانتباه لجدلية النظام والأدب. فأنظمتنا لا تتساهل في الإعراب عن عمق المحن التي نتعايش معها بالإكراه. في حين أن إسرائيل تضمن قدرا أكبر من الحرية. وليكون كلامنا مدعوما بالوقائع، أصدر السوري نبيل سليمان رواية متواضعة في القاهرة بعنوان "جرماتي" 1977، وتدور حول الضائقة التي تسببت لسكان قرى حدودية خلال حرب الجولان. وكانت النتيجة دعوته للتحقيق في اتحاد الكتاب العرب، وإدانته بنشر إشاعات كاذبة تسيء لقضايا الأمة، ثم فصله من الاتحاد المذكور. ولو قارنا "جرماتي" مع رواية "دفاتر إسرائيلية: حزيران 1967" للإسرائيلية يائيل دايان سنلاحظ العكس تماما، لقد جرى تكريم شهادتها عن حرب شاركت بها شخصيا بصفة ضابط، وانتهت بهزيمة محزنة للعرب، ومع ذلك تناولتها بكثير من الشفافية والأسف على تقصير الجيش الإسرائيلي في بعض المواقف، وخسارة مدرعات وناقلات جنود بسبب الإهمال وسوء التقدير. وكل من يقرأ هذا العمل - الوثيقة يرى أن دايان تنظر بموضوعية للحرب، ولا تقدم شخصياتها بصورة سوبرمانات، وإنما كبشر ولديهم نقاط ضعف. وفي داخلهم عاطفة تساوي بين الطبيعة - وهي دائما أرض بور تنتشر فيها الحجارة والأشواك، مع الإنسان - وهو دائما متيقظ ومتنبه لخطر محدق يصعب التكهن بمنابعه ونتائجه. وبواسطة المعاناة يجري التآلف بين الطرفين.   وفي الأدب العبري أمثلة كثيرة على هذه الروح. أذكر إتغار كيريت، وأهارون أبلفيلد، إلخ...

وحتى لا يسيء أحد تقدير كلامي أريد أن أعزل المحاور. فأي عمل أدبي له مرتكزات، وهي: الموضوعية، والحساسية الفنية، والمحتوى الوطني، أو ما نقول عنه الالتزام. ويبدو أننا نضحي في معظم الحالات بالمبدأ الأول -الموضوعية مع أنه ضرورة لا بد منها في الأدب الوطني الموجه لجميع القراء. الأدب وثيقة، وكلما تحلى بقدر أكبر من المنطق أدى دوره ورسالته. وأن تكون موضوعيا لا يعني أن تتخلى عن التزامك وواجباتك تجاه وطنك. وبكائيات إبراهيم نصر الله في "أرواح كليمانجارو"، لم تقلل من قدرتها على التحفيز.  وقراءتها لدرب المخاطر الذي يصعد عليه الفلسطينيون كانت أفضل بكثير من الأعمال البائسة التي طمرت رأسها تحت شعارات تصم الآذان دون تقديم أي حل أو اقتراح مفيد. وكما ورد في مقالة لتوفيق عابد: الصعود لا يعني بالضرورة التسلق والانتقال من مكان أدنى لآخر أعلى،  فكل خطوة لا يخون بها الإنسان نفسه ولا غيره هي مثل بلوغ قمة. ثم يضيف بما معناه: إن فهم أبطال الرواية لظروف حياتهم كان وسيلة مشروعة لهزيمة المحتل (الجزيرة مباشر -2015).

ثالثا لا يعتبر الشرق الأوسط بشكل عام منطقة مفضلة للمهاجرين. باستثناء الخليج العربي. وحتى في هذه الحالة تكون الهجرة مؤقتة وللبحث عن فرصة عمل. بمعنى أن الخليج هو سوق دولية مفتوحة. وقد ناقش الكويتي سعد السنعوسي القضية في روايته "ساق البامبو" 2012 والتي اختارت لعيسو، وهو من أب كويتي وأم فلبينية، أن يلتحق ببلد أمه، هربا من تعنت عائلة والده، ورفضها لمبدأ الدم المختلط. الاستثناء الثاني هو إسرائيل. ومعظم المهاجرين إليها من يهود العالم، ويحدوهم هدف واحد وهو الاستقرار والانتماء. وكل يهودي يطمح لحيازة هوية إسرائيلية. وتؤكد على هذه النقطة الذاكرة الفنية ليهود أوروبا. فهم جميعا يهتمون بمسائل الإبادة والاضطهاد، وينظرون لأرض الميعاد على أنها حبل النجاة الوحيد، وإن لم تكن هي الحل الأمثل. ولهذا السبب يناقش الأدب العبري باستفاضة قضية الأرض والهوية الوطنية، وغالبا بإطار إصلاحي. ونجم عن ذلك اهتمام غير مسبوق بالرواية الزراعية. بينما تأخرت سرديات الفلاح والاقتصاد الزراعي لدينا حتى نهاية الخمسينات. وتأتي صورة الريف في أدب النهضة كامتداد للصراع على السلطة وليس على الأرض.  وأحيانا تأخذ أبعادا اجتماعية وطبقية بحتة. في حين أنها في إسرائيل أقرب لرواية "الطريق" حيث يغلب على الموضوع هموم وجدانية وذاتانية. ويصدق هذا الكلام على جميع المراحل، بما فيها الأعمال المنشورة بعد  1973. مع ملاحظة فرق واحد، أنه قبل هذا التاريخ كانت النغمة نضالية (تذكرني بروايات سوفييتية وتركية هامة: منها كتابات أوستروفسكي وأورهان كمال)،  ثم أصبحت ديالوجية ومستأنسة، وتقبل بلغة الحوار مع عرب الداخل، وهو الأسلوب الذي اختاره كيريت (أخص بالذكر روايته "سبع سنوات طيبة" 2013، والنوفيلا الفانتازية التي تدور أحداثها في عالم الأموات "المخيمون السعداء في مخيم نيلر" 1998). وأرى أن الأدب العبري هو من قطف ثمار حرب تشرين. وقد أشار إدوارد سعيد في عدة مناسبات لفضائل النكسة على العرب، فقد وحدت صفوف المقاومة، وشدت من أزر لغة التحرير، وتبنت فلسفة اللاءات الثلاثة، لا سلام ولا اعتراف ولا مفاوضات. بينما أودت بنا حروب عام  73 لطلاق مع سياسة الكفاح المسلح، وفتحت الطريق لأكبر نكسة استراتيجية وهي اتفاقيات كامب دافيد، ثم معاهدة أوسلو. والكلام لا يزال لإدوارد سعيد. وانعكس ذلك على سردياتنا بنغمة عدمية وعبثية، وتحولت لهجة الخطاب من التحرير والمطالبة بحق العودة، إلى توسيع رقعة القضية، لتشمل مسائل هي أكبر من فلسطين. وللتوضيح أذكر "محال" 2012 ليوسف زيدان. فقد حول القتال نظره إلى حلبات صراع بعيدة مثل السودان وأفغانستان والعراق. وما يدعو لليأس والخجل أن لا تجد أي إشارة لخائن يهودي في الرواية العبرية، بينما لا يخلو الأمر من ذلك في رواياتنا. وصور المرشد الذي يفشي أسرار المقاتلين في الداخل مسألة تدعو للخزي. هذا غير ما تم تداوله عن نشاط جيش لبنان الجنوبي بزعامة أنطوان لحد. وقدمت هذه المشكلة مادة غنية للأدباء الشباب الذين ظهروا بعد حصار بيروت كما في قصص ميا غوارينيري وسواها.

رابعا بعد الربيع العربي تبدلت نظرتنا لحروب تشرين. ومن أهم الأمثلة التي وضعتها بإطار مأساوي رواية "من دمشق إلى حيفا" 2019 لخيري الذهبي. وقد ورد فيها تصويبات هامة لأدبيات الحرب، مع لهجة ساخرة وعدمية. كما أنها تضمنت أقسى نقد ذاتي للمشهد السياسي المعاصر. حتى أنها برأيي كانت أقسى من كل الانتقادات التي وجهها المثقفون العرب للنكسة، أو ما تعارفنا عليه باسم "مجتمع الهزيمة". وتكتسب هذه الرواية مكانتها من حقيقتين أساسيتين.

1- مشاركة كاتبها في حرب تشرين ووقوعه بأسر الجيش الإسرائيلي.

2- أنه يعتبر من أهم الروائيين العرب. وقد أشاد به نجوم الأدب العربي مثل الناقد محمد برادة والروائي صنع الله إبراهيم. كما أن عمله حاز على جائزة ابن بطوطة المرموقة.

وأعتقد أن هذه الاعتبارات لا تمثل احتفالية رسمية من النخبة بالكاتب فقط، وإنما تعبر عن اتجاه عام يطالب، بإلحاح، بإعادة النظر في ماضينا الحديث من الناحيتين السياسية والعسكرية، ولتفسير النتائج بضوء آخر المعطيات، ولنتجنب مخاطر "الحداثة السلفية". ولا يوجد تأخر بشيوع هذا الاتجاه، فهو معروف منذ عقود في دوائر الثقافة المغتربة، والإدارات المهتمة بشؤون الشرق الأوسط. غير أن التأخير كان في وصولها لعموم القراء العرب، بعد زوال حاجز الخوف. وهذه  ملاحظة من الروسية أولغا زلبيربورغ في معرض حديثها عن الأزمة الأخيرة في أوكرانيا، وخشيتها من عودة "دولة الرعب" التي تدفع المثقف إلى السكوت ليحافظ على مكاسبه أو على حريته المشروطة.

خامسا. نحن نعاني من عدم استقرار في النظرية والتطبيق. وأعتقد أن ميولنا للحداثة في الستينات لم يكن لها ما يبررها غير الخوف من مواجهة المصير الغامض الذي تنتظره كل الفصائل العربية. وكل المعارك التي شارك بها الأدباء كانت غالبا على جبهتين وتحاول تطبيق مبدأ الالتزام أو المسؤولية بأسلوب ميكانيكي. ويصعب أن تجد كاتبا عربيا لم يحمل السلاح ويشارك بالقتال سواء في بيروت أو على طول خطوط التماس مع إسرائيل. وقد أدى ذلك لعلاقة ملتبسة وأوديبية بين الأديب والنظام. ولم يخالف هذه الظاهرة غير المعارضة الإسلامية ذات الاتجاه الراديكالي، التي هي وبكل بساطة وراء جدار التاريخ. ولا ضرورة للتأكيد أن الحروب الأهلية والانتفاضات الأخيرة ضد النظام وما تلاها من جمود أدى لدفن حرب تشرين في طيات الماضي. لقد تحولت إلى موضوع نصف ميت، وفقدت قدرتها على تحريض روح الكاتب المعاصر، وحلت محلها مشاكل معاشية (تستهلك أدباء الداخل)، وقضايا الهجرة والمنفى (عند أدباء الخارج).

سادسا. أخذت حرب تشرين شكل ومضمون حرب دولة. وكانت الحبكة في جميع الحالات تدور حول عمليات عسكرية يحشد لها النظام. ولذلك تفاوتت مواقف الأعمال الإبداعية منها حسب الوضع السياسي. وتراوح المشهد في العراق بين ذم الجيش السوري والتشكيك بمصداقيته، بينما اتخذت المؤسسة في مصر مواقف غامضة ومتقلبة. ووصل بها الأمر للكلام عن حرب "سلام" وليس حرب "تحرير". وحرص الإعلام الموجه على حذف الجهود المبذولة  بين عامي  1967 و1970، وسمح للسادات بحصاد جهود سلفه، وإحكام السيطرة على الدولة والجيش.  وقد أدت هذه اللعبة إلى تخريب الضمير الأدبي، وإلى تشويش بنيته وبلاغته. وتبع ذلك تبدل في المفاهيم. مثلا تحول مركز العاطفة من القلب إلى الغرائز، فانتقل مركز الحبكة من الحي المصري إلى مناطق التماس. وبالنتيجة هاجرت التجارب الطليعية من القاهرة إلى بيروت ودمشق. وظهرت أهم أعمال تلك المرحلة في المنفى، وبقي سوق الكتاب الداخلي في حالة من التصوف والزهد، أو ما أسميه "الغيبوبة الفنية". ولنكون منطقيين. لم يعد لحرب أكتوبر ولا لقرينتها حروب تشرين (تحرير المرصد ثم الاستنزاف) أي قيمة منفردة. ودخلت كلتاهما في سلسلة من الذكريات والمونولوجات التاريخية والتي تشمل معركة بورسعيد، وحرب جنوب لبنان. بمعنى أنها أصبحت مجرد محطة في سلسلة لامتناهية من الأزمات التي تعبر عن احتقان سياسي دولي. وزاد من تهميشها أمران: الأول استيلاء إعلام السادات عليها. والثاني انتقال البارودة من يد اليسار العربي إلى الحركات الدينية. ونجم عن ذلك تبدل بجغرافيا بلادنا. وإلا ما معنى تبادل السفراء بين تل أبيب ونصف عواصم المنطقة العربية. حتى أن كاتبا هاما مثل نجيب محفوظ خصص أعماله الأخيرة لهجاء الدولة البوليسية في القاهرة، وكأن المعركة مع النظام وليس المحتل. وقل نفس الشيء عن "شكاوي المصري الفصيح" 1981 . مع أن عمودها الفقري هو الحرب لكنها ركزت على كشف أخطاء التجنيد واستغلال الغني للفقير في صفوف الجيش أو ما يسمى بحرب "الامتيازات". بتعبير آخر لم تكن حربا بينية كما يجب أن نفترض. ونستطيع اختصار حروب مصر بثلاث محطات:

1- ثورة فلاحين ضد ابن المدينة.

2- انقلاب على رموز الجيل الأول من الضباط الأحرار.

3- ثم ثورة الطبقة المتوسطة ضد نفسها تحت شعارات إسلامية.

سابعا. حتى الأعمى يمكنه ملاحظة الفرق بين محاور المقاومة. ولا أعتقد أنه يمكن الموازنة بين سياسة البعث في العراق وسياسته في سوريا. وينسحب ذلك على بنية وخطاب الحركات الإسلامية في لبنان وغزة.  ورافقت هذا التعدد في المحاور مناوشات بين  الأطراف بالإضافة للمناوشات المتواصلة مع إسرائيل. ولا يمكن أن نغفل عن سيولة التحالفات التي تعقدها حماس وفتح مع بقية الأنظمة العربية ومن ضمنها دول المواجهة. ولا شك أن مثل هذا الاضطراب في الرؤية لم يساعد على توضيح الاستراتيجية المتبعة في تقييم حروب تشرين. وليس سرا أن شكل واتجاه المقاومة لم يكن متجانسا. وبالمثل لا يسعنا مقارنة حروب الدولة مع الحركات الشعبية المسلحة والتي يصعب التحكم بها. ومثلما صنع الخيال الشعبي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر شخصيات مقاتلة أسطورية، يجب أن نتوقع ظهور تصورات حديثة مناوئة لأدب الدولة.  ويمكن الإشارة بهذا الخصوص لأدب الأزمات "الأسود" - انتشر بين الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما، وبالأخص في الثمانينات في سوريا، وتزامن مع ثاني انتفاضة إسلامية مسلحة. بالإضافة لنماذج أوضح تطورت في لبنان بعد اندلاع شرارة الحرب الأهلية ثم حروب المخيمات، وفي مصر في خواتيم عهد مبارك وحتى سقوط مرسي. وفي هذه النماذج يمكن أن تتحرى مجموعة من المؤثرات التي انتقلت لنا بالعدوى، وفي مقدمتها روح أدب جنوب تركيا الذي تغلفه نزعة رواقية أو كلبية، مع القليل من التهكم والكوميديا السوداء الذي تجد أصوله عند الروسي تشيخوف والتجارب الطليعية التي مهدت الطريق للبيروسترويكا.

ثامنا وأخيرا. لا تمر عشر سنوات على دول المواجهة دون التورط بحرب. ولم يبدل طرد المقاومة من بيروت ذلك. ولا أجد تعبيرا أنسب من كلمة طرد. فقد تم الإجلاء بالبحر والبر ومع السلاح الفردي الخفيف (وتجد كل هذه التفاصيل في كتاب "أفكار بصوت هادئ" لسعدي يوسف). وهو شهادة عن نكبتنا في بيروت، وإسكات محزن لعلبة إعلام تشرين، فقد أعاد للذهن خروجنا من فلسطين بعد نكبة 48. وليس هناك ما يقابل مثل هذه الصدمات المروعة في الجانب الإسرائيلي. ولذلك غلبت على أدبياتنا العسكرية نغمة النواح مع التنمر، بينما غلفت كثير من كتابات الإسرائليين روح التسامح والتساهل. وقد نسجت كل أدبياتنا الحربية مشاهدها على أساس من الوعي التاريخي بالماضي المزدهر، ومن لم يسقط في هذه الحفرة وضع أمله في الأجيال القادمة. لكن هذا لا يلغي شعورنا الفادح بالإنهاك الذي يترتب عليه تململ وضجر يشبه كثيرا الوجوديات النسائية التي تحولت إلى ظاهرة في الستينات في فرنسا. إن لم يشبه كلام الأمريكيين عن فترة الكساد الكبير وبروز نغمة "أدب الطريق" وانتشار روح الصعلكة وأخلاق فرسان الشوارع والملاهي الليلية. وفي الوقت الذي اخترنا فيه معاشرة البارودة في سراديب تحت الأرض اهتم أبطال الكساد بمعاشرة النساء في قاعات رقص معتمة. وليست صدفة أن يتعايش الطرفان مع ظلام كوني ينبع من حالة اليأس ويفيض على كل ما حوله، وأن يستنير الاثنان أيضا بلمعان الحديد وعري المرأة. وهذه كناية مباشرة عن الضلال الوجداني القائم على سياسة الأمر الواقع، وهي سياسة تقشف وحرمان. ولم تتبدل هذه الصورة إلا بعد أحداث الربيع العربي، واستبدال تأليف القلوب وانغلاقها بقلوب مفتوحة ومتواطئة. وللتوضيح استبدل اليسار العربي شعار تحرير فلسطين بشعار الديمقراطية. وقد نقل هذا التحول مركز النشاط السياسي من شرق العالم إلى غربه. ولم تفقد حروب فلسطين بريقها فقط، وإنما دخلت في علبة المتغيرات. أما حروب تشرين بالتحديد فقد تقلصت منذ منتصف السبعينات لما يعرف بحروب الاستنزاف، وهو تعبير عن روح المماطلة التي تنفرد بها سوريا. وعلى ما أرى يعكس ذلك حقيقة الصراع التقليدي على زعامة الشرق الأوسط أكثر مما يحمل من أهداف واقعية قابلة للتطبيق، أو أقله التسويق بين صفوف الشباب. ولا سيما أنهم يشكلون جيشا من العاطلين عن العمل،  الذين تعايشوا مع فشل اقتصادي مروع ونكبات ميدانية. ولم يبق في أذهانهم غير أمر من اثنين: اللجوء إلى الحل الخليجي - وهو خلاص بالإنابة. أو الهجرة والذوبان في حضارات الآخرين. واستفاد الجهاديون من هذا الفراغ وعمدوا لتدمير البنية التحتية التي أصبحت مكشوفة للمعارضة (من جهة) وللغرب (الناقم على ما تبقى من مرتكزات لروسيا والصين). وبهذا الجو تغلبت النسخة الدينية من الفكر الشمولي على النسخة الوطنية من الفكر الأممي. وفقدت حروب التحرير مضمونها الأساسي وانتقلت إلى معارك محلية الغاية منها تصفية الحساب مع السلطة، هذا إن لم تسقط الحبكة والشخصيات - وبقية وحدات السرد - الخطاب- في مضمون غير ثابت وغير مكتمل. بتعبير آخر غلب على النهاية تصورات اجتماعية وفردية عقيمة دون أي تصور حضاري حاسم، وكأن ذات الكاتب هو ذات شخصياته المتخيلة التي دخلت في عملية تحديث. وهو تحديث تجديدي - بمعنى أنه مفترض، ويتصور هوية مستعارة لواقع غير مجازي.

***

د. صالح الرزوق

في المثقف اليوم