قضايا

عندما نتفلسف في كرة القدم

في ظهيرة السادس عشر من تشرين الأول عام 1957، بينما كان يتناول طعام الغداء في مطعم وسط باريس، اقترب منه شاب ليبلغه ان الناشر غاستون غاليمار يبحث عنه، فهناك انباء تقول انه فاز بجائزة نوبل. بعد سماع الخبر تزاحمت وكالات الانباء ومحطات التلفزيون امام شقة البير كامو الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 44 عاما، الجميع ينتظر ان يفوز بحوار حصري مع صاحب "اسطورة سيزيف"، لكنه سيختار مراسل التلفزيون الفرنسي، وكان شرطه الوحيد ان يتم الحوار في ملعب لكرة القدم. وافق المذيع على الشرط الغريب ووسط هتافات اكثر من ثلاثين الف متفرج قال كامو:" ليس الفن في نظري متعة فردية، هو وسيلة لتهييج مشاعر أكبر قدر ممكن من البشر عبر منحهم صورة امتيازية عن الأحزان والأفراح المشتركة "، ثم اشار الى الجماهير التي تتابع المباريات، وعندما سأله المحاور: أي شيء أحب إليك، كرة القدم أو المسرح؟ ردّ كامو بسرعة: كرة القدم بالتاكيد.اطلق على اللاعب الهولندي الشهير"  يوهان كرويف " لقب افلاطون الملاعب، فقد كان الجميع يرى ان كرويف عندما يلعب يمنح السعادة للجمهور. كان الفيلسوف الاغريقي افلاطون يطرح السؤال الجوهري في الفلسفة وهو:  كيف أكون سعيدا؟.يكتب كرويف:" كرة القدم مثل الحياة. أنت مطالب بأن ترى، وأن تفكر، وأن تتأمل، وأن تتحرك، وأن تفعل ذلك من أجل الاكتشاف والسعادة ".

الكثير من الكتب نقلت لنا قدرة الفيلسوف سقراط على الحديث امام حشد كبير من الناس، ويصف لنا افلاطون حياة معلمه بأنها كانت عبارة عن لعبة واحدة كبيرة اسماها لعبة البحث عن السعادة، ولهذا نجد افلاطون يستخدم مصطلح الفضيلة للحديث عن الالعاب الرياضية يكتب سايمون كريتشلي صاحب كتاب " الفلسفة القارية ":" إذا كان سقراط  مدربا لكرة القدم، فسيتم إضافته إلى قائمة المدربين المثاليين على وجه التحديد لأنه أكبر داعية لا شاعة البهجة ". كان كريشلي قد وجه جزء من اهتمامه الفلسفي بدراسة كرة القدم وتاثيراتها على الجمهور، فاصدر كتاب بعنوان " فيم نفكر عندما نفكر في كرة القدم " – ترجمة محمود عبد الحليم -  وفي حوار معه يقول:" هناك فصل في كتابي بعنوان (تجريد الذاتي في كرة القدم)، وقد حاولت فيه تقديم وصف لشيئين: أولاً تجربة اللعب عندما نلعب الكرة. هل اللعبة تدور في رأسنا أم خارجه؟ حسناً، من الواضح أن ذهننا منخرط في اللعبة، وملكاتنا المعرفية مهمة، لكن تجربة اللعب تكون خارج رأسك أثناء اللعب. وثانياً، عندما تكون متفرجاً تصبح اللعبة خارج رأسك. أي أنها تكون هناك بالقرب مما يحدث على أرض الملعب. اللعب بشكلٍ عام، وكرة القدم على وجه الخصوص، طرق رائعة لإبراز هذا البُعد من الخبرة بين الذاتي والموضوعي، وهذا العَالَم الذي يشكّله " - ترجمة عبدالله بن محمد مجلة الدوحة -.

في كتابه " فيم نفكر عندما نفكر في كرة القدم " يؤكد  كريتشلي أن اللعبة تحتاج اليوم إلى شعرية تقوم على إبراز ما تتحلى به كرة القدم من جمالية. وهو يرى ان مشهد دخول الملعب اشبه بمشاهده فيلم سينمائي تختلط فيه الحقيقة مع الخيال، كل شيء يبدو نابضا بالحياة، حتى الكرة تبدو حية تجري، ويبدو أنها تُعقل نفسها وتتمتع بنوع من الذكاء والوعي.

الفيلسوف وابرز مشجعي نادي ليفربول، يرى ان كرة القدم مكان رائع للنقاش المنطقي.، فكما ان الفلسفة حوار منطقي قائم على المشاعر الراسخة حيث يمكنك تغيير آراء الناس من خلال قوة الجدل، فان كرة القدم مكان اكثر بهجة للجدل: " سأستمع إلى ما يقولونه وربما أتوصل إلى بعض الاعتراضات، ولكن في كثير من الأحيان سأغير رأيي. لذلك هناك شيء فلسفي حقا في كرة القدم. إنه مكان يشعر فيه الناس بالراحة والاسترخاء في آرائهم، فضلاً عن الراحة والاسترخاء في المحادثة ".

عنوان كتاب سيمون كريتشلي يبدو قريب الشبه من عنوان كتاب هاروكي موراكامي " ما أتحدث عنه عندما حين أتحدث عن الجري "- ترجمة بثينة ابراهيم – ومثلما يخبرنا موراكامي في كتابه ان المعاناة اختيار وانه تعلم دروسا شخصية عبر تحريك جسده ، فان كريتشلي يرى ان كرة القدم نوع من انواع الامل المتجدد، فهي لا تتعلق فقط بالفوز او الخسارة. لان الشيء الغريب في كرة القدم ليس الهزيمة:" إنه الأمل المتجدد. الأمل الذي يقدمه كل موسم جديد. الأمل الذي يأتي لدغدغة قدميك، ثم تدرك، كما تقول الشاعرة والكلاسيكية آن كارسون، أن نعالك مشتعلة ".

في عام 1959، قبل عام من وفاته، أخبر كامو احد الصحفيين، أنه إلى جانب المسرح، كان ملعب كرة القدم إحد جامعاته الحقيقية".

كانت المشكلة الفلسفية التي واجهها البير كامو هي: لماذا الحياة عبثية ؟. فرغم أننا ممتلئون بـ "التوق إلى السعادة "، لكن يقابلنا في كل مكان "الصمت غير المعقول للعالم". لقد كشفت لنا الحياة عن فراغ كبير. ومثلما قال صامويل بيكيت " النور يضيء لحظة، ثم يحل الليل مرة أخرى." هذا التناقض الأساسي، بين شغفنا بالحياة وما يقدمه الواقع، هو ما يجعل الحياة عبثية. قارن كامو بين الوجود البشري ووجود سيزيف، الذي حكم عليه في الأساطير اليونانية بان يرفع صخرة الى اعلى تل. وفي كل مرة تقترب فيها الصخرة من قمة التل تنزلق من بين يديه متدحرجة إلى الاسفل، فيضطر الى رفعها من جديد. يتساءل كامو: غذا تكشف لنا عدم جدوى الحياة كعمل سيزيق، فكيف نرد او نجيب ؟.

ماذا نفعل إذن؟ الانتحار ليس خيارا. لأنه لن يؤدي إلا إلى مضاعفة العبثية، وكان الخيارالوحيد المتبقي هو القبول بمأزقنا. كل واحد منا مدان. كل واحد منا لديه صخرة مطلوب منه ان يدحرجها. لكن "النضال نحو المرتفعات يكفي لملء قلب الانسان " ولهذا فان كامو يرى انه  في "عالم الإنسان الجامح والمحدود"، يمكننا جميعا إيجاد طرق لتحمل صخورنا بابتسامة حازمة ومتحدية.وكانت لعبة كرة القدم واحدة من تلك الاشياء التي ساعدت كامو على تحمل صخرته.

قبل وقت طويل من كتابته لـ " اسطورة سيزيف "، كان كامو قد وقع  في غرام لعبة كرة القدم "، ونقرأ في كتابه " الانسان الاول " – ترجمة لبنى الريدي - وهو اشبه بسيرة ذاتية عن الصبي الصغير جاك الذي كان يعتبر كرة القدم مملكته ، وكيف يتحول خلال مرحلة المراهقة  الى مجنون باللعبة .

مثل العديد من نجوم كرة القدم، عاش البير كامو طفولة فقيرة جداً، ولِد في السابع من تشرين الثاني عام 1913 في مدينة القسطنطينية بالجزائر، أبوه لوسيان كامو من أصول فرنسية، يعمل أجيراً في إحدى المزارع، لم يمضِ عام على مولده حتى تندلع الحرب العالمية الأولى، وسيسافر والده الى فرنسا لتأدية الخدمة العسكرية، لكنه يقتل في الأشهر الأولى من الحرب، والدته " كاترين سانتيز " من أصول إسبانية، نصف صمّاء لا تعرف القراءة والكتابة حيث ستنشأ بينهما علاقة خاصة.   لم ينسَ كامو عالمه الفقير هذا، وقرر أن يجعل من أبطاله يتمردون على واقعهم:" ثمة وحشة في الفقر، لكنها وحشة تعطي لكل شيء ثمنه الحقيقي ".

بعد وفاة الأب تقررالعائلة  مغادرة مدينة مندوفي التي ولِد فيها كامو الى العاصمة الجزائر للعيش في شقة صغيرة، الام  وشقيقه الأكبر وجدته، وعمه الذي يعاني من شلل في الأطراف. وسيكتب كامو في كتابه لعبة الأوراق والنور عن حياته هذه:" لقد نشأت في البحر، وبدا الفقر لي شيئاً رائعاً، وفيما بعد، عندما أضعت البحر، بدت لي ضروب الترف كلها شهباء كالحة. وبؤساً لايطاق. " سينشغل عن الفقر والحرمان بعشق كرة القدم، وفي المدرسة يشار اليه بحارس المرمى المتيقظ دوما، في عام في الخامسة عشر من عمره لعب " كامو" حارسا للمرمى في  فريق نادي مونبنسير. يقول انه تعلم  أول درس له في الحياة  التي يشبهها بالكرة فهي  لا تأتي أبداً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها،  وانتظار شيء لا يحدث هو العبث بعينه. لذلك اختار ألبير كامو حلاً عبثياً لمُشكلة عبثية، اختار المركز الذي صُمِّمت لعبة كرة القدم خصيصاً من أجل اختراقه وانتهاكه: حراسة المرمى. يكتب في " عشب الايام " – ترجمة نجوى بركات –:" عندما كنت شاباً ألعب مع فريقي، أحسست بهذا الشعور القوي بالأمل والسعادة، والذي كان لا يفارقني في أيام التدريب الطويلة قبل المُباراة. وفي الحقيقة، بعض المُثل العليا التي تعلَّمتها، في المسرح، أو في ملعب كرة القدم – كلاهما يمثلان جامعتي الحقيقية".

ولكرة القدم أيضاً حضورٌ في روايات كامو الرئيسية  في " الغريب"  يظهر المناهض للبطل مورسو وهو يشاهد عربات الترام في المساء الباكر مليئة باللاعبين والمُشجِّعين العائدين من الأرض المحلية،  وفي " الطاعون"  ، يتم الاستيلاء على ملعب الفريق المحلي وتحويله إلى ساحة لعزل المرضى، ونجد جونزاليس، اللاعب السابق، يتأسف من هذا الوباء الذي حرمه من يومٍمثالي للعب، وفي " السقطة، يعترف كلامانس: " حتى اليوم، مباريات كرة القدم في ملعب مزدحم، والمسرح الذي أحببته بشغفٍ فريد، هما المكانان الوحيدان اللذان أشعر فيهما بالبراءة".

أضاءت كرة القدم حياة كامو، واستمر في مشاهدتها الى اللحظة الاخيرة، ورغم انه كان يدرك أن كل شيء كان " سيزيفي "، إلا انه ظل يعلن أن الطريقة الوحيدة للعيش هي أن نتمرد  ضد اللامعنى، وظل يشعر أن ما يعطي معنىً للحياة، هو تلك الأشياء التي تحبها " ليس بعقلك، وليس بالمنطق، ولكن بداخلك."

