قضايا

في ذكرى ميلاده 133.. عندما أَضاء طه حسين حياتنا

نهضت بنا جيلاً وأبقيت بعدنا

لأبنائنا ما يحمدون به المسعى

أبا الفكـــــر تستوحي مــن العقل فذّه

وذا الأدب الغضّ استثرت به الطبعا

محمد مهدي الجواهري

قبل مئة عام، اجرت مجلة الهلال حوارا مع بعض المفكرين والادباء العرب عن موقف الشرق من النهضة الغربية الحديثة، وكان ضمن الذين طرح عليهم هذا السؤال الدكتور طه حسين والذي كان يبلغ من العمر آنذاك " 33 " عاما ". اجاب طه حسين على السؤال بالقول: علينا ان ننهض في فروع الحياة جميعا..الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية، وسواء ارد العرب ام لم يريدوا فسيتصلون اتصالا قويا متينا باوربا بكل فرع من فروع الحياة..

بعد مئة عام على حديث طه حسين نطرح نفس السؤال: ترى ما هو موقفنا من الحضارة الغربية بفروعها الفكرية والثقافية والفنية؟ وهل استطعنا ان نعيد صياغة فكرة التنوير الغربي التي كان شعارها " ان العقل يعلو مع الحرية ". ارتبطت فكرة التنوير في عصرنا الحديث باسماء عدد من المفكرين الأدباء الذين ذهبوا في بعثات الى أوروبا أو اطلعوا على الحركات الفكرية التي عمّت الغرب..وكان أبرزهم محمد عبدة، وجمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد لطفي السيد واسماعيل مظهر وشبلي شميل جميل صدقي الزهاوي، سلامة موسى، معروف الرصافي وطه حسين.

وعلى العكس من التنوير الأوروبي الذي ارتبط بالثورة العلمية في مجال الرياضيات والفلك والكيمياء على أيدي غاليلو ونيوتن وديكارت وكانط، وبالرغبة في تحرير العقل وتحرير المجتمع سياسياً واقتصادياً من قيود الحكم الاقطاعي والملكي والكنسي على يد جون لوك ورسو وفولتير وهيوم وديدرو..فان التنوير في البلدان العربية اقترن بالنزعة الوطنية.. ورغم أن التنوير الأوروبي قام على أساس المساواة الإنسانية بصرف النظر عن القوميات والأوطان، إلا أنه قام في البلدان العربية على أساس اكتشاف الذات أو الثقافة الوطنية والقومية ومعرفتها وتقييمها والدفاع عنها باعتبارها وعاءً للضمير الوطني وحاجزاً يحمي من الذوبان في ثقافة المستعمر الذي كان يسيطر على معظم البلدان العربية والمختلف ثقافياً، كما أدى الى المطالبة بالاستقلال والحرية والى اندماج قضايا الاستقلال الوطني مع قضايا الديمقراطية السياسية والعدل الاجتماعي لتنتج تياراً فكرياً نادى بالاستقلال وأيضاً طالب بإصلاح التعليم وحرية المرأة والاستعانة بعلوم الغرب الحديثة وإعلاء شأن الحرية الفردية. فينا اصر طه حسين على ان نهضة الامم لايمكن ان تقوم من دون اصلاح تعليمي وثقافي فاطلق صرخته في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر قائلا:" ليس يُغني البلاد ولا يكفل لها استقلالها بأن يكون لها جيش قوي يذود عن حدودها، إذا كان دون هذه الحدود شعب جاهل غافل، لا يستطيع أن يستثمر مصادر ثروته، ولا أن يستقلّ بتدبير مرافقه، ولا أن يفرض احترامه على الأجنبي بمُشاركته في تنمية الحضارة الإنسانية.

 لم يكن صاحبنا الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده الـ " 133 " مجرد اديب، او مؤرخ، بل كان ظاهرة انسانية وثقافية، تركت اعمق الأثر في مسيرة النهضة العربية. في كتابها " اوراق شخصية " تصف لنا الكاتبة لطفية الزيات جنازة طه حسين التي تحولت الى وداع شعبي:" شعرت أنى أشيع عصرا لا رجلاً، عصر العلمانيين الذين جرأوا على مساءلة كل شىء، عصر المفكرين الذين عاشوا ما يقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة، على إرادة كل ألوان القهر".

في كل مرة أقرأ فيها احد كتب طه حسين اسأل نفسي: كيف استطاع هذا الرجل الذي حرم من البصر ان يضيء حياتا ويمنحنا كل هذه الاعمال التي تعد اليوم جزء من حركة النهضة العربية المعاصرة ن إن لم تكن ابرزها واكثرها عمقا.

في كل مرة نعود فيها لكتب طه حسين، نسأل انفسنا: كيف قرأنا اعمال هذا المفكر، وبأية احاسيس ومشاعر تعيش معنا، مثلما لا يزال يعيش معنا الطفل الفقير الذي ولد في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1889 لعائلة فقيرة في إحدى قرى مصر، يصف هذا الطفل في كتابه الايام بانه كان ضعيفا، نحيلاً، لا يختلف عن عشرات الآلاف من ابناء الفلاحين الذين يولدون كل يوم. كان والده يعمل موظفا صغيرا بمصنع السكر براتب شهري قدره اربعة جنيهات، تزوج من امراة انجبت له بنتين، ثم تزوج من اخرى انجبت له احد عشر ابنا وبنتا، كان " طه " هو الخامس بينهم.. وهذه العائلة الكبيرة مع الراتب الشهري الهزيل، اسفر عن حياة شاقة وقاسية:" كان له ابناء كثيرون، ويحرص على تعليمهم وتهذيبهم، وكان فقيرا لايستطيع ان يؤدي نفقات ذلك التعليم، وكان يستدين من حين الى حين، ويثقل عليه اداء الدين، وكان يطمع في ان يزداد راتبه من حين الى حين، وكان يطمع في ان يتقدم درجة وينتقل من عمل الى عمل، وكان يلتمس هذا كله عند الله بالصلاة والدعاء والاستخارة " – الايام الجزء الاول –، في هذه الظروف الصعبة، ماذا يحدث حين يصاب احد الابناء العديدين بالرمد.. هل ثمة غير الاهمال والعلاج البدائي؟.. وهكذا قدر للطفل " طه " ان يواجه قدره منذ سن مبكرة، فقد رمد وعمرة اقل من ست سنوات، فأُهمل اياما، ثم دعي حلاق القرية فعالجه علاجا مغلوطا، وفي اليوم التالي وقبل ان يتم عامه السادس، فقد بصره، وبدا صراعه الاسطوري مع تلك الأفة التي شكلت شخصيته وطريقة تفكيره. ومنذ تلك اللحظة يحدد طه حسين الوقت بطريقة غريبة، فهو يتعرف عليه عن طريق وصفه لاستجابة بشرته للبرد والحرارة:" يذكر أن وجهه هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذيلم تذهب به حرارة الشمس ".

لكن صاحب الايام سوف يكره أن تسير ايامه متشابهة كانها من التكرار يوم واحد، فأكثر في الايام من الانتقالات، على نحو اشبه بالوثبات:" ولكن ذاكرة الاطفال غريبة، او قل ذاكرة الانسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة، فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم تمحى منها البعض الاخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد ".

في سن الثالثة عشرة سيهبط الصبي طه حسين الى القاهرة مع اخيه ليدرس في الازهر، وسنجده سعيدا وهو يجلس الى حلقات الدرس، يتذكر ما قاله له ابيه:" اني لارجو ان اعيش حتى ارى اخاك قاضيا واراك صاحب عمود في الازهر "، في الازهر يخوض اولى معاركه، حين يذهب الى اساتذته ليسمع منهم، ويكتشف خطأ ما فيصطدم بهؤلاء الاساتذة، ولا تخلو هذه المعارك من صدام اليم:" وفي ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول، فلما طال الجدل غضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة: (اسكت يا اعمى ما انت وذاك) فغضب الفتى واجاب الشيخ في حدة: ان طول اللسان لم يثبت قط حقا ولم يمح باطلا "

بعدها دخل الجامعة المصرية، ثم أمضى أربع سنوات في فرنسا حيث تبلورت أفكاره الثقافية والاجتماعية، هناك يتعرف على منهج ديكارت بشكل اوسع واشمل ويكتب ان سر خلود ديكارت وبقائه كتابه مقالة في المنهج:" يرى ديكارت ان اول ما يلزم للمعرفة والانسان الواعي، هو الشعور بضرورة المنهج، ثم ايجاده، وتطبيقه في مجالي النظر والعمل جميعا "، وسيحاول ان يطبق منهج الشك الديكارتي على دراسة الادب والشعر العربي:" اريد ان اصنع في الادب المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الاشياء في اول هذا العصر الحديث. والناس يعلمون جميعا ان القاعدة الاساسية لهذا المنهج هي ان يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وان يستقبل موضوعه خالي الذهن خلوا تاما " - كتاب في الشعر الجاهلي -. يذهب هادي العلوي الى ان طه حسين تجاوز ديكارت " ليدخل عميقا في الديالكتيك، ومن هنا فان كتابه في الشعر الجاهلي ثورة في الثقافة العربية، وقد هز بعنف عقلية الفترة المظلمة " – هادي العلوي طه حسين والتعصب الديني –

والآن اعود الى السؤال المهم: كيف اضاء طه حسين حياتنا؟ ربما تبدو السؤال ساذجا خصوصا بعد مرور اكثر من قرن على حضور طه حسين في المشهد الثقافي، وهو ما يجعل البعض يقول ان افكاره اصبحت من الماضي، الامر الذي جعل محمود امين العالم يكتب:" ان مجموعة كتبه التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية، إنما هي نموذج رائع للمشاركة الفعالة في التعبير عن الحياة الاجتماعية بل وصياغتها كذلك، وبهذا المعنى نعتبر الدكتور طه حسين فيلسوفا، فان حياته هي فكره، وفكره كان حياته دائما، وكانت حياته وكان فكره، حياة وفكرا للثقافة العربية لأكثر من نصف قرن، وستظل هذه الحياة وهذا الفكر منارة ملهمة وهادية لنا ولأجيال عديدة من بعدنا " – الانسان موقف –

في مرحلة مبكرة من حياته يقف طه حسين ضد الجهل وعبودية دولة الخرافة وفي كتاب صغير بعنوان " من بعيد " صدر عام 1935، لم ينتبه اليه القراء كثيرا حيث طغى " الايام " ومعه " الشعر الجاهلي " على كتاباته الاخرى، نجده يواجه التزمت الديني مواجهة جذرية، ويهاجم بعنف مناهج الازهر التعليمية، وجهل شيوخه، وكان في ذلك يؤكد على فصل الدين عن الدولة، والى سيادة العلمانية. ويؤكد طه حسن انه بدون الحرية لن بوسعنا المضي في مشروع المستقبل وهو مشروع اشاعة التعليم:" فنحن إذن لا نستطيع ان نبلغ من النقد ما نريد إلا اذا أمن احدنا من ان يشاع عنه الكفر والالحاد إذا بحث بحثا عقليا صحيحا في قضية من قضايا الفلسفة والدين ". ويذهب طه حسين في " من بعيد " الى ان الخصومة بين الدين والعلم امر حتمي:" يخاف الدين من كل فلسفة وكل علم، ويرتاب العلم بكل دين. ومن ذلك الوقت تحدد موقف السياسة بين هذين الخصمين، وظهر ان لن يكون موقف اصلاح بينهما، وإنما هو موقف افساد واحراج واثارة للحفيظة والحقد".  

طه حسين الذي اصبح وهو في عمر الثلاثين بعد عودته من باريس عام 1919 محور الحياة الادبية والسياسية والثقافية في مصر، أستاذاً للعربية ثم عميداً لكلية الآداب ثم وزيراً للمعارف، ولعل أهم نتاجه في الفكر الاجتماعي كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " الذي نشره عام 1938 والذي يضع فيه فلسفته للمجتمع والثقافة ومفهومه للعدل والقانون تأثر فيها بابن خلدون وبكتاب فرنسيين من أمثال اناتول فرانس و أوغست كونت وفكتور هيغو ونجده يستلهم الكثير من أفكار هيجو حول العدالة الاجتماعية فيكتب إن:" العلاج الوحيد هو تبديل النظام الاجتماعي لإحداث مجالات جديدة والقضاء على تفاوت الثروات، وتأمين حياة كريمة للفقراء وإتاحة التعليم للجميع بالتساوي "، في " مستقبل الثقافة في مصر يؤكد طه حسين ان الحرية لاتستقيم مع الجهل، وهو يربط بين التعليم والحرية:" يجب ان يتعلم الشعب الى اقصى حدود التعليم، ففي ذلك وحده الوسيلة لان يعرف الشعب مواضع الظلم ".. ينظر طه حسين الى الثقافة على انها ليست قادرة فقط على خلق جيل جديد، وانما ايضا على استعادة الماضي استعادة خلاقة، ولهذا فهو ينظر الى الثقافة والتعليم بوصفهما اساسيين للحضارة والاستقلال السياسي، فالهوية الحضارية او الثقافية هي الشرط الاساسي لانتاج هوية سياسية للامة.

ونحن نتابع سيرة طه حسين المثيرة اقف عند اصرار هذا الطفل الضرير ان يصبح طه حسين الذي نعرفه اليوم. كيف استطاع ان ينجوا من مصير مئات الآلاف من الاطفال الفقراء المنسيين، ليجلس على قمة الثقافة العربية لاكثر من قرن.. وكيف تمكن ان يصبح الوريث الشرعي للتراث الفكري المستنير بدءا بابن رشد وليس انتهاء باحمد لطفي السيد ابرز الدعاة الى فلسفة ارسطو وجعل من فلسفة ارسطو اساسا من اسس التفكير الحديث في الثقافة العراقية.. الم يكتب لنا طه حسين في " مرأة الضمير الحدبث " ان:" تغيير الاشياء لا يكون بالكلام الذي يقال عن اخلاص او تكلف، وعن تفكير او اندفاع، وانما يكون بالعمل الذي ينقل الاشياء من طور الى طور ".

فتح لنا عميد الادب عوالم وآفاقاً ما نزال نكتشفها منذ ان قرأنا الجملة الاولى في كتاب "الأيام" التي يقول فيها: " لايذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع ان يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع ان يتذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وانما يقرَب ذلك تقريبا، واكبر ظنه ان هذا اليوم يقع من ذلك اليوم في فجره او في عشائه، يرجح ذلك لأنه يذكر ان وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس "..

يجسد طه حسين صورة المثقف المستنير، الذي حاز على ثقافة متنورة، وحين عاد الى بلاده من فرنسا، عاد ليقاتل من اجل مجتمع جديد، تلعب فيه الثقافة دورا مركزيا، وتساعد المعرفة على تحويل علاقات المجتمع كلها، وتساهم في عملية بناء مجتمع المعرفة والتعليم يتخذ من العقلانية منهجا " فكل شيء قابل للتفسير عقلانيا "، وهو المنهج الذي استمده من ديكارت وهو يخبرنا بهذا التاثير في مقدمة كتابه في الشعر الجاهلي قائلا:" اريد ان اصطنع في الادب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الاشياء في اول هذا العصر الحديث.. والناس جميعا يعلمون ان هذا المنهج الذي سخط عليه انصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، كان من اخصب المناهج اثرا وانه قد جدد العلم والفلسفة.. وانت ترى ان منهج ديكارت هذا ليس خصبا في العلم والفلسفة والادب فحسب، وانما هو خصب في الاخلاق والحياة الاجتماعية ايضا "، ولعل طه حسين اراد بوصفه مفكرا عقلانيا ان يخلص البحث من العواطف والافكار القديمة التي تقف عائقا امام المعرفة الحقيقية.

طه حسين الذي أضاء حياتنا بوصفه مثقفا جمع بين الفكر والممارسة في وحدة متماسكة، قدم لنا المثل لما ينبغي ان يكون عليه المثقف والكاتب في بلدان يسيطر عليها التخلف والتبعية للماضي. وطوال حياته التي بلغت الـ " 84 " عاما – توفي في الثامن والعشرين من تشرين الاول عام 1973 – خاض معاركه قولاً وفعلاً، لم يتعب او يستكين، تنقل من معركة الى معركة، وكل معاركه هدفها اشاعة التعليم وتحرير العقول وتحديث المجتمع، مؤمنا بالدور الحاسم الذي يجب ان تلعبه النخب الثقافية التي عليها ان تتبنى مشروعا تنويرا يسعى الى توسيع قاعدة الناس القادرين على تغيير واقعهم.

***

علي حسين

في المثقف اليوم