قضايا

ضد العنف

لجأ الإنسان في تجربته التاریخیة إلى المقدس والتقدیس بصرف النظر عن جوهره وحقیقته وسلامته وصوابیته، لكي یسیطر من خلاله على المخاطر والهواجس المحسوسة وغیرها بوسیلة العنف كنزعة وممارسات تفضي إلى رفع هذه المخاطر وإزالة تلك الهواجس.

لذلك نجد أن الكثیر من الأمم والشعوب، تختزن في ذاكرتها التاریخیة والاجتماعیة العدید من الصور والنماذج التي تتعلق بجملة من الطقوس والشعائر، التي تستهدف تخلیص بعض الاشخاص والاماكن من الدنس أو الرجس عن طریق العنف. وهكذا نسجت علاقة وظیفیة بین التقدیس والعنف.

ولكن العنف كوسیلة بشریة، سواء استخدمت في إطار رفع الدنس كما في بعض الأساطیر والعادات الاجتماعیة، أو لإنهاء الخلافات الإنسانیة أو حسمها، فإنه لم یستطع في الحالتین من رفع الدنس والرجس، وانما اصبح وسیلة للشعوذة وسرقة أموال البسطاء كما أنه فاقم من الخلافات الإنسانیة وزادها اشتعالا وتوترا.

لذلك فإن العنف مهما كان شكله أو وسیلته، فهو لیس وسیلة للاستقرار، أو أداة للتنظیم الاجتماعي.. وإنما هو من خلال التجارب الإنسانیة الطویلة من وسائل الدمار والتخریب مهما كانت دوافع استخدامه ومبررات ممارسته.. ولا یمكن ومن واقع تجربة الإنسان عبر التاریخ ضمان عوامل الاستقرار وانظمة السلم الاجتماعي والحقوق الروحیة والأخلاقیة للبشر بوسائل عنیفة.. وذلك لأن العنف بثقافته الخشنة وتأثیراته الشدیدة، هو الذي یهدم عوامل الاستقرار، ویزیل كل أنظمة السلم الاجتماعي، ویدمر كل الأرضیات التي تقف علیها الأمم والشعوب لنیل حقوقها المعنویة والأخلاقیة.

فالعنف یدمر المكاسب الراهنة، ویعید الجمیع الى الوراء سواء على مستوى الاوضاع العامة او على المستوي النفسي والسلوكي المترتب على هذا الخیار الخطیر.

والدین الإسلامي في إطار نبذه لهذا الخیار، ومحاربته لموجباته النفسیة والاقتصادیة والاجتماعیة، یؤكد على أن كل مؤمن یود لو أن الناس كلهم یجتمعون على الإیمان، ولكن اﷲ تعالى یذكرنا جمیعا بأن هذه لیست سنة اﷲ في الارض، وانما خلق اﷲ الدنیا دارا للابتلاء، ولا یتحقق عند ممارسة الجبر والعنف والإكراه، ویبین اﷲ تعالى لنبیه علیه أفضل الصلاة والسلام وللدعاة جمیعا، انه لو شاء لأكره الناس على الهدى، ولكنه تركهم یختارون الهدى بحریة تامة.. فهل أنت تجبرهم علیه؟ قال اﷲ تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جمیعا أفأنت تكره الناس حتى یكونوا مؤمنین).. (سورة یونس 99).

لذلك فإننا مطالبون دائما، رفض كل الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى تبني خیار العنف على كل المستویات فهو من الأخطار الكبیرة، التي تهدد أمن الأمة ومكاسبها التاریخیة والحضاریة. ومن الأهمیة بمكان أن لا یدفعنا سوء الحال والاحتقانات المعاصرة، إلى تبني خیارات متطرفة وعنیفة.

فالمطلوب في كل الأحوال، هو ضبط النفس والاعتدال، فالرفق یؤدي إلى السلم، ومن كان رفیقا في أمره نال ما یرید من الناس فالعنف لا یوصل إلى غایة مشروعة، ولا یؤسس لممارسة اجتماعیة حضاریة، تزید من فرص البناء والتطور.

والعنف حینما یبرز في المشهد الراهن، والمنطقة تعیش هذه الظروف الحساسة على مختلف الصعد والمستویات.

ینبغي أن یدفعنا هذا البروز، إلى البحث بعمق في الأسباب الجوهریة التي دفعت بهذا الخیار - الكارثة إلى البروز..

وذلك لأن هذا الخیار، یساهم بشكل موضوعي ومباشر في تدمیر المكاسب، ویفجر العدید من القضایا التي تزید من ضغط الأوضاع السیئة على الجمیع.

وإنه قد آن الأوان، لنبذل كل تلك الأسس الفكریة والمجتمعیة التي تسوغ ممارسة العنف ضد المختلف والمغایر..

لأن هذه الأسس هي التي توفر مبررات استخدام العنف.. وبدون محاربة تلك الأسس، ستبقى ظاهرة العنف في الوجود، بمستویات وأشكال متعددة.

فالخطاب النظري الذي یشجع على استخدام العنف والقوة ضد المختلف، هو المسؤول إلى حد بعید في العدید من المناطق العربیة والإسلامیة، من توتر الأوضاع، وتفاقم ظاهرة القتل المجاني.

لذلك فإن إحداث قطعیة قانونیة وعملیة، مع الفكر والثقافة التي تغذي خیار العنف في العالمین العربي والإسلامي، یعد من الضرورات القصوى في هذه الفترة من الزمن.. وإنه بدون تفكیك هذه الثقافة، ستبقى المنطقة برمتها تعیش عدم الاستقرار.

لذلك فإن الوقوف بحزم ضد كل أشكال العنف، التي تهدد الاستقرار والوحدة الوطنیة، یعد من الأولویات الهامة في هذه الفترة، لكون أن العنف الذي یبدأ بالرؤیة العنیفة التي تتغذى من ثقافة التعصب والنبذ والإقصاء، وتصل إلى ممارسة عنف القول والموقف، وتنتهي باستخدام القوة العاریة والغاشمة ضد المختلف والمغایر، تؤسس هذه العملیة بأطوارها ومراحلها المتعددة، إلى واقع مجتمعي مليء بالأحقاد والإحن وسوء الظن، وأشكال الاحتراب الداخلي.

فیدخل الجمیع من جراء ذلك في أتون الحروب المفتوحة على كل الاحتمالات، التي یستخدم فیهما كل الأسلحة والامكانات.. فتتقوض أسس الوحدة الوطنیة، وتتزاید التوترات الداخلیة لذلك فإننا جمیعا بحاجة أن نقف ضد العنف منطقا وثقافة وممارسات وسلوكیات، لأنه من الأخطار التي تهدد الجمیع، ولا ینسجم مع القواعد الفكریة التي تستند علیها مجتمعاتنا العربیة والإسلامیة، ویساهم في تحریف معاركنا وضیاع أولویاتنا. وفي إطار نبذ العنف وتنقیة الواقع من موجباته وعوامله، من الضروریة التأكید على النقاط التالیة:

لعلنا لا نبالغ حین القول: أن الحقل الأول الذي ینبغي أن یتم الاعتناء به في مشروع نبذ العنف ومحاربة التطرف، هو الحقل الثقافي.. بمعنى أن لظاهرة العنف والتطرف في المجالین العربي والإسلامي عوامل ثقافیة وفكریة والمواجهة الحقیقیة لهذه الظاهرة الكارثة تستدعي القیام بعمل ثقافي وفكري متواصل، یؤكد من خلاله على قیم الحوار والتسامح واحترام الرأي الآخر وضرورة حضور المناقبیات الأخلاقیة في الخلافات الفكریة والسیاسیة، وتفكیك الأسس الثقافیة والفكریة لظاهرة العنف والتطرف التي تجدها في ثقافة التعصب الأعمى وأنظمة التفكیر المغلقة التي تتعامل مع الأمور على قاعدة إما أسود أو أبیض، وتعتبر قناعتها وأفكارها وتصوراتها هي المعادل الذاتي للحق والحقیقة.

فالثقافة المطلقة التي تتعاطى مع مفهوم الحقیقة كمفهوم بالإمكان إنجازه والقبض علیه دفعة واحدة، هي الثقافة التي تنتج ظاهرة العنف والتطرف في المجتمعات الإنسانیة. لذلك فإن مواجهة العنف، تقتضي منا مواجهة الأسس الفكریة والثقافیة التي تسند علیها هذه الظاهرة.

وفي إطار مواجهة الأسس الثقافیة لظاهرة العنف، من الضروري أیضا خلق وقائع وحقائق الثقافة البدیلة التي تعتمد على قیم الحوار والتحلیل والنسبیة والعدالة في كل شيء والعفو وحسن الظن.. هذه الترسانة من القیم، التي تتعاطى مع القناعات والأفكار البشریة على قاعدة الحوار وحسن الظن، دون الدخول في متاهات سوء الظن ومحاكمة الضمیر وإطلاق أحكام التكفیر والتخوین.

إن منظومة القیم والمبادئ منظومة متكاملة، وأي فصل تعسفي بین هذه المنظومة یشوهها، ویجعل تطبیق بعض مبادئها جافا ومخالفة لروح وجوهر هذه القیم. والدعوة إلى اﷲ تعالى لما كان الهدف منها إیصال الحق إلى القلوب، لیستقر فیها ویحرك الإنسان باتجاه الفضیلة، فإن من الضروري أن تكون الكلمة الوسیلة الأساس في تحقیق هذا الهدف.

واهم ما في الكلمة أنها لا تستثیر غریزة الصراع مثلما العنف لأن القصد منها مخاطبة الروح والعقل، وهي فعل یثیر التأمل والتفكیر بدل أن یثیر غریزة التحفز والحذر والصراع.. لذلك نجد أن الآیات القرآنیة قررت بكل حزم (أدع إلى سبیل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل - 125) وجزمت أنه (لا إكراه في الدین) (البقرة 256)، لأن الدین عمل إرادي واع یصوغ شخصیة المرء الذي یراد به سیادة العالم والسعادة فیه، ومن دون الاختیار الحر لن یتأتى له ذلك. ویحذر اﷲ تبارك وتعالى رسوله أن یمارس التبلیغ بروح السیطرة والاستعلاء (فذكر إنما أنت مذكر، لست علیهم بمسیطر).. (الغاشیة 22)، ولما كانت الأخلاق تتجلى رقة وحنانا واستیعابا للآخرین، فإننا نلاحظ أن الباري عز وجل یذكر نبیه بالقاعدة الذهبیة للتمكن في الأرض..

 (فبما رحمة من اﷲ لنت لهم ولو كنت فظا غلیظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران - 159)..

فإذا كان هدفنا الأخذ بید الناس إلى عالم الخیر والفضیلة، فلا ینسجم مع هذه الروح إلا أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار الهادف والبناء، هو وحده الذي یضمن النجاح.

فمنظومة القیم التي نتطلع إلى سیادتها، تتطلب منا جمیعا، هو أن نكون نفسیا وعقلیا بمستواها، حتى نتمكن من الالتزام بكل متطلبات هذه المنظومة، لیس فقط على مستوى الهدف والتطلعات، وإنما أیضا على المستوى الأسالیب والوسائل.

إن الهروب إلى الأمام عبر إصلاحات سیاسیة واجتماعیة وثقافیة في العالمین العربي والاسلامي، أضحى الیوم من الضرورات القصوى، لما لهذه الإصلاحات من دور في سحب البساط من كل قوى العنف، وتنقیة الفضاء الاجتماعي من كل حالات الاحتقان التي تساهم بشكل أو بآخر في تولید أفكار العنف في الواقع. فالإصلاحات السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة، هي الرد الاستراتیجي على كل مظاهر التراجع وأشكال العنف والتطرف المتوفرة في الواقعین العربي والإسلامي.. ولعل من الأهمیة بمكان في هذا الإطار، التنویه بالمبادرة التي أطلقها صاحب السمو الملكي الأمیر عبداﷲ بن عبدالعزیز لإصلاح الأوضاع السیاسیة والاقتصادیة في العالم العربي. إذ أن هذه المبادرة تحتضن معالجات حقیقیة وجادة للعدید من المآزق والأزمات، ولا تحتاج إلا إلى إرادة عربیة صلبة ومتواصلة، لتوفیر كل الشروط المطلوبة لتحویل هذه المبادرة إلى واقع ملموس وحقائق راسخة في الحیاة السیاسیة العربیة.

***

أ‌. محمد محفوظ

 

في المثقف اليوم