لا يمكن فهم حب كامو لكرة القدم إلا في ضوء معاركه الفكرية ، كان مقتنعا بأن المثالية المتفسخة قد أضرت بالفكر الفلسفي المعاصر ، وبحلول منتصف الخمسينيات، توصل كامو إلى الاعتقاد بأن أسلوب التفكير الذي وجده في باريس التي كان يسميها "مدينة الشر والتشويه والكذب المنهجي"  قد تم تجريده من الحياة الواقعية، وانه منقطع عن التجارب المتجسدة للمعاناة والفرح.

كتب مارسيل بروست أن الجنة الحقيقية الوحيدة هي الجنة التي فقدناها. بالنسبة لكامو، فإن شبابه قبل سن المراهقة وأفضل أيامه الكروية كانت منسوجة معا في وقت قبل أن تأتي له حقائق الحياة المروعة.. كل من يحب اللعبة بشدة، كان الاحساس بروح الفريق، وبالاخوة، وبالهدف المشترك يستهوي كامو كثيرا. وعندما طلبت منه احدى المجلات الرياضية ان يكتب عن شغفه بكرة القدم، قال:" بعد سنين كثيرة رايت فيها اشياء كثيرة، اقول انني مدين للرياضة بكل ما اعرفه عن الاخلاق وعن واجب الانسان ". كان كامو يشير الى الاخلاقيات التي دافع عنها في كتابه الانسان المتمرد، ان تقف مع الانسان ن وان ترى قيمة كبيرة في الجرأة واللعب النظيف مع الحياة.

وفي " الغريب " نجده متحمس للشمس التي تضيء على اجساد البشر. وكان  يقول ان الشباب الذين يجرون على الشاطيء يحاكون رياضيي اليونان القديمة. يكتب في واحدة من رسائله:" يجذبني الناس بقدر ما يكونون متحمسين للحياة، متعطشين الى السعادة.

قبل عامين من وفاته، اشترى منزلاً في لورمارين، وهي قرية جبلية على بعد خمسين ميلاً شمال مرسيليا. تعرف هناك على لاعبي فريق كرة القدم المحلي، ودفع ثمن المعدات لهم واستضاف البعض منهم في بيته. ربما كان سيستمر في العناية بالفريق. ولكن في يوم رأس السنة الجديدة عام 1960، عرض عليه صديقه صاحب دار غاليمار، إعادته من جنوب فرنسا إلى باريس في سيارته. كان لدى كامو تذكرة قطار، لكنه قرر في اللحظة الأخيرة السفر مع صديقه الانضمام إلى صديقه. ستنحرف السيارة عن الطريق لتصطدم بشجرة. يموت كامو على الفور.  قبل سنوات قال لاحد اصدقائه لا شيء يمكن أن يكون أكثر سخافة من الموت في حادث. بعد وفاته، دفن في تلال لورمارين. في جنازته تقدمها فريق كرة القدم المحلي، حيث حمل اللاعبون نعشه.

ليس من المصادفة ان يكون فريدريك نيتشه الفيلسوف الجوال، احد الفلاسفة المفضلين عند كامو، فقد كان يحبه لما يحمله من روح المغامرة وعشق للرياضة كان نيتشه يردد:" "لا تُصدق أي فكرة لم تولد في الهواء الطلق أثناء التحرك بحُرية، الجلوس -قلتها مرة وسأكررها ثانية- هو أكبر خطيئة" - فريدريك جروس فلسفة المشي ترجمة سعيد بوكرامي -، وهو مثل نيتشه كان يؤمن ان الافكار لا تأتي من الكُتب فقط. انما من التفكير في الهواء الطلق:" سائرين، قافزين، مُتسلقين، راقصين، ويا حبذا لو كان هذا عند جبال وحيدة، أو بالقرب من البحر، حيث آثار الأقدام نفسها تقف كشواهد متأملة"- فلسفة المشي –  فالأفكار التي لم تغسلها أشعة الشمس،تنتج رائحة كريهة مثل رائحة الاماكن المغلقة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم