قضايا

خراب العقلية العراقية وطراز المثقف النيتشوي

(النقد الجذري هو أب المعرفة – فيخته)

لعله من الأمور التي أضحت من المسلمات السوسيولوجية والبديهيات الابستمولوجية، في عرف الغالبية العظمى لتيارات الفكر الاجتماعي المعاصر، إن لتأثير أنماط الواقع وبنى المجتمع ومنظومات الوعي وأنساق الثقافة، مفعول طاغ على توجهات الأفراد وتحديد خياراتهم، مثلما لتطلعات الجماعات وتعين رهاناتهم. لاسيما عندما تكون الأوضاع السياسية مستقرة، والظروف الاجتماعية مؤاتية، والأمور الاقتصادية ملائمة، بحيث تسهم في تأطيرعلاقاتهم ونمذجة سلوكهم  وتنميط تصوراتهم.

ومن نافل القول إن الفاعل الاجتماعي (= المثقف) لا يخرج عن هذا السياق التكاملي إلاّ فيما ندر، للحدّ الذي يتم – في الغالب - استدراجه  للانخراط في أتون سوسيولوجيا السلطة، واستيعابه للاندماج في تطلعات إيديولوجيا النظام، مما قد يضطره هذا التصرف المشين للتخلي عن بعض فضائله المناقبية، والتنازل عن قسم من مزاياه المعرفية، استجابة لإلحاح غرائزه البدائية وانصياعا"لضغوط دوافعه النرجسية. وهنا يقتصر دوره على التبرير أكثر من التنوير، والتورية أكثر من التعرية، والتلميع أكثر من التشنيع. ولربما يكون هذا النمط من المثقفين هو من استدعى المفكر اللبناني (علي حرب) ليجرد ضده حملاته النقدية وصولاته التهكمية، التي لم تطل فقط الفكريات التي يحتكم إليها ويبشر بها، وإنما المنهجيات التي يستلهم أساليبها ويستوحي أنماطها.

ولما كانت سمات الحراك الدينامي والتفاعل الجدلي، تعد من صميم الطبيعة البشرية وجوهر الفاعلية الإنسانية، فان المجتمع سيكون – على الدوام - عرضة  لدوامات التراكم الكمي وتيارات التغيّر الكيفي، بحيث يستلزم تنشيط عناصر الوعي في عقله الجمعي، واستنهاض مقومات التماسك في كيانه الحضاري. لا لكي يحافظ  فقط على حالة التوازن القلق بين مكوناته، ويصون وضعية الاستقرار الحذر في أوالية تفاعلاته فحسب، وإنما لأجل أن يديم عوامل بقائه إلى ما شاء الله، ويضمن شروط استمراره إلى أجل غير مسمى. من هنا يبدأ الدور الاستثنائي والمهمة المصيرية، التي تقع على عاتق النخبة الفكرية وطليعتها (المثقف) الحقيقي، لجهة التخلي عن وظيفته التقليدية كمدافع عن نظام القيم السائدة حتى وان كانت بالية، وكحارس على نسق التصورات المهيمنة حتى وان كانت عقيمة من جهة، والشروع، من جهة أخرى، ليس فقط بغربلة يقينياته وتنقية مسلماته وتصويب مرجعياته، بعد أن ثبت لديه أنها باتت عائقا"جديا"أمام تحرره الفكري وتطوره المعرفي وتنوره المنهجي فحسب، بل وتنكب معول هدم ما شيد في العقلية العراقية من أوثان خرافية، وتحطيم ما أقيم في المتخيل الجمعي العراقي من نصب أسطورية، واجتثاث ما زرع في السكولوجيا الاجتماعية العراقية من إيقونات تشبيحية.

فالداء العضال الذي لم يبرح ينخر أسس الكيان الحضاري للمجتمع العراقي، لا يتأتى علاجه كما أصلاحه بدعاء الشيوخ المتواطئين وتعزيم الدراويش المسيسين وتطمينات المتحزبين الفاسدين، بقدر ما يكمن  في كشف المستور في الإيديولوجيات الأصولية، وإماطة اللثام عن المحظور في الطوباويات الطائفية، وتعرية المطمور في الأخلاقيات القبلية. كل ذلك بالاعتماد على ما استجد في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية، من أفكار مغايرة للمألوف ونظريات معارضة للمعروف، هذا بالإضافة إلى ما اجترح في هذه الميادين من منهجيات حفرية ونقدية وتفكيكية. جعلت من غير المقبول – بالنسبة للمثقف – أن يستمر بالتعويل على خزين معارفه المعلبة ورصيد معلوماته المبتسرة، لكي يقوى على مواجهة الأزمات الداخلية ويتمكن من مجابهة التحديات الخارجية.

ولعل الركون إلى المقاربات الصادمة التي اجترحها الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والانتحاء صوب أنماط تحليله الصاعق للواقع الاجتماعي بكل مكوناته ومستوياته، قمينة بتسهيل وتصويب مهمة (المثقف) العراقي الغيورعلى وطنه والحريص على شعبه ؛ ليس فقط لإدراك طبيعة واقعه السياسي الملغز وفهم خصوصية قيمه الدينية المعقدة، واستيعاب ديناميات علاقاته الاجتماعية الملتبسة فحسب. وإنما بالإضافة إليه لتجريف كل ما علق في الذهنية العراقية من أوهام الدين وأباطيل التاريخ، فضلا"عن تحطيم كل ما كانت تبتهل إليه وتتعبد في محرابه من أصنام السياسة وأوثان الايديولوجيا.

فالداء العضال الذي تعانيه تلك الذهنية بات من الاستعصاء على الشفاء حدا"لم تعد تنفع معه العلاجات الترقيعية والمحاولات الإصلاحية، بقدر ما يستلزم الإسراع بالاستئصال الجذري لكل ما تراكم فيها وعليها وحولها من عفن الأساطير والخرافات من كل شاكلة وطراز، بحيث حفرت فيها أخاديد غائرة وشيدت عليها مواقع حصينة، أضحى من الصعب إن لم يكن المستحيل تركها تنخر في بنيتها وتفت في عضدها وتعبث في مصيرها.

وهو الأمر الذي يتوجب على المثقف العراقي الأصيل، الذي لم يبرح يحتكم على وازع وطني  للبحث في إشكاليات العقلية العراقية، حيث لا زالت تطرح تساؤلات مصيرية دون أن تحظى بإجابات واقعية، منذ إن تحددت ملامحها السوسيولوجية وتبلورت خصائصها الابستمولوجية، فضلا"عن الغوص عميقا"لسبر أغوارها والسعي حثيثا"لمعرفة أسرارها، ناهيك عن اقتحام حقول محرماتها الدينية وممنوعاتها القيمية، للكشف عما أضمرته في لا وعيها الجمعي، والبوح بما طمرته في ذاكرتها المخيالية. نقول بات يتوجب عليه – لكي يكون بمقدوره مواجهة هذه التحديات الخطيرة، مثلما قدح زناد فكره لانجاز تلك المهمات الجسيمة – أن يحمل (مطرقة) التحطيم لكل ما تواضعت عليه أنماط وعينا الشقي من أوهام مبجلة، ويتنكب معول الهدم لمجمل ما تكيفت معه منظومات ثقافتنا البائسة من أكاذيب.

ولعل اختيارنا لهذا الطراز من المثقفين النقديين، لا يرتبط بأي نزعة من نوازع النهلستية (العدمية) التي حاول البعض إلصاقها بفلسفة (فردريك نيتشه) أحد أبرز نقاد العصر الحداثي، على خلفية نقد التيار الماركسي لما سماه (جورج لوكاتش) مظاهر اللاعقلانية في الفلسفة الغربية كما جاء بكتابه (تحطيم العقل)، بقدر ما نريد للمثقف العراقي أن يوظف منهجياته النقدية ويستثمر مقارباته المعرفية الحادة، ليس فقط للكشف عن الأسباب المضمرة التي تكبّل العقلية العراقية من تجاوز التباساتها وتخطي انحرافاتها فحسب، كما ليس فقط لإماطة اللثام عن الدوافع العميقة التي تحول دون تغلبها على عوامل كبوتها ومصادر نكوصها فحسب. إنما لإزاحة كل ما تراكم حولها من ترهات تاريخية لإخفاء شقاقيتها، وإزالة كل ما ترسب عليها من تلفيقات سوسيولوجية لطمر عدوانيتها، واستئصال كل ما زرع فيها من تهويمات انثروبولوجية لستر عنفها. وتعبيرا"عن هذا المنحى النقدي فقد كتب (نيتشه) في كتابه الموسوم: هذا الإنسان يقول (إنني لا أقيم أوثانا"جديدة؛ إنني لا أريد سوى أن تتعلم الأوثان القديمة ماذا يعني أن تكون أقدامها من صلصال. أن  أطيح بالأوثان هو عين مهمتي. وبقدر ما اخترعنا عالما"مثاليا"، بقدر ما جرّدنا الواقع من قيمته ومعناه وحقيقته).

وهكذا فان مهام هذا الطراز من المثقفين (النتشويين) – إن جاز لنا استخدام هذا التعبير -  لا يمكن بعد الآن أن تقتصر – في ضوء ما استمطرته سماء السياسة الصبيانية فوق أديم هذا البلد المستباح من بلايا ورزايا -  على لعن هذه الفئة أو تلك، أو استنكار هذا الحزب أو ذاك، أو استهجان هذا الموقف أو ذاك من جهة، واستنهاض حمية الأفراد والجماعات للاحتكام إلى بقايا رموز وطنية، واستصراخ وعي المرجعيات والزعامات للالتجاء إلى شظايا قيم عراقية من جهة أخرى. بقدر ما باتت تتطلب إعمال الحفر من الجذور لمأسستها، والتنقيب من الأعماق لتنقيتها، والانطلاق من الأصول لعقلنتها، والشروع من البدايات لانسنتها. إذ إن (أفكار الوعظ الأخلاقي – كما يعلن (نيتشه) في مفتتح كتابه : مولد التراجيديا – الرامية إلى إصلاح الكثير من الجوانب في المجتمع البشري، عن طريق جهود الترميم التي يبذلها، هي أشبه بالتبول في مياه البحر).

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم