قضايا

صراع العقيدة والمعتقد.. بين الفتاوى الدينية والتعاويذ الطائفية!!

كثيرا "ما يتساءل الناس عن الأسباب الكامنة وراء فشل المرجعيات الدينية، على حمل أتباعهم من الطائفتين السنية والشيعية حيال التقيد بفحوى الفتاوى التي تصدرها؛ سواء لجهة الامتناع عن القيام بعمل ما أو اتخاذ موقف معين، يتعارض مع جوهر العقيدة الدينية التي يؤمنون بها وينخرطون في طقوسها ويمارسون شعائرها، أو بالعكس لجهة تشجيعهم على لعب دور من الأدوار الوطنية والاجتماعية، أو حثهم على ممارسة ضرب من ضروب السلوكيات الأخلاقية والإنسانية. باعتبار إن محور العقيدة الدينية قائم على مراعاة حسن التعامل بين الذات والآخر على أسس من الفضيلة من جهة، ونبذ كل ما من شأنه إثارة الكراهية بين الناس وإشاعة الرذيلة بينهم من جهة أخرى.

والواقع إن تساءل كهذا ناجم عن جهل الفارق النوعي القائم ما بين العقيدة الدينية والاعتقاد الطائفي أو المذهبي، بحيث تختلط الأمور في أذهان من يندهشون لتصرفات أتباع الطوائف المعنية خلافا "لفتاوى مراجعهم. وإذا ما وضعنا نصب أعيننا مسلمة تفيد بان العقيدة الدينية تعنى بالعبادات اللاهوتية، في حين يهتم المعتقد الطائفي – أو أي معتقد – بالمعاملات / التعاملات الاناسية، أدركنا من فورنا سرّ هذا التناقض بين أقوال المريدين والأتباع وأفعالهم، دون أن يشعر أحدهم بالحرج أو بالندم حيال هذا التصرف المنافي لأبسط القواعد المنطقية!.

ولكن لماذا يحدث هذا الأمر، أو بمعنى آخر لماذا يتغلب الدافع الإنساني على الوازع الديني؟! الواقع إن الإنسان – كما هو معروف – تتنازعه الكثير من العوامل وتتقاذفه العديد من الأهواء؛ منها المادي والروحي، الغريزي والثقافي، الشخصي والاجتماعي، النفسي والاجتماعي، العاطفي والعقلي، الأسطوري والتاريخي، الأناني والإنساني.. الخ. وان غلبة عامل على آخر وترجيح عنصر عن سواه رهبن بعدة عوامل منها؛ ظروف اجتماعية متنوعة، وأوضاع اقتصادية مختلفة، ومعطيات سياسية متباين، وسياقات حضارية متفاوتة. فإذا ما وضع الإنسان في بيئة حاضنة للعوامل الايجابية تهذب وعيه وتشذب سلوكه،استطاع من ثم التمييز ما بين الشر والخير، ما بين الحق والباطل، ما بين الأخلاق والنفاق، ما بين التحضر والتبربر.أما إذا ما اضطر للعيش في محيط يساعد على نمو العوامل السلبية؛ تخلف في العلاقات، وتطرف في الذهنيات، وعنف في السلوكيات، فان هذا سيكون مدعاة لتحوله إلى فاعل أثرة فردية أكثر منه إيثار اجتماعي، وعنصر رذائل أكثر منه فضائل، وعنصر هدم أكثر منه بناء.

صحيح إن الإنسان لا يعيش على رغيف الخبز وحده، كما جادلت أدبيات نقد الطروحات الاقتصادية للماركسية، ولكن بنفس المقدار من الصحة إن الإنسان ذاته، لا يحيى بالمثل الأفلاطونية وحدها، إذ انه أولا"وأخيرا"كائن اجتماعي فيه من الغرائز والنوازع بقدر ما فيه من الموانع والروادع، لا بل إن الأولى أسبق في الوجود من الثانية فيما لو نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر فلسفية. ولما كانت الأجواء التي يعيش في كنفها الإنسان أجواء ملبدة بكل مبوقات الحاضر، ويتغذى من تصورات موبوءة بكل عفونات الماضي، فقد تتشبع شخصيته بنظرة للأمور ملئها الازدراء والاحتقار لكل ما يتسامى بعقله عن الخرافات والترفع بسلوكه عن الطفيليات، وبالتالي قياس الواقع بمنظار المصلحة الشخصية حتى وان كانت تتعارض مع المصلحة العامة، والتعامل مع المجتمع بمعيار الفائدة الآنية حتى وان كانت تتقاطع مع الشرعية الأخلاقية. وهكذا فهو لا ينخرط بأي نشاط سياسي إلاّ بمقدار ما يدر عليه من مناصب أو مكاسب، ولا يتورط بأي عقيدة دينية إلاّ بكفالة شرعنة انحرافاته أو تجاوزاته، ولا يقوم بأي نشاط ثقافي إلاّ بعد أن يتأكد انه سيكرّم وينعّم.

وإذا ما نظرنا إلى تجربة المجتمع العراقي في هذا المضمار، لاسيما حيال ازدواجيته الفاضحة بين الدين والتدين (العقيدة الدينية والمعتقد الطائفي)، فان الشخصية العراقية ستضرب لنا أسطع الأمثلة وستقدم لنا أبلغ البراهين. فعلى مدى زمن العقدين المنصرمين - بعيد سقوط النظام السابق - وقعت أحداث رهيبة وحصلت مواقف مفزعة، بحيث استدعت هذه وتلك تدخل المرجعيات الدينية من كلا الطائفتين، ليس فقط بإعلان رفضها ومعارضتها لتلك الممارسات اللاانسانية واللاأخلاقية فحسب، وإنما والإفتاء بتحريم تعاطيها والدعوة لتجريم مرتكبيها. إلاّ أن كل تلك الفتاوى والدعوات – بصرف النظر عن جدية إطلاقها - لم تجد لها آذان صاغية وذهب صداها أدراج الرياح من لدن الأتباع والمريدين، بحيث تتحول لديهم إلى سلوك ملتزم ومواقف مسؤولة، لأجل إيقاف عمليات السلب والنهب للمؤسسات والإقلاع عن ممارسات القتل على الهويات، بعد أن غلبت مكاسب (المعتقد الطائفي) على مطالب (العقيدة الدينية).

ولما كانت هذه الأخيرة تهتم بالعبادات / الروحانيات، وان الأول يميل نحو المعاملات / الماديات – كما أوضحنا سابقا"- فان معظم الذين يرجحون كفة (التدين) عل (الدين) – وهم في الغالب أصحاب المعتقد الطائفي – سيكونون على استعداد ذهني ونفسي وأخلاقي، لتقبل ما يتمخض عن رجال الدين / الطوائف من فتاوى تلامس نوازعهم الدفينة وتلبي رغباتهم المكبوتة من جهة، وإهمال وتجاهل كل ما يشعرون انه يتعارض وتلك النوازع ويتناقض وتلك الرغبات من جهة أخرى. طالما أنهم يحتكمون إلى قناعة راسخة مؤداها؛ إن الأولى (العقيدة) لا تستجيب لما يتوقعونه منها من طموحات ويعولون عليها من آمال، هذا في حين إن الثاني (المعتقد) لا يبرر لهم فقط مواقفهم الشائنة ولا يسوّغ لهم ممارساتهم المدانة فحسب، بل وكذلك يحضّهم على تعاطيها تحت غطاء الدين ومن خلف ستار المحرّم. ولهذا فحالما ينطق رجل الدين / الطائفة بفتوى معينة تحمل معنى المعتقد الطائفي، حتى تستحيل سلطتها - بالنسبة للأتباع - إلى ما يشبه التعاويذ السحرية، التي ما أن يطلقها الساحر من عقالها حتى يفقد السيطرة عليها، ولا يعود يمتلك زمام أمورها والتحكم بها، بل إنها تتبع قوانينها الخاصة وتنصاع لمنطقها الذاتي.

وكما في كل أنماط التعاويذ السحرية التي تستهدف عادة إلحاق الأذى بالخصوم وإيقاع الضرر بالأعداء، فان فتاوى المعتقد الطائفي سرعان ما تنتظم ضمن هذا النسق من الإيحاءات المحفزة لطاقة الأتباع والمريدين، بحيث يغدو اللجوء إلى العنف ضد (الآخر) الطائفي نوع من أنواع التطهر الذاتي من الدنس، كما ويصبح انتهاج سياسة استئصال (المغاير) ضرب من ضروب التعالي المذهبي والتماهي بالمقدس. وهكذا ينشأ صراع خفي بين مضامين (العقيدة الدينية) و(المعتقد الطائفي)، لا يلبث سعاره أن ينتشر صوب العلاقة بين (الدين) و(التدين)، غالبا"ما تكون النتيجة لصالح الأخير على حساب الأول وبالضد من مبادئه وقيمه ورموزه. وهو الأمر الذي يصعّد لهجة العداء بين الطوائف كجماعات سوسيولوجية مختلفة، وبين المذاهب كفقهيات دينية متباينة، وبالنتيجة حصول التخاصم في الخطابات والتصادم في العلاقات، على خلفية دعاوى التكفير الديني والتنكير الاجتماعي والتنفير النفسي.

ولعل تعاطي بعض ممثلي الطوائف / المذاهب مع الفتاوى الدينية، بصور لا تنم عن الحذر والتفكر يقدر ما تشي عن التهور والتنمر، أفضى إلى غلبة العامل المصلحي / النفعي على العامل الأخلاقي / الإنساني، وبالتالي اكتساح المعتقد الطائفي لمواقع العقيدة الدينية في الوعي الاجتماعي. ولذلك نلاحظ إن نمط العنف الطائفي يعتبر من أخطر أنماط العنف الأخرى على الإطلاق، من باب كونه يعفي المنخرطين بسعاره من الإحساس بالذنب حيال أنين الضحايا وصراخ المعذبين من جهة، يطلق العنان لغرائز الإبادة الجماعية من جهة أخرى، تحت راية الدين (العقيدة) ويمنح تفويض القتل المجاني على الهوية باسم التدين (المعتقد)، وكلاهما يحتكمان إلى الله ويلوذان بالمقدس، بحيث يصبح الدين في خدمة التدين وليس العكس!!، وتغدو العقيدة صورة من صور المعتقد وليس العكس!!، وتتفوق التعويذة الطائفية على الفتوى الدينية وليس العكس!!. وهنا يكون المجتمع قد بلغ حافة الهاوية!!. 

***

ثامرعباس

في المثقف اليوم