قضايا

تتريث العقل وتوريث الجهل

ليس من قبيل التجديف القول؛ أن المجتمع العراقي الراهن بات نهبا"لشتى ضروب؛ الفوضويات السياسية، والعصبيات الاجتماعية، والأصوليات الدينية، التي وجدت لها في استمرار التشرذم واجترار التوهم وتكرار التأزم، عوامل مساعدة لتأجيج أوارها وتسعير لظاها. ولعل جميع هذه التيارات الفاعلة والاتجاهات النافذة، تعمل - سواء أكان بوعي منها أو بدونه - باتجاه استدراج العقل الجمعي العراقي، إلى حظيرة الموروث الديني والمتخيل التاريخي، أو بالعكس إلى استدعاء ذلك الموروث للمثول أمام العقل، وتحيين ذلك المتخيل في بنية الوعي. وذلك ليس من أجل الكشف عما أخفى من حقائق مطمورة، وإماطة اللثام عما تستر عليه من وقائع مغيبة، ومن ثم تنقية مرويات الأول من الأساطير التي تسللت إلى حقوله، وتطهير سرديات الثاني من الخرافات التي ترشحت في قيعانه، وإنما لكي تحمل العقل المستنفر على التموضع في سياقاته المضطربة، وإجبار الوعي المجيش على التماهي مع رهاناته الملتبسة.

وبرغم إن النقد والمفكر السعودي الدكتور (عبد الله الغذّامي) شكك بوجود (عقل) أصلا"، كما جاء في كتابه الأخير: الفقه الفضائي قائلا"(لست أخفي هنا موقفي التشككي من وجود شيء يمكننا أن نسميه (العقل)، وكنت وما زلت أميل في أبحاثي إلى رفض فكرة العقل وأراها مخترعا"صنعته اللغة، ثم نسبت إليه صفات كبرى وعظمى وراحت تتعبد هذه الصفات، عبر الاستخدام المفرط لكلمة العقل والعقلاني والمعقول). فإننا لسنا في وارد مجاراته في هذه الجزئية الحجاجية، التي تذهب مذهب (النسقية الثقافية) التي يعد هو ذاته - وعن صواب - من أبرز نقادها وأشد معارضيها، بقدر ما نعتقد بان الحاجة المنهجية، بل الأحرى قل الضرورة المعرفية، تستدعي التمييز بين وظيفة العقل الذي (يدرس) التراث دراسة حيادية وموضوعية قدر الإمكان؛ لاستخلاص العبر منه واستلهام العضات التي فيه من جهة، وبين طبيعة العقل الذي (يندس) بالتراث بطريقة انفعالية منحازة، للاتكاء عليه والاحتماء فيه من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يفضي بنا إلى مراعاة الفرق بين من يتطلع إلى الماضي بإرهاصات الحاضر وتطلعات المستقبل، لا لكي يتسمّر عند أمجاه الزائلة ويتحجّر فوق أطلاله الغابرة، بقدر ما يروم البرهنة على المضامين الاجتماعية والأبعاد التاريخية، للكثير من الفكريات التي أضفيت عليها القداسة بغير وجه حق، والتواضعات التي أسبغت عليها المحرمات دون ما مبرر، وبالتالي تجاوز عقدها النفسية والتخلي عن أوهامها الرمزية، والكف عن تجريم المعارضين في النص وتحريم المخالفين في الاعتقاد. وبين من ينقل هموم الحاضر ويرحّل هواجس المستقبل، صوب الماضي لإسباغ الشرعية التاريخية على مواقفه المتعصبة، وإضفاء المعقولية الأخلاقية على سلوكياته المتطرفة.

ولأن الدافع السياسي الأحادي، والوازع الإيديولوجي الاقصائي، كانا - وسيبقيان إلى أن يشاء الله – يقفان خلف جميع تنطعات العنف وتطلعات العدوان، فان التاريخ والحالة هذه سيغدو عملة رائجة قابلة للتصريف والتداول، ليس من منطلق كونه يشكل حاضنة عامة لأحداث الواقع الاجتماعي بكل رموزه ومكوناته، فضلا"عن كونه بوتقة تصب عندها وتنصهر فيها، جميع وقائع التجربة الإنسانية بمختلف أطرها وأنماطها. وإنما لكونه بعد اجتماعي وفضاء إنساني، قابل للتوظيف والاستثمار من لدن الجماعات المتناقضة والكيانات المتعارضة، طالما أنها تجد فيه صدى أصولها الرمزية، وذاكرة أجيالها المخيالية، وأرشيف نصوصها الدينية. ولهذا فقد شخّص أحد المؤرخين الغربيين (و. سميث) خاصية هذا النمط من التاريخ بالقول (لقد عمل علم التاريخ العربي بمثابة دفاع، أكثر  مما عمل بمثابة بحث حقيقي).

والجدير بالملاحظة في هذا الإطار، انه كلما كانت سمات الجماعة المذهبية أو العرقية، أميل إلى الإفراط في مظاهر تشددها الهووي (من هوية) وتعنتها الأصولي، كلما كانت أكثر استعدادا "للجوء إلى ذخيرة موروثها الديني / الرمزي للتخندق فيه، والانتحاء صوب مخزونها التاريخي / المخيالي للتمترس عنده، متوسمة فيه ومعولة عليه إيجاد العون في نصوصه المقدسة، والدعم في سردياته المؤسطرة، والمؤازرة في وقائعه المبجلة، والمساندة في أحداثه المدهشة. ليس فقط من باب الحفاظ على تماسك بناها الاجتماعية وديمومة أنساقها الثقافية، حيال محاولات الاختراق التي تتعرض لها بفعل أواليات التغيير وجدليات التطوير فحسب، بل وكذلك من منطلق السعي لإطفاء ظمأ عقلها الجمعي إلى المعنى، بعد أن طلق الواقع وفارق التجربة، وإشباع نهم وعيها الذاتي إلى الاتساق، بعد أن أهمل الأصول وتنكر للثوابت. وذلك على خلفية رفضها الدائم وتمنعها المستمر، إزاء أنماط الإشكالات التي تثيرها العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة، فضلا"عن راديكالية أساليب منهجياتها المستحدثة، التي أضحت تشيع النسبية في المعارف بدلا"من الإطلاق في الإيديولوجيات، والتاريخية في الاجتماعيات بدلا"من التفارق في الأصوليات، والتعددية في السياسات بدلا"من التفرد في السلطات، والتراحم  في الأديان بدلا"من التخاصم في المذاهب، والتثاقف في الحضارات بدلا"من التخالف في القوميات، والتنوع في الثقافات بدلا"من التصارع في المرجعيات.

والمفارقة إن كل التنظيمات السياسية والجماعات الدينية والتيارات الإيديولوجية، لا تني تنسب لأفعالها ومواقفها طابعا"عقلانيا"يتسق وأواليات المنطق، هذا دون أن يتوانى كل واحد منها نفي وتكذيب ادعاءات الآخر، حيال صحة استلهامه لاشتراطات العقل واستيحائه لالزامات الحقيقية، وبالتالي كيل نعوت التكفير ضده وإسباغ صفات المروق عليه. ولعل تأكيد المفكر الراحل الدكتور (محمد أركون)، حول ضرورة اقتران العقل بالحقيقة المطلقة – ولكن عن أية حقيقية نتحدث وبناء على أية اعتبارات ؟ -  يسيء للعقل أكثر مما يدافع عنه، لاسيما وانه يبدو – وفقا"لهذا المنظور – عقلا"مستقطبا"ومنحازا"يدافع عن (حقيقية) هذه الجماعة ضد تلك، أو يشايع توجهات هذا الطرف ضد ذاك، عوضا"عن أن يكون نشاطا"يحايث الموضوعية الابستمولوجية ويؤالف الواقعية السوسيولوجية. وهو الأمر استخلص عواقبه المفكر (أركون) ذاته حين كتب يقول (أدى دعم الوثبات الانفعالية بالشعائر وبالحفلات الجمعية، وأدت إمكانات ممارسة اللامعقول، والمتخيل، والمقولة العاطفية لما فوق الطبيعي، كل ذلك أدى إلى خلق مقاومة لا تقهر تقف ضد تدخل العقل الوضعي).

