قضايا

وصايا من الخليفة المنصور العباسي لأبنه المهدي، عِضات وعِبر

الوصية: هي وثيقة مدونة من جهة رسمية معينة، بأمر شخص معين لشخص اخر، يوصي بها حقوقا له وللاخرين.

والوصايا على نوعين مادية ومعنوية. المعنوية هي وصايا النصح والارشاد التي تعطى على سبيل العضة والاعتبار كوصايا القرآن الكريم للاباء في ابنائهم، " وتواصوا بالحق وتواصوا يالصبر، العصر3".، ووصايا الخلفاء والملوك لابنائهم ومن يوصون له. أما الوصايا المادية هي وصايا الارث والتركات الموصى بها من شخص لاخر والمستحقين عليه، وهي ما يسمى بوثيقة تثبيت الحقوق المادية، والوصية المادية هي وصية ملزمة التنفيذ كما في قوله تعالى "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به".(1)

والوصايا ملزمة لا تُخان،

وللوصايا جملة فوائد منها، تحديد الحقوق للوارثين قطعاً للنزاع وبعداً للتخاصم فيما بينهم، لذا فأن الوصية في القرآن الكريم جاءت بعشرة آيات بينات ملزمة التنفبذ وهي مقدمة على الارث لقدرتها على تحقيق العدالة الخاصة المتعلقة بشخصٍ بعينه، وبوضعه المالي والاجتماعي والأُسري، وبألتزاماته تجاه الاخرين، بينما الفقهاء قدموا الأرث على الوصية تجاوزا على النص، ان التماثل غير موجود في الوصية، أما في الارث فالتماشل موجود فالناس متماثلون، والارث والوصية يمثلان جدلية التماثل والاختلاف(2). وبما ان المجتمع الانساني يقوم على التنوع في الشروط المعاشية والاسرية والاجتماعية والالتزامات، فقد تم تفضبل الوصية على الارث، يقول الحق :"كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقاً على المتقين، البقرة 180"(3).

ان هذا الامر القرآني انسحب على جملة الوصايا الاخرى حتى عُدت الوصية ركناً مهماً من اركان سياسة الخلفاء والملوك لحفظ المودة والرحمة بينهم وبين الابناء ومن يواليهم من الناس، لكن الكثير من هذه الوصايا كانت سبباً في الاقتتال بين الاخوة كما في وصية الرشيد لولديه الامين والمآمون والتي كتبها وعلقها على جدار الكعبة المشرفة،والتي ادت فيما بعد الى التنافس والتناحر بين الأخوين فكانت سبباً في قتل الامين بيد اخيه المآمون في بغداد.، وسنحاول اعطاء نماذج من هذه الوصايا التي بها تم التوازن الاجتماعي والاسري والحقوق السياسية والاجتماعية.لكن الذي يعنينا هي وصايا الخليفة المنصور لابنه المهدي الذي اراد له ان يكون رشيداً من بعده حتى لا يسقط في حبال مؤامرات حاضرة الخلافة، بغداد العزيزة عليه التي بناه وصرف عليها 20 مليون من الدنانير الذهبية.وكان يحاسب عماله على الدونق (الفلس اليوم، ) حرصا على اموال الدولة.ياليته يعود اليوم ليرى من يحكم بغداد ماذا فعل بأموالها من اجل نفسه والغرباء الأخرين، أكتب يا تاريخ،؟

بعد ان اخذ المنصور البيعة لابنه المهدي، توجه له بالنصح والارشاد، ورسم له الخطوط العامة التي ينتهجها في حكم رعيته، لتكون بمثابة دستور لدولته، يتضمن الملامح الرئيسية والاساسية التي يرتكز عليها الحكم وتسير بموجبه الدولة، ولهذه الوصايا اهمية بالغة لانها تعتبر بحق حصاد خبرة الرجل وتجربته طوال حياته وسنوات حكمه.نتمنى لحكامنا اليوم وهم في محنة السلطة ان يقرأوا مثل هذه الوصايا ليأخذوا منها العِضاة والعبِر والدرس لتصحيح المسار الخاطىء الذي عليه يسيرون لعلهم يصلوا الى ما يهدفون اليه من امر ولاية الدولة والامة، لا ان ينتقدوا ويخربوا أثار السابقين حقداغير مبررعليهم.

لقد ركز المنصور على وصايا المال والارشاد والمواعظ والوصايا السياسية، على الحاكم ان يقرأ لعله ينتفع:

الوصية المالية

- هذه الوصية تتعلق بأموال الدولة وديونه والتزاماته الاخرى فيقول:"، وأنظر هذه المدينة – يقصد بغداد المدورة-وأياك ان تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الاموال ما ان كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لارزاق الجند والنفقات للرعية ومصلحة الثغور، فأنت لاتزال عزيزا ما دام بيت مالك عامراً. أنظر من يحكمون اليوم كيف بددوا ثروة الوطن بين السرقة والتماهل في الحقوق، فأصبحوا يستجدون الأخرين بكل ذلة ومهانة.وصية مهمة ننقلها لباعة الوطن اليوم، الذين انتهوا الى مزابل التاريخ،

وصايا الارشاد والمواعظ

كانت صفة متداولة بين الخلفاء يقدمونها لمن يخلفهم في ادارة الدولة فيقول لابنه المهدي الذي لمس فيه ضعفا في شخصيته وتقصيرا في ادارته "يا ابا عبدلله استدم النعمة بالشكر، والمعذرة بالعفو، والطاعة بالتآلف، والنصر بالتواضع، ولا تنسى مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله، ولا ترفع اصبعك تكبراً على الاخرين"كما يرفعها اليوم خونة الوطن"، ولا تدعي علما لاتعلمه وامراً لاتدركه، ولا تبرم امر او عهدا حتى تفكر فيه، فأن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه، ، ولا يصلح السلطان الا بالتقوى والعدل، ساعتها ستصلح الرعية بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تجلس مجلسا الا ومعك من اهل العلم من يحدثك، ولا تقبل مستشاراً الا من اهل العلم والعدل والانصاف، وان جدك رسول الله (ص) قال ماخاب من استشار.

وصية بليغة كتبها البلغاء والعلماء واهل العقل، لان العقل هو اساس حياة البشر، ولان الاسلام دين العقل، فلا تهمل عقلك ولا تركن على غير ثقة ولا تقدم المفضول على الافضل، ولاتقرب المنافقين والانتهازين واصحاب الوجوه المتقلبة على الاستقامة، فأن كل عمل تعمله محاسب عليه اليوم وغداً وان حسبت الدنيا اصبحت لك.فليقرؤا خونة الوطن اليوم، ما كتبه هذا الحاكم الخبير

الوصية السياسية

أذا كانت تلك الوصايا والتعاليم التي خلفها المنصور لابنه المهدي تتسم بصفة الوعظ المستعجل والكلام الشفاهي الذي يقال في المناسبات العامة او الخاصة، فأن الوصية السياسية قد اعتنى بها وكتبها بعناية خاصة لانها تمثل حصاد خبرة الرجل في الحكم والسياسة، تلك الخبرة التي حاول مخلصاً ان ينقلها لابنه المهدي على شكل عبارات متلاحقة اشبه ما تكون بالقوانين والقواعد التي لا يراد لها ان تخرق. ونتمنى لمن يدعون بالقادة اليوم ان يقرأوا تلك الوصايا ليتعلموا منها الدرس قبل فوات الاوان لا أن يفكروا بتحطيم تمثاله في بغداد رغبه من الأعداء الذي سحق قادتهم اعداء العراق. ان طول الوثيقة لا يسمح لنا المقال بنشرها، لذا سنحاول اعطاء مقتطفات منها والتعليق عليها

يقول المنصور فيها موجها كلامه لابنه المهدي

".يا بني، أتق الله فيما عهد اليك من امور الناس، اياك والدم الحرام، فانه حوَب عند الله عظيم، والزم الحلال وابتعد عن الحرام، ولا تسعى في الارض فسادا، وأقمع المارقين واقتل الخارجين الظالمين للناس، واحكم بالعدل ولا تشطط، واحفظ بيضة البلاد ولا تتهاون فيها لغريب او عدو، وأفتتح عملك بصلة الرحم والناس ولا تقهر واحدا ولا تظلم أخر، وأياك والاثرة، وتبذير اموال الرعية، ووسع المعاش وسكن العامة ولا تهجر واحدا منهم.واتق الله، فأن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، ولا تؤخر عمل اليوم الى الغد، وباشر الامور بنفسك، ولا تركن على غير ثقة، واسيء الظن بمن حولك من كُتابك ومستشاريك، ولا تنم فأن أباك لم يَنم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينيه غَمض الا وقلبه مستيقظ، هذه وصيتي والله خليفتي عليك".ياليت الحكام الجهلة اليوم يقرأون.

تبدأ الوثيقة بنبرة دينية هادئة، يحث فيها الوالد ولده على العناية بامور الناس والدولة، والابتعاد عن الحرام ولزوم الحلال، واقامة الحدود وعدم التفريط بالوطن، ثم ينتقل بوصيته بعدم الاعتماد على المارقين والمنافقين واصحاب الوجوه المتلونة، الذين لا يؤمنون الا بمصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة العامة، وبكلمة أدق ان هذه الالفاظ المتعددة ليست الا ذات دلالات سياسية واحدة هي المناوؤن للدولة والخارجين على القانون، والذين يريدون اسقاط الحكم بالقوة، والخليفة يريد لدولته ان لا تسقط بعد ان بناها بالعرق والكفاح، وان يؤمنً الامن والامان والكفاية والعدل للناس، فهي تلك شروط الاسلام الصحيح لكنه هو ايضا من الخائنين لها، وليس أسلام الفقهاء المزيف من اصحابالعمائم الملونة قاتلهم الله، وليكن حريصا على المال وبه يصان الوطن، وبكلمة معاصرة السياسة الاقتصادية للدولة، حين يحذره، اياك والتبذير لاموال الرعية، لان المال مال المسلمين لذا فقد اولى هذه الوصية الاهتمام وصاغ كلماتها من اهل الخبرة والاخلاص، فالاوطان فيها عزة الخلافة، وفي ارضاء الشعب المحبة والاستدامة، وأموالها هي أموال العامة وسرقتها حوب عند الله، لذا انظر الى وجوه من خان وسرق تراها وقد تحولت الى ما تشبه الخنازير.

لم تكن وصايا الخليفة المهدي هي الوحيدة التي راجت في ذلك الزمان، فتقف وصية الامام علي (ع) لابنه الحسن كالطود الشامخ في توجيهها وسر مفعولها حين يقول"يابني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، ولا تظلم كما تحب ان لاتُظلم، ولا تقل ما ليس لك فيه علم، ولا تتخذعدو صديقك صديق، وتجرع الغيظ، وخذ على عدوك بالفضل، فأنه احلى الظفر، ولا تركن لخضوع واستكانة، فما اقبح الخضوع عند الحاجة. وكلمات ونصائح اخرى كثيرة على الحاكم والمحكوم ان يقرأها ويتمعن فيها، ففيها صلاح الامة والنفس معاً، فاين الان من يحكمون ويدعون بولاية علي كذبا وزوراً من هذا التوجه القانوني العام؟

نعم ان وصية الخليفة المنصور تعد وثيقة ذات قيمة سياسية وادارية عالية في تلك الحقبة من عمر الدولة العباسية.صادرة من اب رشيد يريد لولده ان يكون رشيدا.نتمنى لمناهجنا الدراسية احتوائها لتتعلم منها الاجيال الحكمة والموعظة وحسن الخلق والالتزام، لا ان تهدم الاثار ويلغى التراث تلبية لأعداء الامة والوطن.

كل الوصايا القرآنية والانسانية سواءً من العلماء او الحكماء او الخلفاء او الامراء كان هدفها ارشاد الناس نحو الصلاح والفلاح والابتعاد عن الاعوجاج حتى تستقيم الحياة ويعطى كل ذي حق حقه بغض النظر عن تطبيق فلسفة الحكم والحاكم.لكن رغم الحكمة والوصايا الكثيرة فأن اغلب الناس لايتعضون، وخير مثال ما فعله العباسيون بأعدائهم حين سلطوا عليهم السيف والنطع ولم ينصاعوا لدين او حكمة او وصية حين قتلوا قادتهم ومن جاء بهم الى سلطة الحكم كأبي سلمة الخلال وابو مسلم الخراساني والبرامكة وبني سهل وغيرهم كثير.لكن الدراسات أثبتت ان هؤلاء تدخلوا في سلطة الدولة فأرادوا لهم دون عامة الناس.فأستحقوا العقاب حسب رأي العباسيين. ولا زال حكامنا الى الان يتقاتلون على ما تقاتل عليه العباسيون فندموا، وسيندمون.

وانا اكتب هذه السطور القليلة لكي اقول ذلك للناس، ليس هناك احسن ولا احلى من الصدق والاعتدال والالتزام بحقوق شرع الله، والا فالكل في خانة الخسارة المحتمة من الخاسرين، اجلا ام عاجلا، ويوم لا تنفعهم لا اموالهم ولا اولادهم ولا هم ما يكنزون، ها تراهم اليوم كيف هم منزوون ومحتقرون لا يستطيعون مواجهة العامة. فعلينا ان نعترف اننا لم نستثمر قرآننا واحاديث نبينا الا للاستهلاك المحلي في ارضاء انفسنا المريضة والبعيدة عن كل صلاح وفلاح وكيف زورناها خدمة للمصالح الخاصة والأخرين.وسنبقى كذلك ان لم نعِ الاية والحكمة والوصية وننقلها من النظرية الى التطبيق، ساعتها سنكون امة لها مقياس حضارة لاكما نراها اليوم؟.

نسئل من يحكمون اليوم اين حقوق النا س في وطنهم العراق؟ وفي سرقة اموالهم وفي بيع وطنهم، وفي قتل اولادهم، وانتهاك حرماتهم،؟

نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة أو بعضها، فأين الكتاب والمؤرخين من تحدي الحكام للشعوب؟.

***

د.عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم