قضايا

رؤى مستقبلية للمجمع العلمي العراقي على ضوء المجامع العلمية العالمية

تسعى الدول التي تهتم بالعلوم وبرعاية علمائها وتحرص على سمعتها العلمية على إنشاء منظمة علمية عليا، تُسمى عادةً "أكاديمية العلوم" تكرس لنشر وتعزيز العلوم ومواكبة التطور في العالم. وفي حين أن هذه المنظمات قد لا تجري أبحاثا فعلية، إلا أنها توفر منتديات لوضع سياسات العلوم، وللنهوض بالبحوث العلمية، وتحفيز العلماء والباحثين، بالإضافة إلى تشجيع وتعزيز الدراسات في مجالات جديدة في العلوم والتكنولوجيا والانسانيات وفروع المعرفة الاخرى.

بما أن عضوية مثل هذه الاكاديمية لها أهمية قصوى وركيزة اساسية لعملها، فإن العلماء ذوي الجدارة العالية فقط، الذين قدموا مساهمات بارزة في النهوض بالمعرفة العلمية، ينتخبون كاعضاء فيها. وتعتبر الحكومة الاكاديمية العلمية (والتي يمكن تسميتها بالمجمع العلمي) مستودعا لأعلى المواهب العلمية المتاحة في الدولة ويتم دعمها واستشارتها بشكل عام في جميع الأمور المتعلقة بالتعليم والتربية والبحث والتطوير العلمي والتكنولوجي.

وظيفة الاكاديمية العلمية او المجمع العلمي

الأكاديمية او المجمع هو هيئة علمية عليا غير حكومية وغير سياسية يتكون من العلماء المتميزين في الدولة. تعتبر الحكومات المجمع مركز استشاري بشأن جميع المشاكل المتعلقة بتطوير الجهود العلمية والتربوية في البلاد، وبشكل عام بشأن المسائل ذات الأهمية الوطنية والدولية في مجال العلوم والتكنولوجيا. يتم تنظيم أجواء المجمع من خلال ميثاقه واللوائح التي يوافق عليها زملائه المنتخبون.

اهم وظيفة لاكاديمية العلوم هي رعاية جهود البحث العلمي لذا أرى أن المجمع العلمي العراقي الحالي هو المكان الاساسي لقيادة هذه الجهود. وهنا لابد من التأكيد على أن البحوث الذي يقوم بها الاكاديميون لابد ان تؤدي الى فائدة كبيرة لمجتمعنا ولذلك لابد من رعايتها من قبل المجمع العلمي.

البحوث العلمية والطبية والهندسية والاقتصادية وغيرها مفيدة للغاية باعتبارها بحوث تجلب فوائد غنية للاقتصاد والمجتمع ككل. في الواقع، وجدت تحليلات مختلفة أن البحث العلمي الأساسي الذي يتم إجراؤه في الولايات المتحدة ينتج عنه معدل عائد على الاستثمار المالي بين 20 و 50 بالمائة سنويا وهوعائد هائل مقارنة بالمساعي الأخرى.

تشبه أكاديميات العلوم والإنسانيات حتى الآن إلى حد كبير تكتلا متعدد الأنواع: بعض الأكاديميات تحصر نفسها في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة، والبعض الآخر يشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويقتصر دور بعض الأكاديميات على تنظيم الاجتماعات والمناقشات وتبادل وجهات النظر والآراء حول القضايا العلمية والنظريات ونتائج البحوث، في حين أن البعض الآخر له، بالإضافة إلى ذلك، وظيفة تقييمية واستشارية.

تتعلق بعض النصائح التي تقدمها المجامع العلمية بمسائل السياسة العلمية والتربوية  والاقتصادية، والبعض الآخر يهتم بالمشاكل الاجتماعية التي يمكن حلها من خلال تطبيق المعرفة العلمية المتاحة، ويتعامل البعض الآخر مع القضايا الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بتقدم العلوم والتكنولوجيا نفسها. لا تقدم بعض الأكاديميات المشورة بشأن (جودة) العلوم فحسب، بل لديها أيضا مهمة تمويل وطنية للبحوث العلمية، أو تتحمل المسؤولية الفعلية عن برامج البحث الضخمة، أحيانا داخل المعاهد الأكاديمية الخاصة. لذلك فإن التنوع وعدم التجانس هو السمة الواضحة في عالم الأكاديميات.

مع ذلك، لا تزال هناك مجموعة مميزة من الأهداف التي وحدت المجامع العلمية عبر التاريخ وفي انتشارها الجغرافي الحالي وهي محاولة تعزيز التفكير العلمي النقدي في المجتمع، والرغبة في النهوض بالبحوث العلمية عالية المستوى، وتعزيز استقلالية وحرية المعرفة.

التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي

وعلى ضوء ما ذكر اعلاه حول ميزات واهداف وواجبات الاكاديميات او المجامع العلمية الدولية ساحاول التركيز على اهم التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي وعلى السبل التي تنهض به كمرجعية علمية حقيقية.

1- للقبول في عضوية المجمع، يجب تطبيق المعايير العلمية فقط. لا ينبغي السماح لأي اعتبارات سياسية أو أيديولوجية أو اجتماعية أن تلعب دورا. قد تكون الصفات الإدارية والخبرة الإدارية داعمة، لكن لا يمكن أن تحل محل المقياس العلمي. لسوء الحظ، لم تكن عضوية المجمع العلمي العراقي خاضعة لهذا الشرط دائما . المجمع لم يكن دائما قادرا على مقاومة الضغط السياسي، أو الإكراه، كما يظهر التاريخ الماضي والحديث، وكما تؤكد عليه محاولات وزارة التعليم العالي ومجلس النواب في التدخل بشؤنه.

2- الخطر الذي يكمن في الصيغة الحالية هو أن الباحثين الأصغر سنا والمبدعين والمبتكرين ليس لديهم فرصة كافية لقبولهم. تتعزز خطورة النزعة المحافظة من خلال ثلاثة شروط: العدد المحدود للأعضاء وبقاءهم اعضاء حتى بعد وفاتهم، وعدم وجود فرصة لتحويل الاعضاء المسنين الى اعضاء فخريين.

3- نظرا للعدد المحدود من الأماكن في المجمع والتمايز المتزايد والتخصص في العلوم نجد الكثير من اصحاب الخبرة العلمية عالية الجودة خصوصا المغتربين خارج المجمع. من المهم للمجمع أن يكون قادرا على تفعيل مجموعة واسعة من الخبرات المتاحة داخل وخارج أسواره. تحل بعض المجامع هذه المشكلة عن طريق إنشاء فئة "طالب" أو "عضو مشارك". ويمكن دعوة البعض الآخر من المغتربين ليصبحوا أعضاء في اللجان الاستشارية أو مجموعات العمل. ومن المهم للمجمع أن يتوخى اقامة علاقات وثيقة بالمجامع العلمية والمؤسسات العالمية ككل.

4- كل المجامع العلمية خصوصا في الدول الغربية مستقلة وليس من حق الحكومة أو البرلمان التدخل في شؤونها مطلقاً، وتعتمد بالأساس على العمل التطوعي. الوضع في العراق يختلف تماما  وإذا استمر على حاله بسيطرة الحكومة على كل مقاليد الأمور ومفاصل الحياة الأكاديمية والعلمية، فانا أتخوف من كون المجمع هو الآخر سيبقى ضمن المحاصصة الطائفية والقومية خصوصا بعد أن أكد القانون على وجود رواتب ومكافآت وفشل في إيجاد آلية صحيحة لانتقاء الأعضاء. ولعل ما يؤكد تخوفي هي الشروط الهزيلة التي وضعها القانون لعضوية المجمع ولربما يعود إلى منح القانون عضو المجمع مكافأة مالية يحددها مجلس الوزراء، بالرغم من أنه عمل مناف لكل الأعراف الدولية في عضوية المجامع العلمية على أساس أن العضوية شرفية وليست تكليفية ولا يجب أن تتضمن أي تبعات مالية.

5- وضع آلية لإنتخاب أو انتقاء عدد محدد من الاعضاء ليكونوا نواة المجمع الجديد. بالنسبة للأعضاء المؤسسين فيجب أن تستند العضوية على كون المرشح متميزاً علميا وله عطاءات علمية كبيرة وذات تأثير فاعل في مجال اختصاصه، ومن أفضل العلماء العراقيين وبضمن شروط منها خدمة العلم والمجتمع العراقي على سبيل المثال، وان تتم المفاضلة على اساس التنافس وفق سيرهم الذاتية وتقوم بهذه العملية لجنة من 5 الى 10 علماء اجانب من اعضاء الاكاديميات العلمية العالمية. أما الأعضاء الجدد فيتم انتخابهم سنويا من خلال عملية طويلة بعد الترشيح وتخضع الى التصويت من قبل الأعضاء المؤسسين والحاليين وحسب عدد المقاعد الشاغرة. حاليا وحسب مسودة القانون الجديد، لا نعرف كيف يتم انتقاء الأعضاء؟ ومن ينتقيهم أو ينتخبهم؟ لربما الحكومة الحالية أو مجلس النواب !!! أملي ورجائي ألا يكون المجمع أداة بيد الدولة. إرجعوا إلى المجامع العلمية في أمريكا وبريطانيا وأوربا وستجدونها مستقلة تماما.

6- عدم تناسب اهداف المجمع العلمي العراقي مع متطلبات التطور العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي العالمي ك"مرجعية علمية" في القرن الواحد والعشرين، والتي لم تتعد مهمات أية كلية أو قسم في أية جامعة عراقية كمثل "مواكبة التقدم العلمي الحديث" و "التأليف والبحث والنشر".  لابد من تطوير المجمع لكي يتحول الى مرجعية حقيقية يقدم نصائح مستقلة وموضوعية للدولة لتحفيز التقدم وتطوير العلوم والهندسة والطب لصالح المجتمع وله ميزانيات محددة لتمويل البحوث والدراسات العلمية والجوائز للمبدعين والمبتكرين.

واخيرا، احب ان اكرر ما ذكرته في عدد من المناسبات بأن الصيغة الحالية للمجمع لا تناسب مفهوم مجمع علمي معاصر ولا تتماشى مع التطور العالمي في العلوم والتكنولوجيا والإنسانيات، كما أنها لا تساعد على تطوير العلوم والآداب والتكنولوجيا في العراق، وهي تختلف اختلافا جوهريا عن صيغ المجامع العلمية العالمية، وباعتقادي ليست صيغة متطورة كثيرا عن قانون المجمع عام 1995. قانون المجمع يهتم بالوظيفة الإدارية ويهمل الجوهر العلمي الشرفي والتقديري. إنه قانون مرتبك يحاول أن يجمع بين كونه مجمعا علميا ومجمعا يأخذ بالاعتبار وإلى درجة ما الطبيعة التعددية القومية واللغوية للعراق، وهو قانون لمؤسسة حكومية وظيفية يدفع "رواتب" لأعضائه على غرار جامعة أو معهد عالي، وليس كمرجعية علمية شرفية تقديرية لعلماء العراق المرموقين. لا بد من إعادة النظر في محتويات القانون لربما بالاستعانة بعلماء من أكاديمية العلوم الأمريكية والجمعية الملكية البريطانية، لكي يكون المجمع حقا مركزا لتشجيع الإبتكار والتأثير على عملية صياغة القرار في حقول المعرفة والتكنولوجيا، ومساعدا لتنشيط العلوم والآداب، وأسلوبا لزيادة الفرص للحصول على ما هو أفضل علميا وعالميا، ومركزا للإلهام العلمي وإثارة الرغبة في الإكتشافات العلمية.

***

محمد الربيعي

في المثقف اليوم