ولعل هناك من يرى في إثارتنا لهذا النمط من المواضيع، ما يشكل دعوة للتنكر، بل والازدراء، لكل ما في تراثنا من قيم روحية وانجازات معرفية واسهامات حضارية وإضافات إنسانية، ساعدت، إن لم تكن عملت، على إيقاظ عقل البشرية من سباته والتطهر من خرافاته، فضلا"عن كونها انتشلت إبداعات الفكر الإنساني من غياهب الظلمات. والواقع إن منحا"بهذا الاتجاه لم يخطر لنا على بال، لاسيما ونحن نؤمن بان أية جماعة بشرية مهما كانت صغيرة أو كبيرة متقدمة أو متخلفة، لا يسعها الاستغناء عن تراثها القومي / الوطني بصرف النظر عن القيمة التي تسبغ عليه، كما ليس في نيتها التنصل من ذخيرة أجيالها ، على  صعيد كتابة أحداث تاريخها وتدوين وقائع ماضيها وأرشفة معطيات ذاكرتها، بغض النظر عن مقدار الأهمية التي تحظى بها. ذلك لأن (علاقة العربي بتراثه – كما أشار عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور (فردريك معتوق) – علاقة عضوية، حيث إن هويته القومية برمّتها تتغذّى من التراث، لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على حد سواء. فتعلقه بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية وفلسفية وفكرية وأدبية، أشد من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقا"وغربا"). بيد إن الذي حفزنا لاختيار هذه المقاربة، هو الخشية من الوقوع في مطب الارتداد أو (النكوص المعرفي)، كرد فعل نسقي على تغطية العجز الناجم عن تداعيات ما يسمى (بالقطعية المعرفية)، التي لم تبرح تطرح الكثير من التساؤلات حول جدوى العقل المقطوع عن تراثه من جهة، أو جدية الفكر المستتبع للحداثة من جهة أخرى. والمشكلة إن مفهوم التراث غالبا"ما كان يفهم مقترنا"بالدين كنصوص وتجارب وشخصيات، دون أن تتوافر إمكانية إدراك انه وان كانت أصول الظاهرة الدينية تدخل في تكوين التراث وتحدد خصائصه وتعين أنماطه، إلا أنها لا تشكل سوى رافد واحد مهم من مجموع روافده المتعددة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والحضارية والنفسية والأدبية والفنية. الأمر الذي يجعله نتاج إنساني ومعطى تاريخي بامتياز؛ قابل للتحليل والتأويل، ومباح للجرح والتعديل، ومنذور للنقد والتفنيد، ومشاع للمراجعة والتنقية.

والجدير بالتوضيح والتلميح هنا إن ظاهرة التتريث لا تقع مفاعيلها فقط على مستوى الفكر التراثي بشتى أصنافه؛ الدينية والفلسفية التاريخية والحضارية والمخيالية والقيمية فحسب، ولكن دائرته تتسع أيضا"لتشمل نطاق الفكر الوضعي بمختلف تمظهراته؛ العلمانية الليبرالية والديمقراطية والشيوعية. بحيث إن الإحالة لا تكتفي وحسب باستحضار أقوال الرواد المبدعين، والاستئناس بآراء الأوائل المؤسسين، خصوصا"لجهة التأكيد على نجوع فكرة ما أو موقف معين، وإنما يتوجب الإلماح إلى ضرورة الرجوع إلى النصوص المؤسسة، والإشارة إلى أهمية الركون إلى العقائد المؤمثلة.

وهكذا فبقدر ما يتم استدعاء الفائق والمدهش والمقدس والمتعالي، يقابله إقصاء للعادي والطبيعي والمدنس والمعاش في الحالة الأولى، بقدر ما يجري استحضار النماذج والمعايير والمبادئ والأصول، يقابله استنكار للإشكالي والمتواتر والواقعي والفرعي في الحالة الثانية. وهنا لا مناص من الولوج إلى متاهات؛ التصورات الغامضة عن أنماط الواقع الاجتماعي، والتهويمات عن أنساق النظام الثقافي، والتشبيحات عن أطوار التحول التاريخي، والتكهنات عن بنى التركيب النفسي. بحيث إن الجهل بقضايا المجتمع وأمور العالم وشؤون الحياة، لا يبقى مجرد لحظة عابرة يمكن التغلب عليها والتخلص منها – كما يشيع دائما"خطاب تتريث العقل – طالما كانت هناك إرادة تحتكم إلى قيم الأجداد ونماذج التاريخ وأمثلة الماضي، وإنما سيبقى راسب عالق في طمى الوعي الجمعي وبطانة السيكولوجيا الاجتماعية،  مثلما سيورّث إلى أجيال الجماعات المهووسة بأوهامها الأصولية، والمتغطرسة بخرافاتها العرقية، والمتمترسة بأساطيرها التعصبية. وهكذا يبدو – كما استخلص المفكر الراحل الدكتور (محمد عابد الجابري) – (إن التاريخ الثقافي العربي السائد الآن، هو مجرد اجترار وتكرار وإعادة إنتاج بشكل رديء، لنفس التاريخ الثقافي الذي كتبه أجدادنا تحت ضغط صراعات العصور، التي عاشوا فيها حدود الإمكانيات العلمية والمنهجية التي كانت متوافرة في تلك العصور، وبالتالي فنحن ما زلنا سجناء الرؤية والمفاهيم والمناهج القديمة، التي وجهتهم مما يجرما، دون أن نشعر، إلى الانخراط في صراعات الماضي ومشاكله، إلى جعل حاضرنا مشغولا"بمشاكل ماضينا وبالتالي النظر إلى المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته).

ولذلك ينبغي علينا، ونحن نجأر باستمرار بخصوص عقلنة تصوراتنا وانسنة علاقاتنا وشرعنة خياراتنا، أن نعمد إلى ترسيم الحدود ما بين العقل كأداة معرفية منزّه عن الهوى الشخصي، للاستدلال على الوقائع والاستنباط من الأحداث والاحتكام إلى التجارب من جهة، وكطريقة منهجية مترفعة عن المصالح الفئوية، لسبر الواقع بكل تضاريسه، والتاريخ بكل تعرجاته، والفكر بكل تياراته، والوعي بكل إرهاصاته من جهة أخرى. وهذا ما نؤيده ونحضّ عليه. وبين العقل كوسيلة لتأبيد الملابسات التاريخية عبر تحيينها في الذهنيات، وتسييد الخلافات العنصرية عبر تفعيلها في العلاقات، وتخليد الصراعات الطائفية عبر تنشيطها في المؤسسات. وبالتالي جعل العقل تابع لأضغاث التاريخ بدلا"من موجها"لأحداثه، ومتماهيا"مع تمثلات الذاكرة بدلا"من معالجا"لانحرافاتها، ومستتبعا"لطوباويات الايديويولوجيا  بدلا"من ضابطا"لنزواتها. وهذا ما نرفضه ونحذّر منه.

ولما كان التراث يتسم بخصائص الثبات في بناه والجمود في مضامينه، فضلا"عن إبداء المقاومة لأية محاولة يحتمل أن تعيد النظر بترتيب مروياته، والمعاندة لأي إجراء يمكن أن يعبث بأرشيف تصنيفاته. فان العقل الدارس / الفاحص ما لم يكن متسلحا"بمنهجيات؛ الحفر في أنظمة الخطاب، والتفكيك لسساتيم الفكر والتأويل لمعاني اللغة / النص، فانه لا مناص من وقوعه صيدا"سهلا" لهيمنة السرديات التراثية، كما لا حيلة أمامه للتغلب على محاولات استقطابه واستتباعه، لاجتياف كل ما يرشح عنها من أقوال مؤمثلة وأفعال مؤسطرة، وهو الأمر الذي سرعان ما سيقوده (= العقل) بعد أن يتأترث؛ نحو التلفيقات التاريخية، والانجذاب صوب المساومات الفكرية، والانتحاء باتجاه السجالات الإيديولوجية. وخشية الوقوع بهذا المحظور المعرفي، غالبا"ما اشتط المؤيدين لنظريات الحداثة والمدافعين عن عقائد العلمانية، وخصوصا"من النمط المتأترث الذي أسلفنا الإشارة إليه، وذلك بالدعوة إلى نبذ كل ما له علاقة بالتراث لجهة النصوص والخطابات، والإشاحة عن كل يرتبط به من قيم وأخلاقيات، ظنا"منهم إن العيب الذي يشكون منه ويخشون الوقوع فيه، يكمن في صلب التراث المدروس لا في صميم العقل الدارس. حتى إن البعض منهم ذهب إلى حدود التطرف في زعمه – كما ذكر الأكاديمي والباحث العراقي الدكتور (هادي نعمان الهيتي) - الرامي إلى إن (استجابة الشعوب التي لا ماضي عريقا"لها، أكثر استجابة للتقدم وأسرع من تلك التي تمتلك، على أساس إن بعض الشعوب التي أثقلها الماضي، عجزت عن مسايرة الارتقاء باعتبار إن الماضي العريق كثيرا"ما يكون عبئا"من الأعباء الثقال التي تعيق دينامية الشعوب).

والواقع إن للعقل الخام / البكر، إذا ما ترك له الحبل على الغارب، ألاعيبه المحيرة وأكاذيبه المخجلة.  فهو بالقدر ذاته موطن للخرافة وموئل للثقافة، وهو بالدرجة نفسها عرين للغرائز وأمين للوعي، وهو بالكيفية عينها السبيل إلى التبربر والطريق إلى التحضر، وهو بالمستوى إياه يفضي إلى الوحشية أو يقود إلى المدنية. بيد إن عملية ترجيج هذه الوضعية على تلك، وتقديم هذه الصيغة على تلك، وتفضيل هذه الخاصية على تلك، منوطة - بالدرجة الأساس - بقدرة الإنسان على ترويض الغرائز وعقلنة النوازع وأنسنة التطلعات. ولأن هذا الأخير فاعل نوعي أسهمت في تشكيله وساعدت في تكوينه، جملة من الأوضاع الاجتماعية والظروف الثقافية والشروط التاريخية والمعطيات القيمية، فان المجتمع المعني هو بالحصيلة النهائية المسؤول الأول والمباشر، الذي ينبغي أن  تتجه إليه الأنظار لجهة؛ إما في  تحرير العقل من أغلاله وتطهير الفكر من ضلالاته، أو في تنميط وتحنيط الأول وتضليل وتجهيل الثاني.

وهكذا فان الرغبة في إبقاء العقل في حالة من الفاعلية التحليلية والحيوية الإبداعية، لا ترتهن بوجود ماض تراثي عريق من عدمه لدى هذا المجتمع أو ذاك، يخشى على العقل أن يقع فريسة لإغواء العراقة في تاريخه والأصالة في حضارته، وبالتالي الانجذاب نحو قدم أساطيره وسحر سردياته  وفرادة تمثلاته. بقدر ما ترتبط بطبيعة المجتمع القائم – مغلق أم منفتح - والثقافة السائدة - إنسانية أم تعصبية - والوعي المهيمن – علمي أم خرافي -  والقيم المعاشة - تغالب وتكالب أم تفاهم وتراحم -. ولعل المجتمع لأمريكي المعاصر يصلح أن يكون المثال الأبرز في إطار هذه المقاربة السوسيولوجية والمعرفية، التي كانت الناظم الرئيسي لفكرة الموضوع  والدليل الموجّه لواقعية توجهاته. إذ على الرغم من كونه مجتمع حديث التكوين بالمقاييس التاريخية والمعايير الحضارية، إلاّ انه لم يبخل بالبحث عن مرجعياته الدينية اليهودية / المسيحية، ولم يتوانى بالتنقيب عن أصوله الغربية / الأوروبية، لينهل منها ما يعينه على بناء هويته بدون حساسيات قومية، وترميم ذاكرته بدون عقد ثقافية، وتشكيل مخياله بدون مسبقات عقائدية، وتكوين عقله بدون استيهامات تراثية.

فالتراث خزان لا ينضب يحتوي بين جنباته الغث والسمين؛ من المعلومات والمعطيات، من الممارسات والأخلاقيات، من التصورات والسلوكيات، من التاريخيات والأسطوريات، تصلح جميعها – وهنا المفارقة - إما لتتريث العقل وتوريث الجهل، وإما لتعقيل التراث وتفعيل كنوزه ورموزه !. ذلك لأن (التراث بنصوصه وثوابته ومؤسساته ومرجعياته – كما يؤكد الأكاديمي والمفكر اللبناني الدكتور "علي حرب" – هو مخزون ثقافي ورأسمال رمزي يحتاج إلى الصرف والتوظيف، من خلال عمل من الذات على الذات، بالجهد والاجتهاد أو بالاختيار والمراس أو الاختراع والابتكار أو بالصناعة والتفنن أو بالخلق والتوليد، في ضوء أسئلة الحاضر وهمومه أو في ضوء علاقتنا بالعالم ومشكلاته).

***

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم