قضايا

كيف نعزز الاهتمام بالمستقبل.. قراءة في تجربة الخبير الدولي المهدي المنجرة

كثيرة هي الحقائق والمعطيات الموجودة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي التي تؤكد أن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة اليوم، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلائها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطورة، وكل مظاهر القوة المادية إلا أن استقرارها السياسي هش وضعيف، ومع أي ضغط أو تحول، نجد التداعي والاهتراء والضعف.

وفي المقابل نجد دولا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام..

فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عينا ساهرة على الأمن ورافد أساسي من روافد الاستقرار. وتخطأ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير.

ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم.

فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة..

فالاستقرار السياسي اليوم، لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيه الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية – ديمقراطية..

فالعراق هذا البلد القوي على الصعيدين الأمني والعسكري، لم يستطع أن يحافظ على نظامه السياسي الشمولي، لكون المجتمع هو الضحية الأولى لهذا النظام القمعي والشمولي..

فالاستقرار السياسي ومن وحي التجربة العراقية والتجارب السياسية الأخرى، لا يأتي من خلال نظام شمولي، يقمع الناس ويوأد تطلعاتهم ويحارب مصالحهم الحقيقية. لذلك نجد أن الدول التي تحكم بأنظمة قمعية وشمولية، هي المهددة أكثر في أمنها واستقرارها..

فالأمن المجرد لا يفضي إلى الاستقرار، والقوة العسكرية بوحدها لا تتمكن من مواجهة تحديات المرحلة.. لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة صياغة وعيها وفهمها لمقولة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية التي ترى أن سبيل الاستقرار، هو المزيد من الإجراءات والاحترازات والتضييق على حريات الناس، رؤية أثبتت التجربة قصورها وخطؤها. فالقمع لا يصنع أمنا واستقرارا، بل يضاعف من عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي..

لهذا فإن المجالين العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى صياغة رؤية ووعي جديد، تجاه مسألة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية السائدة في الكثير من الدول والبلدان لم تحقق الاستقرار، بل على العكس من ذلك تماما.. إذ أي خطر داخلي أو خارجي حقيقي كشف وهم الاستقرار الذي كانت تعيشه العديد من الدول والبلدان..

وفي تقديرنا ورؤيتنا أن مكونات الاستقرار السياسي في المجالين العربي والإسلامي هي:

1- وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، بحيث أن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي بعيدا عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع.. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر..

لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهددة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع.. فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع..

2- وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع. فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره.. لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تنمح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والإستراتيجية.. لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع..

ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المؤاتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع..

3- توفر الحريات السياسية والثقافية.. فلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر.. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها.. لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها.. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في الداخل العربي والإسلامي..

ومن يبحث عن الاستقرار السياسي بعيدا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلا على أوهام القوة والاستقرار.. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم على أكثر من صعيد، تتطلب تجديد فهمنا ووعينا لمعنى الاستقرار السياسي، والانخراط الفعلي في بناء المكونات الأساسية لخيار الأمن والاستقرار..

فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها، إلا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلا بديمقراطية وتنمية مستدامة.. لذلك فإن الخطوة الأولى والإستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعددة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.

وعديدة هي الدول والنخب السائدة، التي تعتقد أن سبيل استقرارها واستمرار سيطرتها وهيمنتها على مجتمعها، هو بالمزيد من الإجراءات والأنظمة التي تكبل المواطنين وتمنعهم من حرية الحركة وتحول دون ممارسة الكثير من حقوقهم ومكتسباتهم المدنية.

لذلك فإن هؤلاء يتعاملون مع مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بوصفه صنو الأمن وتوأم تقييد الحريات وملازماً للكثير من الإجراءات المقيدة للحريات والمانعة من ممارسة الحقوق. وعلى ضوء هذا الفهم للاستقرار وطريق الوصول إليه، فإن هذه النخب مع أي مشكلة تتعرض إليها أو أزمة تصيبها، لا تفكر في أسبابها الحقيقية وموجباتها العميقة، وإنما تعمل على زيادة الاحتياطات والاحترازات الأمنية، وكأن غياب الاستقرار أو تعرضه لبعض الهزات، هو من جراء تراخي الأمن.

وهكذا فإن هذه الرؤية تتعاطى مع مسألة الاستقرار ليس بوصفه محصلة نهائية للعديد من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وإنما بوصفه نتاج القوة المادية وممارستها تجاه الفئات أو النخب الاجتماعية الأخرى.

ومن هنا نفهم طبيعة الخوف والحذر الذي تبديه النخب السائدة في العديد من الدول من الحرية وتوسيع حقائقها وآليات عملها في الفضاء الاجتماعي. فتجعل وفق هذا المنطق قيمة الاستقرار مناقضة لقيمة الحرية وحقوق الإنسان.

وإذا أردنا الاستقرار فعلينا أن نضحي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا سبيل إلى الجمع بين هذه القيم في الفضاء الاجتماعي. فيتم شراء الاستقرار بمنع الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا توفرت في العديد من الدول تقاليد لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، مؤدى هذه التقاليد هو أن طريق الاستقرار هو التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية وبالمزيد من تعظيم دور الإجراءات التنفيذية والعملية كمقيد لحركة الناس وحرياتهم. وفي مقابل هذه الرؤية التي تتعاطى مع مفهوم الاستقرار من زاوية أمنية محضة، هناك رؤية أخرى تحاول أن توفق بين مطلب الاستقرار السياسي والاجتماعي وضرورات الحرية ومتطلبات صيانة حقوق الإنسان.

وانه لا تناقض جوهري بين هذه الضرورات والمتطلبات والاستقرار السياسي والاجتماعي. بل على العكس من ذلك تماماً. حيث أن طريق الاستقرار الحقيقي لا يمر إلا عبر بوابة ممارسة الحرية ونيل الحقوق والمكاسب المدنية. وان أي محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية بين الأمن وحقوق الإنسان، سيفضي إلى المزيد من تدهور الأوضاع وانهدام أسباب الاستقرار الحقيقية.

ويخطئ من يتصور أن طريق الاستقرار يمر عبر التضحية بحريات الناس أو التعدي على حقوقهم، وذلك لأن هذه الممارسات بتأثيراتها المتعددة وانعكاساتها المتباينة، ستزيد من فرص عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع.

فالطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، هو ممارسة الحرية وصيانة الحقوق الإنسانية والمدنية.

ولذلك نجد في المشهد السياسي العالمي، أن الدول التي تنتهك فيها الحقوق وتنعدم فيها فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، هي ذاتها الدول التي تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية وتعيش الاضطرابات الاجتماعية وتعاني الأمرين من جراء غياب معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي الحقيقي.

أما الدول الديمقراطية والتي تصون حقوق مواطنيها وتعمل على تعزيز فرص المشاركة لدى مختلف فئات المجتمع في الحياة العامة، هي الدول التي تعيش الاستقرار والأمن، وهي البعيدة عن موجبات الاندحار وأسباب تدهور الأوضاع.

فالتجارب السياسية والاجتماعية في العديد من مناطق العالم، تعلمنا أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس المزيد من تقييد الحريات، وإنما بصيانة الحرية وتعزيز وقائع وحقائق حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، فكلما توفرت أسباب الحرية وصيانة الحقوق الأساسية في الفضاء الاجتماعي، اضمحلت أسباب الأزمة وتلاشت عوامل النكوص وتدهور الأوضاع.. وخطيئة تاريخية وحضارية كبرى، حينما يتم التعامل مع مفهوم الاستقرار وكأنه مناقض لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان..

لأن هذا الفهم هو الذي يقود إلى الاستبداد بكل صنوفه، بدعوى المحافظة على الاستقرار. ولكن ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب فإن الاستبداد يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي. فبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صيانة استقرارها والمحافظة على أمنها الوطني والقومي.

وكل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية أو السلطة وحقوق الإنسان، هي في المحصلة النهائية دق إسفين في مشروع الاستقرار السياسي والاجتماعي.. لأنه لا يمكن أن نحصل على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، لأن هذه تزيد من تدهور الأوضاع وتؤسس على الصعيدين السياسي والاجتماعي لكل أسباب الاضطراب والفوضى والتمرد. فالعلاقة جد عميقة بين الاستقرار والحرية، فلا حرية بدون استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أنه لا استقرار بدون حرية مؤسسية تسمح لجميع المواطنين من المشاركة في إدارة وتسيير شؤون حياتهم المختلفة.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن العديد من أزماتنا ومشاكلنا في المجالين العربي والإسلامي، هي من جراء الخلل في العلاقة بين الاستقرار والحرية. فالنخب السائدة تسعى من خلال عملها وإجراءاتها إلى تلبية حاجات أحد الأطراف وهو الاستقرار، حتى ولو كانت هذه التلبية على حساب متطلبات وقواعد الحرية.

والنخب السياسية والاجتماعية الأخرى تكافح أيضاً من أجل الحرية دون الأخذ بعين الاعتبار قواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي. وهكذا ومن خلال هذا الخلل ينتج الكثير من المشاكل والأزمات. فالإجراءات التي لا تتحدد بسقف الحرية وحقوق الإنسان، تكون إجراءات ظالمة ومفزعة ومؤسسة للحروب الداخلية الكامنة والصريحة. كما أن المطالبة بالديمقراطية التي لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت المجتمع والوطن، تفضي إلى صراع مفتوح يضيع فيه الاستقرار، كما تتضاءل فيه فرص الحرية والديمقراطية. لذلك فإن عالمنا العربي وهو في سياق تحرره من أزماته الداخلية ومشاكله الذاتية، هو بحاجة إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الاستقرار وحاجاته، والحرية ومتطلباتها.

لأن العلاقة الايجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي البداية الصحيحة للخروج من أزمات الراهن بأقل خسائر ممكنة.. وهنا يتطلب أن تلتفت النخب العربية والإسلامية السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. كما يتطلب من قوى المجتمع الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي.. فنحن بحاجة أن نلتفت إلى متطلبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، كما نحترم قواعد الاستقرار دون التحجر والجمود واليباس.

فالمطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلبات الحرية وحاجات الاستقرار. وذلك من أجل أن ينطلق مجتمعنا في التغيير والتطوير على قواعد متينة من الاستقرار الاجتماعي.. وان التطورات المتسارعة التي تجري في المنطقة اليوم، تجعلنا نؤكد على أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمر عبر المزيد من الإجراءات والاحترازات الأمنية مع أهميتها وضرورتها، وإنما عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته من المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات.

فالاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام.. بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.

وهذه المهام ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة وتتطلب من جميع الأطراف الاهتمام بالنقاط التالية:

1- إن القوة الحقيقية اليوم في أي مجتمع، لا تقاس بمستوى الكفاءة العسكرية أو الإجراءات الأمنية المحكمة، وإنما تقاس القوة اليوم بمستوى الانسجام والرضا بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل مكوناته وتعبيراته. فالدولة التي تمتلك أحدث الأسلحة، ولكنها منفصلة أو مفصولة عن شعبها فهي دولة ضعيفة. وذلك لأن قوتها الحقيقية ليس في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإنما في رضا المجتمع عنها. وفي كفاح المجتمع في الدفاع عنها بكل مؤسساتها وهياكلها.. والدولة التي لا تمتلك الأسلحة الحديثة ولا الثروات الطبيعية الهائلة، إلا أنها تعبير حقيقي عن مجتمعها. فهي دولة قوية لأنها محتضنة من قبل شعبها ومجتمعها.. فقوة الدول ليس في ترسانتها العسكرية، بل في انسجامها مع مجتمعها في خياراتها ومشروعاتها. لذلك كله فإن استقرار الدول اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرة هذه الدول في التفاعل مع قضايا مجتمعها والتعبير عن تطلعاته وحاجاته.

2- إن بناء العلاقة الايجابية والمتطورة بين الدولة والمجتمع في المجال العربي، بحاجة إلى جهود مشتركة بين الطرفين.. فالدولة تتحمل مسؤولية مباشرة في خلق الأجواء والوقائع التي تدفع الواقع صوب التفاعل الايجابي بين الدولة والمجتمع.. كما أن المجتمع بقواه المتعددة يتحمل مسؤولية مباشرة في إطار تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة.. فمؤسسات المجتمع المدني ليست بديلاً عن الدولة، كما أن مؤسسات الدولة ليست بديلاً عن فعاليات المجتمع الأهلية والمدنية.. فالاستقرار السياسي والاجتماعي بحاجة إلى جهود مشتركة ونوعية تقوم بها مؤسسات الدولة كما يقوم بها المجتمع عبر مؤسساته الأهلية والمدنية. فالاستقرار هو نتاج عمل متواصل ومتراكم يتجه صوب تعزيز حرية الإنسان وحقوقه الأساسية، كما أنه لا يغفل أو يتجاهل حاجات المجتمع إلى الأمن والاستقرار..

فالطريق إلى استقرار أوضاع العالم العربي اليوم، بحاجة إلى مبادرات وطنية نوعية تتجه صوب إصلاح الأوضاع وتدشين مرحلة سياسية جديدة قوامها ممارسة الحريات وصيانة حقوق الإنسان.

تجربة المهدي المنجرة

1. يعود تاريخ معرفتي الثقافية بالبرفسور المهدي المنجرة إلى الخطر وزمن أزمة الخليج الثانية. حيث المنطقة آنذاك تعيش لحظة استثنائية على كل المستويات فجاء كتاب الحرب الحضارية الأولى ليعطي تفسيرا مختلفا لطبيعة الصراعات السياسية الموجودة في المنطقة.

2. يؤخذ على بعض المفكرين المثقفين أنهم يتفاعلون في مشروع مقاومة المحتل الأجنبي إلا أن هؤلاء لأسباب عديدة يتجاهلون أو يتغافلون عن مقاومة المستبد الذي يحتكر كل عناصر الحياة على مستوى الداخل العربي والإسلامي. الديكتاتورية السياسية تشكل احتلالا داخليا لمقدرات الأمة وامكاناتها. وثمة علاقة عميقة تربط الاحتلال الأجنبي بالمستند الداخلي. والوقوف ضد المحتل دون تعرية المستبد، يديم أزمات ومشاكل الأمة.

3. ثمة مرحلتان أساسيتان عاشهما المثقف العربي:

1) مرحلة المثقف او الفكر المنتهي الى مشروع حزبي وسياسي. وفي مرحلة من مراحل هذا المشروع يبرز المثقف بعيدا عن إطاره الحزبي لصاله مشروعه الثقافي والمعرفي.

وفي هذه المرحلة يكون المشروع الحزبي والسياسي هو مصدر التثقيف والبناء الفكري والمعرفي.

2) مرحلة الجامعة والبناء الأكاديمي وبرز مثقفون لم يتلزموا بمشروع حزبي وسياسي وانما هم نتاج عمل أكاديمي وبحثي وجامعي. ويبدو أن الدكتور المندرة هو وليد هذا النمط من البروز العلمي والأكاديمي.

وكان الخبير الدولي (المهدي المنجرة) نصير العالم الثالث في كل قضاياه السياسية والتنموية.

4- لسارتر وسائر الوجوديين تأثير كبير في بلورة النظرة الإيجابية إلى المستقبل. فكل إنسان في نظرهم يخلق مستقبله وعليه تقع هذه المسؤولية.

5- يعتبر الاقتصادي الإنجليزي مالتوس صاحب أول محاولة لاستطلاع مستقبل الجنس البشري على أسس علمية. والمؤرخ البريطاني ولز أول من دعا إلى علم المستقبل.

6- وقد شهدت الولايات المتحدة قيام مئات المعاهد والمؤسسات واللجان والمشاريع التي تشتغل بعلوم المستقبل. وقد بلغ عدد المؤسسات في عام 1967م (600) مؤسسة.

ومن أعظم الجمعيات المستقبلية في الولايات المتحدة لجمعية العالمية لدراسة المستقبل. وتأسست عام 1966م لتكون مركزا يجمع وينسق ويوزع المعلومات التي قد تؤثر في المستقبل المنظور.

وفي أوائل عام 1977م كان عدد الأعضاء المنتسبين إلى الجمعية (24) الف عضو ينتمون إلى ثمانين من أقطار العالم.

وتقدر الجمعية مجلة باسم (المستقبل) وهي مجلة استطلاعات المستقبل واتجاهاته وافكاره. وتصدر أيضا الجمعية نشره للنخبة من المعنيين بدراسات المستقبل اسمها نشرة الجمعية العالمية لدراسة المستقبل.

وفي عام 1971 عقدت الجمعية مؤتمرا حضره ألف من المعنيين بالمستقبل. وفي عام 1975 عقدت مؤتمرا ضخما واشترك في ندواته 1800 شخص. وكان حصيلة هذا المؤتمر كتاب (السنوات الخمس والعشرون القادمة الأزمة والفرصة).

7- وثمة ثلاث مستويات لاستشراف المستقبل:

1- المستوى الأول ويتصل بفعالية التخمين أي التأمل المنظم تنظيما عقليا يجعل الباحث يتجه اتجاها معينا في البحث.

2- المستوى الثاني يتعلق بفعالية التنبؤ والتي تأخذ بعين الاعتبار الاحتمالات الخاصة بتواتر وقوع حادثة معينة لتحقيق درجة معينة من استشراف المستقبل.

3- المستوى الثالث يتصل بفعالية النبوءة. وهذا المستوى يتوق إلى تشخيص حادثة معينة والتوصل إلى نتائج محددة بصددها قبل أن تستنفذ الحادثة سياقها.

والسؤال: كيف نعزز الاهتمام بالمستقبل في العالمين العربي والإسلامي؟

الموقف الصلب من الغرب لا يخلق فاعلية سياسية لبناء الواقع السياسي الجديد.

الاهتمام بفكرة الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، هو الذي يؤدي إلى مناخ سياسي واجتماعي جديد.

1- التراث العربي والإسلامي يعاني من مشكلتين أساسيتين:

1. ضمور تراث المحاسبة والمراقبة.

2. ضمور تراث الحقوق وتضخيم تراث الواجبات.

2- من الضروري فك الارتباط بين الاختلافات وانتهاك الحقوق. والدول الإيدلوجية هي طارة لبعض مواطنيها، لذلك فهي دولة البعض وليس الكل. الدولة المدنية العادلة والمعبرة عن كل الخصوصيات والتعبيرات، هي تساهم في تعزيز الاهتمام بالمستقبل.

3- كمال إنسانية الإنسان ونقصانها مرهون بقدر تمتعه بحقوقه وحرياته. فإذا قبض الإنسان على كل حقوقه وحرياته أنجز إنسانيته. ويقدر ما ينقص من الحقوق والحريات تنتقص إنسانية الإنسان.

4- التربية على الحرية:

التحرر المعنوي هو الذي يقود إلى التحرر الخارجي والعلاقة مع الحاجات المادية والنفسية ينبغي أن تكون باتزان واعتدال (احتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحسن إلى من شئت تكن أميره).

فلا حرية بلا مسؤولية ولا مسؤولية بلا حرية. فلكونك حرا فإنك تتحمل مسؤولية اختياراتك وقراراتك. ولكونك مسؤول بإمكانك أن تعبر عن قناعاتك بحرية تامة. ولا حرية بلا أحرار وكل حرية بدونهم هي حرية شكلية والسبل إلى التربية على الحرية:

1- كونوا أحرارا في دنياكم.

2- الموازنة الواعية بين ثقافة الطاعة وثقافة المسؤولية.

3- إحياء وتظهير ثقافة المحاسبة والمراقبة.

4- بناء ثقافة سياسية جديدة تعلي من قيم المواطنة وحقوق الإنسان.

5- العمل على تفكيك مشروعات وخطاب الكراهية ضد المختلف والمغاير وتطوير سياسيات الاعتراف بالآخر المختلف.

قوة المسلمين في حريتهم

إن الإنسان المسلم اليوم، لا يستطيع أن يمارس خصوصيته بكل جوانبها وأبعادها بدون حريته. فشرط ممارسة الخصوصية، هو أن ينال الإنسان المسلم حريته حتى يستطيع أن يوظف كل إمكاناته وقدراته، نحو العمران والتطوير.

فالمطلوب أن ينال الإنسان المسلم حريته، وهي لا توهب، وإنما هي بحاجة إلى جهد وجهاد، سعي وكفاح، تدرج وتواصل، حتى تتراكم تقاليد وآداب الحرية في المحيطين الفردي والجماعي. فقوة العرب والمسلمين في حريتهم، لأنها بوابة الوحدة والإجماع، كما هي الوعاء الذي يستوعب جميع الطاقات والقدرات. ويرتكب خطأ جسيما ذلك الإنسان أو المجتمع، الذي ينشد أن يجسد إحدى القيم الكبرى للإنسانية بدون الحرية والديمقراطية. فلا وحدة بلا حرية، ولا عدالة اجتماعية بدون حرية، ولا مساواة وتكافؤا للفرص بدون الحرية.  فهي بوابة القيم الكبرى وإكسيرها الذي يمنح الحياة لكل قيم الصعود والتقدم والتطور.

فلتتوجه كل طاقاتنا وجهودنا، صوب إرساء دعائمها، وتوفير شروطها وتنظيم واقعنا ومجالنا السياسي والحضاري وفق هداها ومتطلباتها.

والحرية هي التي تعيد صياغة علاقتنا بمفاهيمنا وأفكارنا. فبدل أن تكون علاقة جامدة، اجترارية، سكونية، تتحول بالحرية إلى علاقة تفاعلية، تواصلية، ابتكارية. لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يصرح أن مهمة الإسلام الأساسية، هي إزاحة الأغلال والقيود التي تحول دون ممارسة الإنسان لحريته.. إذ قال تعالى [الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ] (الأعراف، الآية 157).

لذلك نستطع القول: أن المنظومة المفاهيمية (المعيارية) في الإسلام، هي بحق تشكل إستراتيجية متكاملة في إرادة التحرر والانعتاق من كل السلط والديكتاتوريات التي تقف حائلا دون ممارسة حق العبودية المطلقة لله عز وجل وحده. قال تعالى [ قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ] (الأنعام، الآية 162).

وعلى هدى هذه القيم والمبادئ، نخلق فضائنا الحر، ونمارس حريتنا وتعدديتنا، ونجسد حضورنا وشهودنا، ووقائع وحقائق الدفاع عن حريتنا وحرية غيرنا.

فالحرية لا تعني بأي حال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف الاجتماعية، وإنما تعني استخدام إرادتنا والتعامــل مع راهننا بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان.

وإن حاجتنا إلى الحريات وسيادة قيم الديمقراطية في مجتمعاتنا، ليس نابعا من مقولة ضرورة التكيف مع الأوضاع العالمية وتوجهها نحو الديمقراطية، وإنما هو نابع بالدرجة الأولى من حاجتنا إلى هذه الحريات، ومن شوقنا الخالد والدائم للديمقراطية، بحيث تبدأ مجتمعاتنا مسيرة اجتراح تجربتها الديمقراطية وتجسيدها لقيم الحرية في دوائرها المتعددة.

فالمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون انطلاقتنا الحضارية.

فقيمنا ومبادئنا وواقعنا ومآزقه العديدة، هو الذي يدفعنا إلى القول بضرورة التزام الديمقراطية كخيار إستراتيجي سواء على صعيد السلطة ومؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني.

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن " الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة،والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني "(راجع عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية، ص 15).

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولا علاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة.فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.

فالاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية ، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

ولا نعدو الصواب حين القول: أن هذه العملية بحاجة إلى تكريس قيم الحرية والعدالة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأنه إذا توفرت الحريات العامة، توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته، وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن.. ويخطأ من يتصور أن الإقصاء والنفي والقهر والاستبداد كأنماط، هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة وحالة الولاء إلى الوطن.. إننا نرى ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي الكفيلة بتعميق حس المواطنة الصالحة.. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة،ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز..

وحدها الحرية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة وطنه وعزته. وأن القواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تنمية حقائق وحدوية ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم المشتركة دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق.

وفي منظورنا وتقديرنا، أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء.. ولا تواصل فعال ودينامي، بدون تسويد قيم الحرية والنقد والتسامح.. ففي كنف الحرية وثقافة الحوار والتسامح، تذوب الفروقات والاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق.. وفي رحاب النقد البناء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتثرى مصادر التجديد والتطوير في الأمة والوطن.. من هنا فإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، بجعل وعي الاختلاف وعيا جماليا كتنوع أغصان الشجرة.. ومهمة المنابر الإعلامية في هذا الصدد، احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي.. كما أن الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة، هي أن تفتح عقولها وتوفر الاستعداد النفسي اللازم، للقبول بخطاب النقد والإبداع.. ومن الضروري أن يدرك الجميع أن المشاكل في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة للمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك أو من تخريب هذا من بعد إيجاده. وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كما هو شريكا مختلفا مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه واعتباره حافزا على التكامل لا داعيا إلى الافتراق، وقدرة نفسية وعملية تتطلب رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بلحاظ اعتباراته ومعاييره الخاصة. فحوار النخب من الأطر الهامة لاستيعاب عملية النقد والمراجعة، والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج.. كما أن هذا الحوار من الخطوات الجوهرية التي تساهم في تأسيس نظام مشترك وصيغة فعالة للتنسيق والتعاون..

وإننا نعتقد وبشكل عميق، أن قوة المسلمين الحقيقية ليس في ثرواتهم الطبيعية أو مناطقهم الإستراتيجية أو قوتهم العسكرية، وإنما في حريتهم، وقدرة الجميع لممارسة دوره والتعبير عن رأيه وصياغة واقعه العام على أساس الشورى والحرية.. وحينما تغيب الحرية، لا يتمكن المسلمون من الاستفادة من كل عناصر القوة الموجودة لديهم..وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يعانيه المسلمون اليوم. حيث لديهم الكثافة البشرية والثروات الطبيعية الهائلة والموقع الإستراتيجي المتميز، ولكن كل هذه العناصر الحيوية، لا يستفاد منها على أكمل وجه، من جراء غياب الحرية وسيادة نزعات الاستبداد والاستفراد بالرأي والقرار في واقعهم وفضائهم..

وجماع القول: أن الحرية هي بوابة الخير لكل المسلمين وعلى مختلف الصعد والمستويات. ومن يبحث عن قوة المسلمين، فعليه إعطاء الأولوية لمقولة الحرية في حياة المسلمين. فهي منبع القوة الحقيقية للمسلمين، والقادرة على إعادة توازنهم التاريخي واجتراح فرادتهم الحضارية..

الخاتمة

لا شك أن قراءة تجربة الخبير الدولي المهدي المنجرة، يؤكد لنا أهمية الاهتمام بالمستقبل وتطوير مستوى فهم وآليات فهم المستقبل، وذلك حتى نتمكن كمجتمع ووطن وأمة، أن نتجاوز بعض المخاطر والتحديات القادمة إلينا من المستقبل.

وإن تطوير مستوى الاهتمام بالمستقبل يقتضي منا على المستويات الوطنية والاجتماعية والقومية، إلى إنهاء مشاكل الراهن وبناءه بعيدا عن مركبات ووقائع التأخير والتخلف.

وبمقدار ما نتحرر من ربقة التخلف بذات القدر نتمكن من بناء راهننا وحاضرنا بما يتناغم وطموحاتنا وقدراتنا الذاتية والموضوعية.

***

محمد محفوظ

في المثقف اليوم