قضايا

لماذا نتطرف؟.. التطرف بوصفه جهلاً (2)

بعض الأفكار وكذا السلوكيات التي ننتهجها في حياتنا،  قد تتحول لاحقا إلى صراعات ترهق  شخصياتنا، لأنها ليست سوى انفلات في التعامل وتخلف في وعي الاختلافات في حياتنا بالأساس، لعل من أهم المسائل في هذا الخصوص التطرف الذي يقع فيه غالبية الناس..

 التطرف؛ حيث ينطلق الشخص أو الجماعة من منطلق: (الاختلاف كله شر)، والتعامل مع الآخرين على أنهم أشياء وليسوا أشخاصا، أي تجريد الآخر من إنسانيته أي تصنيفه نمطيا بحسب العرق او الدين او التيار او الطبقة  او الطائفة  وما هنالك من تقسيمات هي في الأساس رمزية واعتمادها كآلية في الحكم والتقييم للآخرين هو شعور عميق بعدم الأمان داخل هذا الفرد أو الجماعة تجاه الآخر، وهي نتاج التعامل وفق الأفكار السلبية أو الأشياء السلبية لدى الآخرين أكثر من النظر والرؤية من زاوية الأفكار والأشياء الإيجابية عند الآخرين، وبالتالي لا نعترف للآخر بما لديه من إيجابيات شخصية حتى يتشكل لدينا مركب السمو على الآخرين، مما يفقدنا التصور الصحي  الواقعي، فيتضخم الأنا ويسيطر على الذات داخل سجن التطرف الذي يسلب الواحد منا حقيقة هويته الإنسانية..

وأحد أهم مسببات التطرف هو كبت الصراع أو نكرانه، أو بتعبير آخر عندما ننظر للآخرين بصور خيالية أو تاريخية أو بشكل عام غير حقيقية سلبية وعلى أن كينونيتهم ماهي سوى أشياء من قصص التاريخ او التراث او الحروب او الفتاوى او الرموز المتطابقة مع ادعاءات الصراع لدينا وعدم الشعور بالأمان وفقدان التوازن في تحديد الواقع الاساسي للسلام الحقيقي في صياغة المعنى الإنساني حولنا...

نستعيد مرة أخرى لماذا نتطرف؟

لأننا نخاف طرح الأسئلة المثيرة للغضب والتعامل معها بصدق وحكمة وجرأة، التطرف بالأساس بذرة لفكرة سلبية خاطئة تخشى سنة من سنن الخلق المتمثلة في الصراع، الصراع عملية طبيعية ذات اتجاهين بحسب نظرتنا ووعينا للحياة، متوقف على مستوى الاعتبار الفكري لدى الفرد أو الجماعة للأحداث والتطورات والتطلعات، الصراع الفكري مهم جدا في صياغة المنظومة الثقافية الحضارية لدى الأمم، إذا كان الصراع اختلاف إيجابي من خلال نظرة المساواة  للآخر كإنسان لديه نقاط القوة والضعف والخصائص والمواهب والنقائص مثلك تماما، يعني انا اتطرف عندما أبخل الناس أشياءهم واسعى لنكران المواهب الرائعة والحقوق الإنسانية التي يمتلكها الآخر، كما اجتهد بكل صلابة وعمى لتغطية سلبياتي وكبت صراع الفكر والنفس النابع من أسئلة حقيقية اتهرب من الإجابة عنها أي أتطرف من خلال خداع الذات والجماعة والعائلة والقبيلة والطائفة والمجتمع..

متى نبدأ نتطرف؟

غالبا التطرف منشأه اعتبار أي صراع حقيقي داخل الذات أو الجماعة مشكلة وليس فرصة للتقدم نحو التنمية والإبداع والسلام والنهوض.

أيضا التطرف يزدهر عندما تتعالى الأسوار الصلبة للآراء والأحكام والفتاوى والتسقيطات والاتهامات النمطية المتبادلة  والتي أصبحت  عبر التاريخ ذات رمزية تتحكم في الحاضر والمستقبل، وهي ركام من الصراعات غير المعقولة والأسئلة المكبوتة والإشكالات المتغافل عنها بخصوص الآخر،  وهذا أكثر صور التلاعب بالوعي شيوعا عبر تقنية التطرف بالمجادلات المبتذلة والتحريض وصدق سيث جودن لقد اوجد الانترنت قوة جديدة لتكوين القبائل!!!

التطرف مجمع الجهل

التطرف عكسه الأمثل هو الرفق بمعنى التسامح الإبداعي للتعاون والسلام بين الناس وليس احتكار الحقيقة الإنسانية، كون المتطرف أولى سماته هي العنف اللفظي والذي قد يصل للإيذاء الجسدي ناهيك عن المعنوي، والعنف نتيجة التسرع وعدم التفهم وهو مصداق التهور والانفلات الأخلاقي وكل ذلك مصدره سيطرة الجهل على نظام التفكير، أي المتطرف صاحب جهل مركب بحيث لايرى لمن يتطرف عليه أية حسنة وأي حق بل يراه شيئا قابل للتحطيم والإقصاء والإبادة، وهذا التوجه أيضا يعكس مدى كذب المتطرف على نفسه وخداعها بأعلميته وجدارته القيادية للآخرين واحتكاره للحقيقة كلها، إذن التطرف كجهل يحدث عندما يجد المتطرف عقله فوق عقول الآخرين، ويسعى لاجبارهم على النظر للواقع وكل الأمور  من منظوره فقط ، والتفاعل الشعوري مع القضايا والأحداث كما يشعر، إنه بذرة الاستبداد بل هو الاستبداد المبطن، المتطرف الطفل الرضيع أكثر إنسانية منه لأنه يحترم ابتسامة الآخر ودمعته ومشاعره وحركاته فيتضامن معه بفطرته، بينما جهل المتطرف يكبت الفطرة ويشوه الوعي ويفسد الأخلاق..

وبسبب التطرف نمنع أنفسنا من الحصول على السلام الإنساني والأمن الاجتماعي، ونهدر فرصاً رائعة لتنمية إنسانيتنا واجتماعنا، لأننا نركز على الرأي الواحد، ونتعصب له، وبالتالي يكون كل شيء آخر خارج نطاق اهتمامنا ونظرنا، وتكون هناك أسباب عديدة أخرى من قبيل النكوص المعرفي والكساح الثقافي المسيطر على واقعنا.

 لكن من المؤكد أن السبب الرئيسي الذي يجعل التطرف رائجا، هو الجهل المركب  والعيش بثقافة ذات أسوار صلبة وجامدة، مع عدم تجاوزها، والانغماس في الواقع دون مناقشته، وعدم التطلع وتوسعة الأفق، وكما هو معروف فإن التركيز على ما هو أمامنا بشكل دائم ومستمر، وعدم التطور، وعدم التفكير، سيؤدي إلى عدم النظر إلى عالم التنوع وجمال الفيسفساء الإنسانية.

 ببساطة، التطرف عندما ترفض تهوية عقلك ونفسيتك وكل وجدانك بالهواء الطلق، لأنك تعتقد أنك ذاتي التهوية وأنك تكون إنسانا بدون الآخر، وهذا  يناقض تماما كون الإنسان اجتماعي بالطبع، المتطرف ليس ذلك الجاهل البسيط بل قد يكون من صاحب الشهادات واعلى مراتب الوجاهة والقيادة، سمته أنه لا يرى انسانا غيره ضمن أطر تفكيره، آراءه هي الأفضل ولا يقبل التفاوض أو الترجيح لأنه نصف تفكيره هو كل التفكير، المقدس عنده هو ذاته والناس أشياء بالنسبة له لا إنسانية تجمعه بهم، هم أشياء يرتبها ويصنفها ويسحقها ويعيد صياغتها كما يشاء إنه مشروع طاغية ومستبد، وهكذا الجماعات التي ترى نفسها فوق النقد وعين الحق وصميم اليقين، لا تؤمن إلا بالقوة والحق عندها والعدل والكرامة والإنصاف والمساواة تابعة لها تخصصها كيفما تشاء...!!

المتطرف بوصفه جاهل هو أطرش لا يسمع لغيره، يخشى الاختلاف لأن الأخير هو محك الحقيقة التي تكشف له عن زيفه وكذبه وخداعه لنفسه واتباعه، حيث يرى في الحوار البناء خسارته ويفضل المجادلة بهدف الفوز وهزيمة الأشياء التي تمثل عوائق أمامه، لأنه لا يناظر للتعلم وفهم رؤية الآخر، بل يسعى لإخفاء أجزاء الحقيقة من أجل تغطية نقصه وهذا هو الجهل المركب التي نرى صوره في المثقف والفقيه والآباء والقيادات والجماعات والطوائف والأحزاب والقبائل والدول...

التطرف مشكلة إنسانية بإمتياز، تحتاج إلى تفكير مستقل وتهوية نفسية، خاصة أن تأثيرها يصل إلى مفاصل متنوعة من الحياة، والصحة النفسية للأفراد، والتنمية الاجتماعية للمجتمعات، لذلك تبقى الخطوة الاولى في اختراق لماذا نتطرف؟ هو الاجابة على الاشكال التالي: هل نحن مستعدون في حل الصراعات مع الآخرين بعقلية الرفق الصادق وانفتاح العقل والنفس على المشترك الانساني؟

هذا ما سنناقشه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى...

 المهم ألا نترك أنفسنا  فريسة لجاهلية التطرف..

***

أ‌. مراد غريبي

في المثقف اليوم