قضايا

كولن ويلسون.. وجودية وسط الضباب

العام 1956 كانت سنة العجائب الوجودية ، ينشر سارتر مقاله " البحث عن طريقة " والذي مهد لظهور كتابه " الماركسية والوجودية " – ترجمه الى العربية جورج طرابيشي – وفيه اراد أن يبين موقف الوجودية من الفلسفة الماركسية، محاولا ان ينفي الادعاءات التي تقول ان الوجودية هدفها نسف الماركسية والحلول محلها، يقول سارتر " ان كل فلسفة تبني نفسها من خلال ظروف محددة لتعطي حركة المجتمع العامة تعبيرها " .. ويؤكد أن تاريخ الفلسفة يضم ثلاث فترات فلسفية كبيرة، وهي فترة جان لوك وديكارت، وفترة كانط هيغل، واخيرا ماركس .. ويشير سارتر الى ان لقب فيلسوف ينحصر في هذه الاسماء، اما شوبنهاور وبرغسون وكيركغارد وحتى سارتر نفسه، فهم واضعوا عقائد، مهمتهم تحسين الانظمة الفلسفية الاساسية، ولا يصح ان نسميهم فلاسفة لانهم مهما هدموا وبنوا يضلون يستمدون افكارهم من " الفكر الحي للاموات الكبار " على حد تعبير سارتر، وعلى هذا فان الوجودية ليست إلا عقيدة . انها " نظام طفيلي يعيش على هامش حصيلة المعرفة، عارض في البداية الحصيلة، وهو يحاول الاندماج فيها " – الماركسية والوجودية جان بول سارتر – وفي نفس العام يصدر البير كامو روايته " السقوط " وهي بيان على ان الوجود خاو لا فائدة ترجى منه، وجود لا تملأه سوى افعال لا معنى لها. فيما نشرت سيمون دي بوفوار مقال بعنوان "هل يجب أن نحرق ساد؟" اكدت فيه ان الوجودية الفرنسية ولدت على يد الماركيز دي ساد قبل 150 عاما من صدور كتاب سارتر " الوجودية فلسفة انسانية " .كانت الوجودية في تلك السنوات قد انتشرت في جميع انحاء العالم، والهمت الكثير من الشباب للبحث عن اشكال جديدة للحرية الشخصية، واصبحت افكار هايدغر وسارتر وكامو اكثر تاثيرا في اوربا، واستمدت الوجودية مكانتها من الاعمال الادبية التي طغى عليها صفة التمرد، وكان ان ظهرت مؤلفات وجودية مختلفة، كان واحدا منها كتاب صدر في العاشر من ايار عام 1956 بعنوان " الغريب " – ترجم الى العربية بعنوان اللامنتمي - لكاتب مغمور اسمه كولن ويلسون، كان قد احتفل بعيد ميلاده الخامس والعشرون في خيمة نصبها على بعد اميال قليلة من مكتبة المتحف البريطاني حيث واظب على الحضور الى المكتبة صباح كل يوم، يسجل ملاحظاته في سجل كبير استدان ثمنه من أحد الأصدقاء. كان عائلته تصفه بالحالم، بدا لزوار المكتبة بملابسه البسيطة وقصة شعره، وبدراجته التي يقودها اشبه باحد ابطال رواية سارتر دروب الحرية " ان اراء سارتر مؤيدة بتجاربنا المشتركة " – كولن ويلسون ما بعد اللامنتمي ترجمة يوسف شرورو- .

قال كولن ويلسون انه تعرض لازمة وجودية بعد صدور كتابه اللامنتمي، فقد اعطاه نجاح الكتاب جمهورا كبيرا من القراء، بالوقت نفسه تعرض لهجوم من النقاد الذين وصفوا الكاتب بانه مجرد جامع ملخصات، ولهذا وجد نفسه ضحية لنمط من انماط النخبوية الثقافية، ولفكرة ان الفرد يستطيع تحمل مسؤولية تطوره الذاتي، يقول ويلسون:" عند صدور كتابي اللامنتمي كنت وحيدا تماما بين اولئك الكتاب القلائل الذين اهتموا حقا بسيكلوجية الانتماء، وكنت الوحيد الذي يصرح: انني لا اهتم بالسياسة ن بل اهتم بالغقل البشري " – صراع الكلمة والوجود ترجمة محمد درويش - بعد عامين على صدور " اللامنتمي " يكتب كولن ويلسون ان الامل يراوده بان الفكر الوجودي سيصبح فلسفة شائعة في انكلترا وامريكا،ن وستوفر هذه الفلسفة حلا للعديد من المشكلات التي يعاني منها الفكر الفلسفي .

بعد الضجة التي احدثها كتاب " اللامنتمي " سخرت الصحافة البريطانية من كولن ويلسون ووصفته احدى الصحف بانه اشبه ببيضة مخبوطة مقلية . كان الشاب الذي سحرته رواية البير كامو الغريب، يتأمل في كتب الفلسفة والادب بحثا عن معنى للحياة، فعثر عليه عند مؤسس الوجودية كيركغارد الذي اعلن ان العصر الذي نعيش فيه هو عصر شقي لانه مجرد من العاطفة، ويخبرنا كولن ويلسون انه عثر على فكرة اللامنتمي عند كيركغارد رغم ان الفيلسوف الدنماركي لم يكن يعرف شيئا عن اللامنتمي على حد قول ويلسون الذي يستعير عبارة كيركغارد:" ان كل وجود انساني لا يعرف ذاته او روحه هو يائس، واهم من ذلك ان الانسان اليائس لا يحتاج الى ان يعرف انه يائس، بل قد يظن نفسه في منتهى السعادة " .كان كيركغارد في نظر كولن ويلسون رومانتيكي بقدر ما هو وجودي خائب " ضيع كثيرا من وقته مبالغا في مشاكله الشخصية الى ابعد الحدود " – سقوط الحضارة ترجمة انيس زكي حسن - .

كشف كولن ويلسون في سيرته الذاتية " حلم غاية ما " – ترجمة لطفية الدليمي أن والدته اخبرته انها حملت به قبل ان تعلن زواجها الرسمي من والده ، كان الاب شخصية حادة المزاج، يشعر بامتعاض لانه اجبر على الزواج، يملك شعورا بالحيف والمرارة بسبب الفقر، وكان يرى الثلاثة جنيهات التي يقبضها عن عمله الشاق في معمل للاحذية، تعويضا غير عادل .

ولد كولن هنري ويلسون في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 في مدينة ليستر، تعلق بوالدته التي كانت تقرا الكتب " بنهم "، وتلخص الكتب لابنائها، مولعة بقراءة روايات " د.ج.لورنس " والاخوات برونتي ان يتذكر ان علاقته بالكتب نشأت عندما سمع من والدته ذات يوم تلخيصا مثيرا لرواية اميل برونتي " مرتفعات وذرينغ "، في العاشرة من عمره يعثر على كتاب في الفلك يجعله يقرر ان يُصبح عالما، مما دفع والدته ان تهديه عدة كيمائية رخيصة الثمن لتنمية مواهبه:" حصل انني عندما اكتشفت العلم وانا في الحادية عشرة بالضبط شعرت بفجوة نفسية متعاظمة بيني وبين الناس حولي ؟، واندفعت في الحلم بيوم يرتقي فيه الانسان ليكون كالالهة كما حلم ويلز في بعض كتاباته " – حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي -

عثر على كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وهو في الثالثة عشرة من عمره، عندما رأى ذات يوم كتاب في المكتبة بعنوان " إرادة القوة "، ايقن انه وجد من يأخذ بيده الى عالم " العدمية " . في ذلك الوقت كان الشاب المراهق يؤمن أن الوصول الى الحقيقة يمر عبر الاكتئاب والشقاء، وكان نيتشه دليله: " اكتشفت أن الذي ساق الناس في الحقيقة كان إرادة القوة " – الكتب في حياتي ترجمة حسين شوفي – يسحره كلام نيتشه عن قوة الإرادة التي هي الدافع الانساني الاساسي.

في تلك السنوات لاحظت امه ان ابنها المراهق يغلق عليه غرفته كل مساء ليغرق في قراءة الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة .. كان قد تملكه احساس بعبثية الحياة التي يعيشها الانسان دون ان يدرك حقيقية الهوة التي تحت اقدامه " يكتب في سيرته الفكرية ان شعورا بكره الجنس البشري قد تملكه، وراودته افكار نيتشه حول الناس الضعفاء والمرضى وضرورة أن يحل محلهم أناس يتمتعون بالعقل السليم وقوة الجسد:" شعرت ان القديس الحقيقي جدير بان لا يكون محبا للبشرية، وإنما هذا الرجل الذي يريد ان يرى انقضاء عصر البشر وان يحل محلهم نوع من المخلوقات اقل عقما وغباء " . في الخامسة عشر من عمره يكتشف ويلسون مفهوم " الرجل السوبرمان "، عندما استمع الى مسرحية برنادشو " الانسان السوبرمان " تبث عبر اذاعة الـ "بي بي سي " .. سيشغله سؤال:" ما الهدف المرتجى من الحياة " ؟ يكتب ويلسون ان النموذج الذي يكافح برناردشو من اجل خلقه هو سوبرمان نيتشه الذي هو شكل اعلى من من اشكال الحياة . كان نيتشه قد اعلن:" أن الاقوياء، الأكثر قوة والأكثر شرا هم الذين ظلوا حتى الآن يدفعون اكثر من غيرهم بالانسانية نحو التطور: ظلوا يشحذون بصفة مستمرة جذوة طاقات الشغف الغافية " –العالم المرح ترجمة علي مصباح – يعلق ويلسون على عبارة نيتشه بالقول:" لقد راى نيتشه إن الانسان العبقري يجب ان يقلع عن اعتبار نفسه سيئ التلاؤم مع مجتمهع، او انه ضحية عبقرية تؤهله لان يكون مكتشفا للطريق .

يخبرنا كولن ويلسون بان حياته ارتبطت بامه ، كانت في التاسعة عشرة عندما ولد ابنها البكر " كولين هنري ويلسون " عاشت حياة زوجية مجهدة بعد ما اكتشفت طباع زوجها الخشنة، لكنها كانت امراة قوية تعشق القراءة، احبت كتابات د.ج.لورنس لانه تناول في رواياته مشاكل الفقر والاحباط الذي تعاني منه النساء، وكانت الام تضع ملخصات للكتب التي تقرأها، وذات يوم سيعثر الابن على ملاحظات كتبتها والدته عن رواية لورنس " ابناء وعشاق " اما الاب فانه لم يقترب من الكتب يوما، حاولت الام ان تجد في ابنها نوعا من التعويض عن الحياة البائسة:" بثت في وجداني حساسية مرضية تجعلني موضع ثقتها الذي تبثه احزانها " –رحلة نحو البداية ترجمة سامي خشبة – لم تكن والدته ترغب في الزواج ووجد والده انه غير قادر على ان يؤسس عائلة بسبب اوضاعه المالية المتدهورة . كان والد كولن ويلسون رجلا ريفيا بالولادة، لكنه عاش في المدينة، وظل يمني النفس بالعودة الى الريف، مثلما تمنى نيتشه ان لا يغادر القرية التي ولد فيها .

العام 1966 يصدر كولن ويلسون كتابه " تمهيد للوجودية الجديدة " – ترجمه الى العربية عمار الثويني – وكتب على الغلاف الأخير للكتاب:" هذه هي المساهمة الاولى المعتبرة للوجودية ينهض بها كاتب انكليزي " . يذكر كولن ويلسون في كتابه " رحلة نحو البداية " انه امضى اربع سنوات في تاليف كتابه " الوجودية الجديدة " حيث اعاد كتابته اكثر من مرة .

في الكتاب يصر ويلسون ان نيتشه هو المؤسس الحقيقي للوجودية الجديدة لانه هو من بشر بقدوم الانسان الخارق " السوبرمان " بتفاؤله الشجاع وبحماسه . ويحثنا صاحب اللامنتمي في كتابه الوجودية الجديدة على ان نصبح واعين بكل فكرة،وكل اعتقاد يدعم نظام قيمنا الشخصي .. وهو يرى ان الوجودية الجديدة تسعى لصنع علماً للسعادة، وتستحضر قوة الارادة، ويصنف فلسفتة بانها تفاؤلية:" التفاؤل هو الحافز الاساسي الآن للوجودية، بنحو يماثل لدرجة كبيرة الحافز وراء كل العلوم . الوجودية هي الرومانيكية، والرومانيكية هي الشعور ان الانسان ليس مجرد مخلوق " – تمهيد للوجودية الجديدة ترجمة عمار الثويني –

ظل كولن ويلسون يعتبر الفلسفة الوجودية بانها الاكثر اهمية من بين فلسفات القرن العشرين، لكنه ياأخذ عليها انها انحرفت عن مسارها الحقيقي بسبب كتابات هايدغر وسارتر وكامو التي تدعوا الى التشاؤوم حسب قوله، ولهذا لابد من وجود صيغة وجودية طابعها التفاؤل تكون ردا على النزعة العدمية للوجودية في نسختها الفرنسية ، وفي كتاب " تمهيد للوجودية الجديدة " نجد ويلسون يتفق مع سارتر و كامو في النظرة الى طبيعة الوجود البشريّ ولكنه يتقاطع معهما عندما يقررا ان الحياة تراجيديا عدميّة ولهذا:" لم تكن وجوديّتهما التي لطالما بشرا بها سوى استجابة عاطفيّة لتركيبتهما السايكولوجية الميّالة إلى التشاؤم" –حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي –

ونجده يعطي مفهوما آاخر للوجودية حيث يؤكد ان الهدف الاساسي من الفلسفة الوجودية كما يراها هو إثارة الوعي الإنساني بالإحساس:" ومن ثم إن الهدف الأساسي لا تكيف الإنسان مع مجتمعه، بل تكيف الإنسان مع ذاته ووجوديته، وذلك عن طريق بحثه وسعيه تجاه المعنى الذي يحمله الإنسان بداخله، والقدر الذي يحمله شعور المرء بالجدوى والهدف، كفيل به أن يتسبب في اتساع أفق الوعي الإنساني ضد محدوديته وشعوره باللاجدوى والعبثية " – كولن ويلسون أصول الدافع الجنسي، ترجمة يوسف شرور –

فالوجودية الجديدة تسعى لفكرة اثبات الحياة بعد ان تعرض ويلسون الى ازمة وجودية في حياته، ففي سيرته الذاتية " رحلة نحو البداية " يخبرنا بانه اقدم على الانتحار في سن المراهقة، ولكنه قرر أن لا يموت منتحرا . وعند لحظة اختياره الحياة مر بتجربة مثيرة:" لمحت ثراء الواقع الهائل الرائع، ممتدا الى آفاق بعيدة – رحلة نحو البداية - .

يرى ويلسون ان الوجودية الجديدة تمثل فلسفة المستقبل لأن هدفها صنع الانسان المثالي " انسان لم يولد بعد "، ومهمتها ان تحثنا على إدراك الدور الفعال الذي نضطلع به في بناء حياتنا . وهي – اي الوجودية الجديدة – تمنحنا القوة وتوقظ فيما طموحات معاني الوجود ونجلب المعرفة، وفضلا عن ذلك، فانها:" توقد وتمثل عودة الى كلمات مثبل (صحة) و(حرية) و(بطولة) و(امكانية) و(تفاؤل)، إنها فلسفة ديناميكية وعملية، وأداة يمكن تسخيرها " – تمهيد للوجودية الجديدة.

قال ويلسون ذات يوم إنه أصدر كتابه اللامنتمي لأن حياتنا في المجتمع الحديث هي تكرار لمشكلة بطل رواية الغريب لكامو: " النضال اليومي من أجل الحقيقة التي تختفي بين عشية وضحاها، والتي تقوضها التفاهات البشرية والتفاهة التي لا نهاية لها. "

في مقدمة كتابه سقوط الحضارة يكتب كولن ويلسون:" لقد كان في كتاب اللامنتمي شيء من الاعترافات الخاصة بتأريخي الشخصي، وذلك واضح لأنني انفقت معظم صفحات الكتاب محاولا ان اعثر في الاشخاص الآخرين على ما يبرهن على معتقداتي، وكان ولسون يؤمن ان كتابه اللامنتمي سيكون " هو الارض الخراب للخمسينات، وينبغي ان يكون اهم الكتب التي تصدر في جيله "، ويصر على ان اللامنتمي يريد ان يكون وجوديا حرا ومتفائلا، ولهذا يجد ويلسون ان جميع الناس يجب ان يكونوا لامنتمين ويؤكد انه لا يهدف الى:" ايجاد حل صحيح كامل لمشاكل اللامنتمي، وانما اهدف الى بيان ان مثل هذه الحلول، والمحاولات التي بذلت في سبيلها موجودة فعلا " .

تكتب ساره بكول ان كولن ويلسون:" بجرأته الوقحة وسماجته الكيركغاردية وفرديته المتقدة، يجسد روح التمرد الوجودي في اواخر خمسينيات القرن العشرين اكثر من اي شخص آخر – على مقهى الوجودية ترجمة حسام نايل –

في الخامس من كانون الاول عام 2013 تنشر صحيفة الغارديان خبر رحيل صاحب كتاب " اللامنتمي "، واصفة كولن ولسون بانه "العبقرية الأدبية الرئيسة في قرننا " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم