قضايا

في قدرة الإسلام على بناء أسس سردية جديدة للتفاهم

لقد عانى الإسلام طويلا من الإقصاء والتهميش وأدبيات الإستشراق قديما وحديثا دليل على ذلك، فهي عملت على تبخيس دوره الحضاري وعلى إخراجه من الفضاء المتوسطي وإلحاقه بديانات الشرق الأقصى متجاهلة حضوره القوي في إسبانيا وفي جنوب المتوسط صقلية. هذا الإستبعاد عمل البعض على "تأصيله" في مستوى العقيدة بنفي صلته باليهودية والمسيحية. فإلى حد الآن لا البحوث التيولوجية ولا تاريخ الأديان ولا فلسفة الدين إهتمت حقيقة بإدماج الإسلام في المصادر والأصول التاريخية وفي الآفاق الروحية التي يعلن القرآن بإلحاح ووضوح إنتماءه إليها كمسألة الميثاق l'Alliance وعلاقاته الوثيقة بالديانتين التوحيديتين.

1- مغالطات الإستشراق الجديد حول الإسلام:

إن الآراء والمواقف التي تعادي الإسلام وتعمل على إقصائه لا تزال تجد صداها في كتب العديد من المفكرين في الغرب، فالتصورات القروسطية تستمر في التحكم بأفكارهم ورؤاهم رغم ما بلغه الفكر المعاصر في الغرب من تطور ومن عقلانية لاسيما تلك المدارس التي تنظر للاختلاف والمغايرة. ورغم منجزها وخاصة تلك المدارس الفلسفية التي عادت إلى مسار الحداثة ونقدته وكشفت ما اعتراه من انحرافات، ما زالت هناك أصوات تدعو إلى التطرف وإلى الإقصاء وخطورة هذه الأفكار بل قل خطرها يكمن في أنها أصبحت تعتمد في صياغة استراتيجيات سياسية وضبط أهداف لأجندات دولية. يتحدث الفيلسوف البروتستانتي جاك إيلول Jacques Ellul قائلا: " إن المسلمين ليسوا سليلي إبراهيم لأن النبوة الحقيقية حكر على إسحاق فقط دون إسماعيل "(Jacques Ellul, L'Islam et le Judéo-christianisme ,ed PUF ,2004,p 75) . فحسب زعمه أن إسحاق هو من تلقى الميراث الإبراهيمي وهذا سعي لتكريس طلاق بائن بين الإسلام والحضارة اليهودية المسيحية وذلك حتى يحرم الإسلام من أن يكون وريثا شرعيا للمسيهودية التاريخية باعتماد قراءة للتوراة قائمة على نظام الاستبعاد والنفي ويذهب الفرنسي آلان بيزنسون Alain Besançon إلى أن: " الإسلام هو من الديانات الطبيعية ولا يمكن اعتباره من ديانات الوحي على الإطلاق" وذلك في كتابه " غوايات الكنيسة الثلاث، Trois tentations dans l'Eglise " وتهدف هذه الآراء إلى قطع الطريق أمام محاولات الكنيسة التقارب مع الإسلام في ما يعرف بجماعات" الحوار في فرنسا والتي ترى أن الإسلام يندرج ضمن التقليد الإبراهيمي كما تتمثله الكنيسة وأن القرآن هو بمثابة توراة ثانية أو كتاب مقدس ثان Deutro-bible وهو بالتالي مواصلة للكتاب المقدس المسيهودي.ه هذه الآراء يعتبرها بيزنسون زائفة ومضللة وتخفي جهلا بالإسلام وبأجندته العملية.(فوزي البدوي، من وجوه الخلاف والإختلاف في الإسلام، تونس دار المعرفة للنشر،ط1، 2006، صص 191- 192). لم يكتف الاستشراق الجديد بالتشكيك في معتقدات المسلمين فهناك شق آخر انصب اهتمامه على القرآن وهو توجه أطلق عليه، منذ خمسين سنة، في الأوساط الغربية أسم "الدراسات القرآنية " وحسب فراد دونر Fred Donner يبدو هذا المجال اليوم في حالة فوضى ( انظر فريد،م، دونر " القرآن في أحدث البحوث الأكاديمية، تحديات وأمنيات " ضمن رينالدز جبرائيل سعيد، القرآن في محيطه التاريخي،دار الجمل بيروت،2012، ص 59.) على الرغم من الاهتمام الواسع النطاق بالأسئلة عن أصل القرآن وتأويله، فإن دونر يرجع مؤاخذاته على الدراسات القرآنية إلى الأسباب التالية: أنه لا توجد نشرة نقدية للنص، ولا منفذ حر إلى كل الأدلة المفيدة عن المخطوطات، ولا تصور واضح للملامح الثقافية واللسانية للوسط الذي انبثق فيه ولا إجماع حول القضايا المنهجية الأساسية، علاوة على كمية مهمة من عدم الثقة بين الدارسين وعدم وجود تدريب مناسب لطلبة المستقبل حول القرآن على اللغات والآداب والتقاليد الثقافية غير العربية التي كانت – لا ريب – قد شكلت سياقه التاريخي. لم يبق لهذا المجال من بريق سوى الإثارة بحسب عبارة توفير Neurwirth نفسها وهي إثارة من نوع غير مسبوق فلم يعد القرآن مثيرا لأنه معجز أو فريد من نوعه بل صار مثيرا لأنه تحول، منذ سبعينات القرن الماضي، مع أعمال مؤرخين أطلق عليهم إسم المراجعيين révisionnistes السييىءالصيت، إلى نص مشكوك فيه شكلا (لغويا) ومضمونا (تاريخيا). هذه الإثارة الشكوكية صارت منذ ذلك الحين، حسب الأستاذ فتحي المسكيني انفعالا منهجيا إجباريا لدى الباحثين، وصرنا أمام انقسام رسمي، مكرس بين تيارين: تيار تقليدي وتيار " مراجعي "،فما تمت مراجعته على وجه التحديد ليس القرآن نفسه،بل طريقة التأريخ له .لأول مرة تصبح كتابة تاريخ نص ما أهم من دلالة ذلك النص. فهل يكفي أن نؤرخ للمصحف حتى نفهم القرآن؟ يذهب المسكيني في نقده للدراسات القرآنية بشقيها التقليدي والمراجعي إلى أن الكتب التوحيدية جميعا تعاني من الهشاشة الكونية نفسها، إنها تحتاج إلى تبرير ميتافيزيقي من نوع جديد متعلق بآداب العناية بالحياة على الأرض في القرون القليلة القادمة. لذلك تبدو الدراسات القرآنية عاجزة على تحقيق هذا الهدف فهي لن تساعدنا في بلورة علاقة فلسفية صحية أو حيوية، وليس فحسب هووية بالنصوص المقدسة، طالما هي منخرطة في نزعة مراجعية تحركها هرمنوطيقا بلا فن فهم، أو فيللوجيا ضغائنية ممتنعة سلفا عن تطوير أي وعود تأويلية موجبة مثل تلك المحاولات التي قام بها كريستوف لوكسمبورغ في كتابه،القراءة السريانية – الآرامية للقرآن، محاولة في فك شفرة لغة القرآن. ( لمزيد الاطلاع آنظر فتحي المسكيني، " الفلسفة والقرآن أو الإيمان في زمن المراجعيين " موقع مؤمنون بلا حدود، نشر في 05 نوفمبر 2018).

2- في بناء أرضية مشتركة للتفاهم: الإعتراف بالآخر وإستيعاب المختلف.

لقد هيأ القرآن الكريم الأرضية للإسلام ليكون الدين الخاتم القائم على تنسيب الحقيقة والإقرار بها لكل الأديان والمعتقدات وذلك من خلال تصديه لكل ادعاء بآحتكارها ولكل محاولات الاستحواذ على الإرث الإبراهيمي بغية اكتساب مشروعية يتم توظيفها للإقصاء والتهميش، لقد أعلن القرآن بوضوح لا لبس فيه أنه " لا إكراه في الد ين "(سورة البقرة، الآية 256) .إن تبني الإسلام لحرية المعتقد يعني الإقرار بإمكانية وجود لا دينيين أو ملحدين وهو ما يعبر عنه في التشريعات الحديثة ب" حرية الضمير" وهي تعني فيما تعنيه أيضاً التسليم بأن يكون الدين ظاهرة اجتماعية وثقافية وحضارية من بين ظواهر أخرى، عليه- أي الدين- أن يبحث عن صيغ للتعايش معها داخل المجتمع الواحد. هذا الوضع الجديد الذي يجد فيه الدين نفسه، عليه أن يفكر فيه بآليات جديدة. لقد فقد الدين أن يكون المحرك الوحيد للتاريخ وأن له وحده الحق في إضفاء المشروعية على المؤسسات التي يفرزها المجتمع.

إن الأديان في عالمنا المعاصر، عليها أن تكتفي بعرض عقايدها ورؤيتها للوجود وللإنسان على الناس كافة دون ادعاء بأفضليتها أو بأحقيتها دون غيرها في افتكاك الفضاء العمومي بل إن هذه الأفضلية والأحقية ينبغي أن يكتشفهما كل من أراد الالتحاق بهذا الدين أو ذاك عن اقتناع، عليها أن تمتنع عن الطعن في معتقدات الآخرين وقناعاتهم الفكرية والدينية أو أن تقلل من شأنها وأن لا تكره المختلفين عنها على الالتحاق بها. ينبغي أن نقر كل دين أو مذهب أو فكر على ما هو عليه، طالما أن معتنقيه قد ارتضوا به وأنهم قد وجدوا فيه من المعقولية والطمأنينة والسكينة التي اطمأنت لها قلوبهم وسكنت إليها نفوسهم وشعروا بها بالإمتلاء La plénitude على حد عبارة شارل تيلور Charles Taylor . كما أنه من حق الناس جميعا اختيار معتقدهم، كما لهم الحرية في تغييره شريطة أن يتم ذلك بآختيار نابع عن قناعة فردية ومن ضمير حر، غير خاضع لأي صنف من صنوف الإكراه ولا لأي نوع من الضغوط الاجتماعية أو السياسة أو الدينية أو الفكرية ليكون الفرد في النهاية هو ذاته التي وهبها الله له، ذات كما أرادها هو لنفسه حرة ومسؤولة.

إن انخراط الإسلام في مثل هذه الرؤى الرائدة والنجاح في ذلك يظل رهين مراجعة بعض التصورات والمفاهيم الموروثة عن العصور القديمة مثل الجزية وأهل الذمة والكتاب المهيمن...فالإنسانية كمفهوم كوني، أفق جديد يفتح أمام البشرية في الألفية الثالثة، يمكن للإسلام أن يلعب فيه دورا مهما بفضل ما يختزنه النص القرآني والأحاديث النبوية من معان إنسانية سامية يلتقي حولها الناس، إنها مبادىء تحترم الإنسان بما هو إنسان بقطع النظر عن عرقه ولونه وجنسه ودينه ولغته ويدافع عنها بما يمتلكه من جهاز تشريعي، تأكدا اليوم وجوب مراجعته على ضوء ما بلغه الوعي الإنساني من مراتب متقدمة وما بلغته المدونة الحقوقية في مستوى التشريعات والقوانين من تطور. إن الإسلام يمكن أن يكون قاطرة لحداثة مأزومة، خانت مباديها،فيصحح منجزها ويفتح لها آفاقا جديدة أكثر مصداقية في نزوعها الإنساني والكوني، فيكرس قيم العدل والمساواة والحرية والتضامن، وذلك بعد أن آستبعد لقرون من أن يلعب أي دور في الحضارة الحديثة وذلك لأسباب يطول شرحها.

***

رمضان بن رمضان

في المثقف اليوم