قضايا

هيغل معاصرنا

اتابع ما تنشره الروائية والمترجمة القديرة لطفية الدليمي من مقالات وترجمات وكان آخرها ان اتحفتنا بترجمة لمقال بعنوان " كيف يمكن لسقراط ان يغير حياتك"  والتي كتبها البروفسور روزفلت مونتاس، وقد نشرت المدى القسم الاول والثاني من المقالة. في المقدمة التي كتبتها السيدة الدليمي لهذه المقالة الدسمة اعادة الى ذاكرة القراء كتاب ترجمه الراحل الكبير جبرا ابراهيم جبرا بعنوان " شكسبير معاصرنا"، ومن المصادفات انني كنت قد انتهيت قبل اسابيع من قراءة كتاب مثير ايضا بعنوان " شكسبير لكل العصور " تاليف الناقد الانكليزي ستانلي ويلز وترجمة عصام عبد الرؤوف بديع، والمؤلف يتمنى ان يصبح كتابه ممتعا للقارئ العادي، مثلما لا يزال شكسبير قادرا على ان يحافظ على اسمه في المقدمة رغم مرور اكثر من اربعمئة عام على رحيله. لعل كتاب يان كوت " شكسبير معاصرنا " لا يزال واحدا من احب الكتب الى نفسي، رغم مرور اكثر من 40 عاما على صدور ترجمته العربية، في ذلك الوقت وقبله بسنوات قليلة كنت مغرما – ولا ازال – بالمرحوم وليام شكسبير، اقرأ مسرحياته في معظم الترجمات وابحث عن السلسلة التي اصدرتها الجامعة العربية لاعماله الكاملة لاضمها الى مجموعتي، إلا ان كتاب " شكسبير معاصرنا " سحرني، رغم انني في ذلك الوقت لم اكن ادرك قيمة شكسبير بالنسبة لعصرنا، وهذا ما يخبرنا به يان كوت حين يصر على ان شكسبير اكثر منا معاصرة، وان هاملت ولير ومكبث وريتشارد الثالث واوفيليا وفالستاف يمكن ان نشاهدهم كل يوم في الشارع، او ونحن نراجع  مؤسسة حكومية او على راس السلطة في بلادنا، كما ان الاسئلة التي يطرحها سواء في تراجيدياته او كوميدياته لا تزال تشغل عصرنا: ما هي أوالية السلطة وانتقالها؟ ما هي قيمة الحب والسعادة والموت؟، وياخذنا يان كوت في رحلة مع فرويد وصامويل بيكيت ونظريات التاريخ منذ الاغريق مرورا بهيغل وماركس. اتذكر انني سألت الراحل الكبير جبرا ابراهيم جبرا وكان زبونا للمكتبه التي كنت اعمل فيها: عن سر غرامه بشكسبير، قال لي: ان شكسبير الوحيد من بين الادباء الذي استطاع ان يسرد وبتفصيل غني تلك الدراما التي تدور في رؤوسنا، بجانبها النفسي والفلسفي والحياتي واضاف: عندما يكتب شكسبير عن القسوة فانه يريد منا ان نرى امكانيات البشر الهائلة، في هذا المجال، ومثلها عندما يكتب عن الحب.

في عالم الكتب هناك الكثير من المؤلفات التي تصدر كل يوم عن ابن ستراتفورد، مثلما هناك الكثير من الكتابات التي تتناول جوانب من حياة شاغل الفلسفة " سقراط "، والامر ينطبق على كانط وهيغل وماركس، فنحن فصيلة القراء نواجه مشكلة حقيقية وهي عدم اللحاق بالكتب التي تصدر ها المطابع، ورغم ان سقراط توفي قبل ما يقارب الـ " 25 " قرنا إلا انه لا يزال معاصرا لنا، من خلال ما طرح من افكار رفض المساومة عليها، وكان يرى في الهروب من مواجهة المشكلة اعترافا باهميتها، وكان استعداده للموت ورفضه استرحام القضاة بمثابة موقف نابع عن ايمانه بصدق فلسفته.

كم من الفلاسفة اقتدوا بسقراط ؟ مجموعة كبيرة بالتاكيد، كان سؤال سقراط " اعرف نفسك " قد دخل في صلب فلسفة إيمانويل كانط، حيث شرع من خلال هذه المقولة في جعل الفلسفة تهتم بمعرفة الذات، كما ان موقف سقراط من الحرية، كان دافعا لكانط ان يصر على اعتبارنا كائنات عقلانية حرة يمكنها اتخاذ خيارات غير محددة سلفا. يقول كانط:" ان الحرية هي المعنى العملي لاستقلالية القدرة على الاختيار " – نقد العقل المحض ترجمة موسى وهبه –، بل نراه يذهب ابعد من ذلك في كتابه " تاسيس ميتافيزيقيا الاخلاق "- ترجمة عبد الغفار مكاوي – من اننا نتصرف في ظل فكرة الحرية، لذلك فنحن احرار بالفعل. وهذا ما فعله سقراط عندما رفض تقديم التماس للقضاء لتخفيف عقوبته، فقد كان اختياره لموته اختيارا حرا، وعلى هذا يصبح الموت أغلى من الحياة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر باحترام القوانين وان تعارضت مع المصالح الشخصية. وكان فيلسوف المانيا الكبير فيلهلم فريدريش هيغل يُطلق عليه لقب " الفيلسوف العجوز " تشبها بسقراط، وقد سخر شوبنهاور من ملابسه وهيئته التي كان يسميها بالرثة وبمعطفه القديم، ولم يستطع شوبنهاور هضم  هيغل الذي كان يسميه بالفيلسوف المضحك الذي يتجول بين قاعات الدرس، مثلما كان سقراط يتجول بملابسه الرثة بين الشوارع والساحات. إلا ان صاحب المعطف العتيق كان يصر على ان الفلسفة عليها ان تطرح الاسئلة وتعارضها في نفس الوقت. بهذه الطريقة السقراطية اكتشف الديالكتيك، فقد كان سقراط  فيلسوف ديالكتيكي  بامتياز من وجهة نظر هيغل، نجده اثناء الحوار يعبر عن  عن وجه نظر  معينة ثم يعارضها، ويتنج من هذا التعارض ارتقاء بعقول المستمعين والمحاورين، وطالما كان سقراط يحاور  فإن محاوريه يغيرون وينقحون وجهات نظرهم استجابةً لتساؤلات سقراط المستمرة، هكذا يتحول الجدل او "الديالكتيك" السقراطي الى افكار اكثر تحررا. ومثل سقراط كان هيغل يثير ريبة المجتمع بقامته المتوسطة الطول، وشعره الغامق والوجه المستطيل، لم ير فيه طلبته اية جاذبية، كان يهمل ملابسه بطريقة تثير السخرية، يطرق راسه وهو يتكلم كأنه يبحث عن شيء بين قدميه، لم يكن محبوبا من معاصريه، يعبر عن نفسه بلهجة ثقيلة،. لكنّه أصبح مقصد الباحثين عن اهمية الفلسفة في حياتنا.

يظهر لنا هيغل دائما في صورة عملاق فلسفي لا نظير له كما وصفه انجلز، ذلك لان فلسفته قد اوحت لجميع المهتمين بالشان الفلسفي بانواع التفسيرات التقدمية والرجعية في نفس الوقت. فهو في نظر البعض فيلسوف تشع من كتبه روح الثورة، وفي نظر البعض داعية متحمس الى الدولة المحافظة، وفلسفته مثالية، ومع ذلك انبثق منها اشهر المذاهب مادية في العصر الحديث واعني به الماركسية، حتى ان لينين يكتب في دفاتره الفلسفية انه:" من المستحيل فهم كتاب رأس المال، دون دراسة مستفيضة لمنطق هيغل، وهذا هو السبب في انه بعد نصف قرن، فان احدا من الماركسيين لا يفهم ماركس ".. فيما يكتب فريدرك انجلز في مقدمة كتابه " حرب الفلاحين في المانيا:" لولا فلسفة هيغل لما كانت هناك اشتراكية علمية "..صورة هيغل ظلت تتباين بين ذلك الاستاذ الجامعي الهادئ والذي اصبح في اواخر ايامه " دكتاتورا فلسفيا " في بلاده، ومعبرا عن مصالح النظام القائم، وبين فيلسوف الثورة والتغير والرفض.

إذن لا مجال هنا للقول إن هيغل مجرد فيلسوف مثالي يتحدث في المطلق، لأنّه لا يريد من الإنسان أن يمارس حريته من دون إرادة، فهو يذهب إلى أن الإنسان إذا ما عرف المعنى الحقيقي للحرية، فإنه بالضرورة سيختار المشاركة في تقدم المجتمع والفرد والبشرية بإرادته الحرة. إن هيغل مهتم أساساً بكيفية اختيار الفرد بحريّة أن يسير مع حركة التاريخ، وكيف تتحدّد حريته بالحتمية التاريخية، فما هي وسيلته لتحقيق هذا الأمر؟ إن وسيلة هيغل الأساسية هي اعتناق المنهج الجدلي، حتى يتحرر الفرد من ربقة الواقع الذي قد تحتّمه الظروف ولا يتماشى مع حركة التاريخ. أن تريد الحرية ذاتها، يعني أنها تريد قانونها، وقانونها هو الحقّ، وليس الحقّ الفردي، بل الحق المتمشّي مع منطق العقل، ومنطق العقل هو منطق التاريخ، منطق الحتمية التاريخية، غير أن هذه الحتمية التاريخية ليست آلية وإلا لكانت هناك خيانة للجدل، بل هي حتمية بمعنى أن الذي يصنع حتميتها، هو الوعي الحرّ للأفراد والشعوب التي تختار بإرادتها القانون، لا ليكون خانقاً، بل ليصبح مساعداً إيّاها على مزيد من التنفس.

سيظلّ هيغل واحداً من رجال الفكر الخالدين الذين يذكّروننا دائماً بأنّه لا بدّ لقضايا الإنسانية وأسئلتها القديمة من أن تُطرح في كل جيل طرحاً جديداً. ويشير هيغل إلى معنى ذلك وهدفه حين يعلن: "إن تاريخ العالم هو التقدم في وعي الحرية".

كان هيغل يؤمن بضرورة التعلم من الخصوم، ومن الاراء التي يجد الانسان نفسه يختلف معها، او حتى التي تبدو غريبة، لكن الشيء المهم الذي يبدو ان هيغل ظل مستمرا عليه هو فهمه للتقدم الذي كان يرى انه سيكون بطيئا ومضطربا ايضا، وهو يرى ان ما يحدث في التاريخ يحدث في الافراد ايضا، فنحن بدورنا نتعلم ببطأ ايضا، وبتصحيحات كبيرة احيانا. وان الانسان يتنقل الانسان من خطأ الى خطا آخر وهو امر لامفر منه، لانه في النهاية يصب في مصلحتنا. ويضع هيغل اصبعه على مشكلة تواجه مجتمعاتنا المعاصرة، فهو يرى ان الانسان تواق الى التقدم، والى تحسين احواله، لكنه يجد نفسه دائما في مواجهة النزعات والنكسات. ولهذا فهو يؤمن ان التطور في حاجة الى صراع االافكار وتنازعها. كان هيغل يرى ان التقدم لا يتخذ ابدا مسارا خطيا مستقيما، قد يكون الحاضر افضل من المستقبل، لكن من الممكن ايضا ان يكون اسوا من الماضي. يقول هيغل:" تاريخ العالم سجل لسعي العقل الى فهم نفسه ".

يتساءل الفيلسوف السلوفيني " سلافوي جيجيك ": ماذا لو حاولنا ربط هيغل بالعالم الذي نعيش فيه الآن ؟، حيث يقول أنه من الضروري ألا نعود إلى هيغل فحسب، بل نكرر انتصاراته ونتجاوزها، ونتغلب على حدوده بأن نكون أكثر هيغلية من السيد هيغل نفسه، ويضيف ان:" هيغل لا يرسم نظاماً ويفرضه كشكل اجتماعي محدد، بل هو يرسم حالة اجتماعية بعد أن تجاوزها الزمن بوعيٍ تام. حالنا اليوم يشبه فلسفة هيغل تماماً، أكثر بكثير من ماركس "، وبطريقته في الكتابة يربط جيجك هيغل بالعالم الذي نعيش فيه الآن، ويوضح سبب كونه أكثر متعة مما يمنحه أي فيلسوف آخر، ويتساءل: ولماذا لا يكون القرن الحادي والعشرين، قرن هيغل بامتياز؟

مضى على رحيل هيغل اكثر من 190 عاما – توفي عام 1831، لكن تاثيره لا يزال متواصلا.. وفي الايام الاخيرة  عثر احد اساتذة الفلسفة الالمان على كنز داخل الأرشيف الخاص بأبرشيتي ميونيخ وفريسينغ، حيث وجد خمسة صناديق كاملة مليئة بمحاضرات غير منشورة لهيغل، والمحاضرات كتبها احد تلامذته عام 1818 أثناء عمل "هيغل" أستاذا للفلسفة بجامعة هايدلبرغ الألمانية، قبل أن ينتقل "هيغل"، وهي تحتوي على محاضرات في المنطق والفلسفة الطبيعية وفلسفة العقل وتاريخ الفلسفة وعلم الجمال.

عندما رحل هيغل عن عالمنا كان يطالب بضرورة ارساء اسس الدولة القوية التي يحكمها حاكم قووي، لكنه لو عاد اليوم فسيجد ان الديالكتيك الذي بشر به  تحول الى كتب ثورية، وضعها ماركس وانجلز والهمت الكثير من الحركات باقامة مجتمع شيوعي يدعو للانقضاض على فكرة هيمنة الدولة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم